المخرج الكردي سروار محمد يقرع ناقوس الخطر
“حسن كيف”. . مدينة أثرية سوف تغمرها مياه السدّ العملاق
عدنان حسين أحمد
لم تجتز مدة الفيلم الوثائقي المعنون “كانت هناك مدينة صغيرة” للمخرج الكردي العراقي سروار محمد أكثر من “18” دقيقة لكنه قال أشياء كثيرة قد لا تستوعبها رواية كبيرة الحجم حيث رصد مجموعة من المتظاهرين في مدينة “حسن كيف” التركية التي تقع في إقليم كردستان الشمالية. وقد احتج هؤلاء المواطنون الذين ينتمون إلى جنسيات مختلفة بطريقة سلمية كي ينقذوا هذه المدينة الأثرية من الغرق، كما يحاول المحتجون انقاذ العراق من التصحر الذي سوف يتعرض له بعد سنوات من إنجاز سد “أليسو” العملاق الذي يُقام على نهر دجلة. لقد اتخذت المظاهرة طابعاً ثقافياً تمثل بالفنان التركي عدالت رضا الذي يعتقد أن هذا السد سيدمر حضارة وادي الرافدين لذلك قدّم لنا عدداً من الأعمال النحتية التي تحيل إلى حضارة وادي الرافدين وتستدعي منجزها الفني الكبير. ثمة مشاهد أخر تحيل إلى بعض الأعمال والمهن اليديوية التي يقوم بها بعض مواطني مدينة “حسن كيف” وعلى رأسهم النسّاج سعيد علي وبعض المواطنين الكرد الذين يعبرون عن تعلقهم بهذه المدينة الجميلة.
حضارات متعاقبة
ترتبط بلدة “حسن كيف” التركية بسبعِ حضاراتٍ قديمة فقد تعاقب على حُكمها وإدارتها الرومان والبيزنطينيون والفرس والأرتقيون والأيوبيون والآق قوينلو والعثمانيون. وعلى الرغم من هذا العمق التاريخي الموغل في القِدم إلا أن اسمها قد اقترن بسد “إليسو” منذ عام 1958 يوم انطلقت المناقشات الأولى بشأن إنشاء هذا السد العملاق الذي سوف يغمر هذه المدينة التاريخية التي تضم نحو “550” مَعْلماً أثرياً يعود فضل تشيّيدها إلى الحضارات السبع آنفة الذكر. كما سوف يسبب تصحراً في الأراضي العراقية ويفتك بالحرث والنسل على حد سواء.
تقع بلدة “حسن كيف” على نهر دجلة الذي يمرّ بمحافظة بطمان في جنوب شرقي تركيا. كان الأشوريون يشكلون الغالبية العظمى من سكانها، لكن الهجرة المتواصلة للمواطنين الكرد خلال الثلاثين سنة الأخيرة من القرى المجاورة لها غيّرت الموازنة العرقية فأصبح الكرد هم الغالبية العظمى فيها ويليهم الآشوريون ثم العرب. يعمل أهالي “حسن كيف” بالزراعة والتجارة والأشغال اليدوية، كما يدرّ عليهم الجانب السياحي بمصادر رزق متعددة، فقد أصبحت هذه المدينة قِبلة للسياح مذ بدأت المخاوف الجدية بغرقها في مياه هذا السد الكبير الذي سيبتلع كنوزها الأثرية رويداً رويداً.

تسمية أسطورية
ينطوي اسم “حسن كيف” على بعض الغموض، فقد أسموه العرب في أثناء سيطرتهم على البلدة عام 640م بـ “حصن كيفا”، غير أن هناك قصة أخرى لهذه التسمية الأسطورية التي رواها الأمير الكردي شرف الدين قبل 400 سنة في كتابه “شرفنامة” مفادها (أن حسناً قد حُكم عليه بالإعدام، وسُئل كالعادة عن رغبته الأخيرة قبل تنفيذ الحكم، فطلب أن يركب حصانه العزيز على قلبه، وما إن امتطاه حتى قفز الحصان على جدار القلعة الشاهقة وسقط في النهر حيث مات الحصان وهرب السجين الأمر الذي أثار دهشة الجميع فصاحوا بصوت واحد مُستفهمين “حسن، كيف؟”). ومنذ ذلك اليوم أخذت القلعة اسم حسن مع الصيغة الاستفهامية التي رافقت حادثة الهروب. وسواء أكانت التسمية الرومانية “Cephe” أو “Kiphas” فإن العرب حين بسطوا نفوذهم عليها أسموها “حصن كيفا”.
يجمع المؤرخون الأتراك بأن العصر الذهبي لـ”حسن كيف” يرتبط بمجيء الأرتقيين إلى الحكم في القرن الثاني عشر حيث جعلوا هذه المدينة عاصمة لهم. وقد بنى الأرتقيون والأيوبيون لاحقاً الجسر القديم على نهر دجلة، كما شيدوا القصرين الصغير والكبير في هذه المدينة التي تعاظم نفوذها لأهمية موقعها الجغرافي، وتطور أسواقها، وكثرة مخازنها التجارية التي كانت تستقبل البضائع لوقوعها على طريق الحرير. وحينما سيطر الأيوبيون على المدينة عام 1232م شيدوا الجوامع، وجعلوا من “حسن كيف” مركزاً إسلامياً مهما.
حينما احتل المغول هذه المدينة عام 1260 فقد نهبوها كعادتهم، لكن “حسن كيف” ستنهض من رمادها، وتتحول لاحقاً إلى مصائف لأمراء آق قوينلو. ثم جاء العثمانيون عام 1534 ليبسطوا نفوذهم على هذه المدينة ويتركوا بصماتهم الأثيرة عليها ويمتد زحفهم لاحتلال بطمان والموصل وبغداد والبصرة.
كهوف اصطناعية
لو وضعنا هذه المعالم الاثرية الكثيرة في “حسن كيف” جانباً والتفتنا إلى العدد الكبير من البيوت المحفورة على الحافات الحادة للجبال المطلة على النهر لوجدنا أن عددها يفوق الـ “5000” بيتاً “كهفياً” لأنها حقاً كهوف اصطناعية محفورة بأيادٍ بشرية تسترعي الاهتمام. لقد عاش أهالي “حسن كيف” طوال قرون عديدة في هذه الكهوف، بل أنهم لم يغادروها طوع أنفسهم، إذ صادف أن مرّ الرئيس التركي جودت صوناي عام 1966 في هذه المدينة فانصعق حينما شاهد قسماً من شعبه يعيشون في الكهوف فقال: ” كيف يمكن للناس أن يعيشوا في الكهوف حالياً؟ يجب أن تُبنى لهم البيوت فوراً”. وهكذا بدأ أهالي “حسن كيف” بالانتقال التدريجي إلى المنازل الحديثة التي بنيت على الأراضي المحيطة بالقلعة.

الكنوز الأثرية
تحتوي مدينة “حسن كيف” على عدد كبير من المعالم الأثرية الشاخصة، هذا ناهيك عن الكنوز الأثرية المطمورة تحت أنقاض المباني التي خلّفتها الحضارات السبع المتعاقبة، غير أن التركيز ما يزال منصباً على اثني عشر مَعْلماً رئيسياً وهي مخلفات الجسر والقلعة والقصرين الصغير والكبير وعدد من المساجد والأضرحة الصامدة بوجه الزمن وقساوة الطبيعة. يُعتبر الجسر القديم هو الأكثر جذباً للسياح الأجانب، فقد بُني هذا الجسر عام 1116م على نهر دجلة من قبل السلطان الأرتقي فهر الدين كاراأصلان، وكانت مادة البناء من الخشب وذلك لإمكانية رفعه في حال تعرض المدينة إلى هجوم معاد.
لم يُحدد تاريخ بناء القلعة التي شُيدت على ارتفاع مئة متر فوق النهر كي تكون مثل برج مهيمن على المدينة والنهر في آنٍ معا. وقد استُعملت هذه القلعة كمكان للسكن طوال قرون عديدة. أما القصر الصغير فقد بناه الأيوبيون وهو يُطل على الجُرف الصخري الحاد، بينما شيّد الأرتقيون القصر الكبير على مساحة واسعة هيمن فيها برج شاهق مستقيم يُستعمل للمراقبة. تزدان هذه المدينة بعدد من الجوامع أهمها الجامع الكبير الذي يُعتقد أنه يعود للحقبة الأيوبية، لكنه رمم ثلاث مرة كان آخرها عام 1396. أما مسجد سليمان الذي بناه السلطان سليمان فقد دُمر كله باستثناء المنارة التي لا تزال صامدة حتى يومنا هذا، كما تلاشى قبر سليمان من الموقع كلياً. أما المسجد الثالث في المدينة فهو مسجد كوج الذي يقع شرقي مسجد سليمان فقد بناه الأيوبيون أيضاً، وإلى شرقيّه شُيد جامع قزلار الذي يعود للحقبة الأيوبية. وإلى جانب هذه المساجد هناك عدد من الاضرية والقبور مثل قبر الإمام عبدالله، وهو الابن الأكبر لجعفر الطيار، عم النبي محمد (ص). يعود هذا القبر إلى القرن الرابع عشر، لكن المرثية المكتوبة على الشاهدة تبيّن بأن القبر قد رُمم في الفترة الأيوبية. أما الضريح الثاني فهو ضريح زينل بيك الذي يقع في الجهة المقابلة لـ “حسن بيك” المتحدّر من سلالة آق قوينلو التي حكمت المدينة في القرن الخامس عشر. وقد توفي زينل بيك في معركة 1473 ودُفن في ضريح دائري شيّده المعماري بير حسن. البناء يشبه في هندسته وطرازه أسلوب الأضرحة في آسيا الوسطى.
هذه وقفة سريعة أمام بعض الآثار الشاخصة التي لم يطمسها الزمان غير أن هناك المئات من المعالم الأثرية الأخرى التي لا نستطيع أن نسلّط عليها الضوء لضيق المساحة المتاحة لنا. إن كل هذه المعالم الشاخصة والمدروسة مهددة بالغرق والضياع لأن الحكومة التركية مصرة على المضي في إنجاز مشروع “سد إليسو” على الرغم من الاعتراضات الدولية، فقد وضعت مدينة “حسن كيف” ضمن مئة موقع تاريخي مُهدد بالخطر، كما أعلنَ عدد من البنوك النمساوية والألمانية والسويسرية الداعمة عن تعليقها للمساعدات وذلك لتأثيره على الجانبين البيئي والثقافي، وقد منحت الحكومة التركية مدة “180” يوماً لكي تستجيب لشروط البنك الدولي التي تتضمن حماية البيئة، وإعادة توطين الناس المهجّرين في القرى، وحماية الإرث الثقافي، والتباحث مع الدول المجاورة التي تتضرر من هذه المشاريع العمرانية التي لا تضع مصالح الدول المجاورة في الحسبان.

وعلى الرغم من التظاهرات والاحتجاجات المستمرة التي يقوم بها أناس مناصرون لحقوق الإنسان ومؤازرون للبيئة النظيفة إلا أن وزير الغابات والبيئة التركية فيصل إيرأوغلو قد صرّح “بأن تركيا ستبني السد على الرغم من كل العقبات. وقد أصبح هذا السد مشروع شرف”. وأضاف قائلاً: “نحن لسنا بحاجة إلى أموالهم، وسنقوم ببناء السد بأي ثمن”.
وجدير ذكره أن العمل بالسد قد بدأ في 5 أُغسطس 2006، وسوف يُفتتح في عام 2014، علماً بأن كلفة إنجازه تقدر ببليون وسبعمئة مليون دولار أميركي. ويبلغ ارتفاع السد “135” متراً، وسوف يغمر مدينة “حسن كيف” بكل معالمها الأثرية، فيما يؤثر تأثيراً سلبياً على المحافظات العراقية برمتها ويجفف أهوار الجنوب العراق كله. أما أعذار الحكومة التركية فتتمثل بثلات نقاط أساسية وهي توليد الطاقة، والسيطرة على الفياضات، والري، فيما يرى الكرد بأن غمر الأراضي الكردية هي سياسة منظمة تتبعها الحكومة التركية منذ ثلاثة عقود وقد هجّرت الأكراد من المناطق الساخنة للقضاء على بؤر التمرد التي تطالب بالحقوق القومية والثقافية، فيما تطالب شرائح كردية بحق تقرير المصير وإنشاء الدولة الكردية المستقلة. اللافت للنظر أن الحكومة العراقية لم تحرك ساكناً وكأن الأمر لا يعنيها فيما اتخذت بنوك أوروبية قرارات صارمة علقت فيها دعمها المعنوي وانتصرت للإنسان والبيئة في آنٍ معا.