يوم بعشرات الأوجه والحكايات

محمد موسى
إقتصرت عروض الفيلم التسجيلي الجديد “عيد الميلاد في يوم” على شبكة الأنترنيت، وبالتحديد موقع “اليوتوب” (وضع الفيلم قبل أيام على موقع الفيديو الأشهر في العالم)، مختلفاً بهذا عن فيلمي: “حياة في يوم ” والذي عُرض قبل عامين في صالات سينمائية، و”بريطانيا في يوم” من العام الماضي والذي بدأ رحلته الى الجمهور عبر شاشات التلفزيون. الفيلم الأول  أسس لعلاقة جديدة بين مخرجي سينما محترفين وأفلام يصورها ناس عاديين، فيما سار الفيلمان الآخران على الطريق ذاته مع بعض التخصص في الموضوعة والمكان. تختلف الأفلام الثلاث، والتي تحمل التركيبة نفسها التي تتلخص بتوليف أفلام أرسلها هواة حول العالم صوروها في يوم محدد، من جهة دوافعها الإنتاجية، فالأول في السلسلة كان من إنتاج شركة المخرج البريطاني المعروف رادلي سكوت، وبشراكة مع موقع “يوتوب”، وكان الهدف وقتها الصالات السينمائية ثم منافذ عرض أخرى مدفوعة الثمن، في حين كان التلفزيون (قنوات “بي بي سي”) خلف إنتاج الفيلم الثاني، لعرضه على شاشات المؤسسة البريطانية، أما الفيلم الثالث فهو من إنتاج سلسلة متاجر ” سينسبري ” البريطانية.

يختلف فيلم “عيد الميلاد في يوم” عن الفيلمين السابقين أيضاً، بأن الإطار الزمني والمحدد بيوم واحد فقط سيكون مرتبط بمناسبة أعياد الميلاد المسيحية، العيد الأهم في كثير من دول العالم. الفيلم يبقى في بريطانيا، ولا يوسع حدوده وكما فعل فيلم “حياة في يوم”، والذي قدم يوماً من “العالم”، هو بهذا يُشبه فيلم “بريطانيا في يوم”، في حَصِّر رقعته الجغرافية على الجزيرة البريطانية، هذا رغم إن المكان ضمن هذه التركيبة هو غير مهم كثيراً، فاليوميات التي يُسجلها الناس من حياتهم، لا تكاد في جوهرها تختلف كثيراً عما يجري في أمكنة أخرى في العالم، وخاصة عندما تتقاطع مع ثيمات معينة مثل الموت، والولادة والمرض، او في تسجيلها لعفوية أطفال.

كَشف كيفن ماكدونالد مخرج فيلمي “حياة في يوم” و “عيد الميلاد في يوم” (صاحب أفلام: الروائي “الملك الأخير في أسكوتلندا” والتسجيلي “مارلي”)، بأن شركة ” سينسبري ” لم تتدخل في الفيلم أبداً، لا في إختياراته لمادته الأولية، او الشكل النهائي الذي ظهر به الفيلم. سلسلة المتاجر هذه لم تفرض أيضا أن تحضر منتجاتها او شعارها في الفيلم، إسم الشركة سيكون في موقع اليوتوب فقط، كمنتجة للفيلم. والذي ربما كان الهدف وراء إنتاجه، تعزيز الصورة التي تملكها المحلات التجارية، كشركة مهتمة بالعائلة البريطانية، وإنها بتاريخها الطويل، تملك قيمة وجدانية لا جدال عليها لدى البريطانيين.

تُصنف سلسلة الأفلام هذه، وإذا جاز إطلاق عليها صفة السلسلة، ضمن أنواع الفيلم التسجيلي، من جهة توثيقها لأحداث من الواقع. بل  إن هذا الشكل من التوثيق يبدو الأقرب لروح التسجيل الصادق، بخلوه من تأثيرات حضور فرق تصوير الأفلام المحترفة المعروف واللاشعوري على تلقائية الشخصيات التي تظهر في أغلب الأفلام التسجيلية والمحيط الذي يحيط تلك الشخصيات. الأفلام البيتية هذه، تُصور في حميمية، ومن قبل أفراد من العائلة او أصدقاء، كما إن شيوع الكاميرات المتطورة النوعية، وتحول التصوير بها الى جزء من التقاليد الإجتماعية الشائعة، دفع كثيراً من نوعية المواد المصورة، ففيلم ” عيد الميلاد في يوم ” يكشف (وكحال الفيلمين السابقين)، عن مواهب ممتازة، وخبرة تشير لمحاولات وتجريب طويلين. لم يَّعد التصوير البيتي في السنوات الأخيرة، يعني دائما، تلك الصور المهتزة، والهوس بالمقابلات المرتبكة الصحفية الطابع، المتأثرة باسلوب التلفزيون، والذي ميز غالب المواد الفيديوية البيتية في الماضي. ساهم الأنترنيت، وبالخصوص ما يعرض على موقع “يوتوب”، في ألهام كثيرين للبحث عن مقاربات مختلفة لما يصوروه من أفلام بيتية، ووسعت التكنولوجيا، التي أضحت رخيصة وسهلة الإستخدام ، إمكانيات التصوير وفتحت التجريب على أشكال جديدة.

اليوم الذي يصوره فيلم “عيد الميلاد في يوم”، هو الخامس والعشرين من شهر ديسمبر (صور الفيلم في يوم عيد الميلاد لعام 2012). هو يوم غير عادي. حيث تجتمع الإسر والأقارب، ويعود الأبناء البالغون الى عوائلهم للإحتفال. يتنقل الفيلم بين مجموعة كبيرة من العوائل في ربعه الأول، مركزا على بهجة أطفال وإنتظارهم لحضور “بابا نويل”. الكاميرات تسجل المكائد البريئة التي دبرها بالغين لإخفاء هدايا أعياد الميلاد عن أطفالهم. يوم عيد الميلاد الطويل سيبدأ بفتاة تتنظر ولادة طفلها. إنها دورة الحياة التي تتوقف. الفيلم يتنقل بين شخصيات عديدة، أحيانا ضمن الدقيقة الواحدة. فيما يختار التمعن بشخصيات معينة في مشاهد مُلفتة بسكونها. فالعيد لا يجمع الجميع مع عوائلهم. هناك من أرسل أفلام عن وحدتهم في ذلك اليوم. سيدة تجلس وحيدة  أمام التلفزيون، لن تكشف الظروف التي جعلتها تقضي أعياد الميلاد بدون عائلة او اصدقاء. في مشهد آخر يظهر شاب عليل في مستشفى، محاط بالأهل. مشاهد اخرى تظهر بريطانيون ومهاجرون للبلد إختاروا أن لا يحتفلوا في العيد، لتجد الأفلام التي أرسلوها مكاناً لها ضمن المشهد العام لبريطانيا اليوم.

مع الزمن الذي يحكم تتابع المشاهد في فيلم “عيد الميلاد في يوم” (يبدأ من منتصف ليلة الخامس والعشرون والى منتصف الليلة التالية)، هناك أيضا تقاليد يوم عيد الميلاد نفسه، والتي ستشير الى إنقضاء الزمن في حياة شخصياته. فالنهار يبدأ بإستعدادات وجبة الطعام، وهذا الأول ينقضي بالعوائل تجلس على موائد الطعام والشراب. تقطع المشاهد تلك، أخرى غير مألوفة بسياقها وروحها. كتلك لمسنين في دور رعاية، بعضهم كان يحتفل  بعيد ميلاد إحدى الساكنات في الدار، والذي صادف يوم الخامس والعشرين نفسه. كما يتابع الفيلم، يوم العمل في مزرعة للبط، والصعوبة التي تواجهها المالكة للمزرعة بذبح حيواناتها في ذلك اليوم، بسبب العلاقة التي تنشأ كل مرة بينها وبين تلك الحيوانات.

من التفاصيل التي نشرت عن  الفيلمين السابقين، صرنا نعرف إن سلسلة “…. في يوم” تجذب مشاركات تصل الى الآلاف. المخرجون وفرقهم الفنية يختارون من ضمن المواد المصورة التي يستلموها مجموعة محدودة فقط. رغم المهمة الصعبة للمخرج في مشاريع تعتمد على مواد صورها آخرين الا إن كيفن ماكدونالد بخبرته التسجيلية والروائية المهمة، يجد وسط طوفان الصور نفسه الخاص. دور المخرج هنا، هو إختيار أفضل الأعمال وحسب معايير معينة أهمها ذائقته الشخصية ، ثم يعمل على إيجاد الإيقاع المناسب لتقديم اليوم الخاص الذي صوره بريطانيين. العمل في هذه الأفلام يجري في غرفة المونتاج فقط. مئات الساعات تدخل الى غرفة المونتاج تلك، وتخرج منها ساعة او ساعة ونصف من المادة المصورة المتينة والملهمة وأحيانا الشديدة التأثير، كحال الفيلم الأخير، الذي يبدو أكثر مناسبة للعرض التلفزيوني وحتى السينمائي في أيام أعياد الميلاد، من عشرات الأفلام الهوليوودية الروائية النمطية عن المناسبة ذاتها. كما إن هذا الإتجاه في إنتاج أفلام تسجيلية، بطلب من ناس عاديين توثيق لحظات معينة من حياتهم، ربما يتحول الى إتجاه مهم في صناعة السينما التسجيلية في المستقبل، وفي تشكيل الصورة التي نحملها عن أنفسنا والذين يحيطون بنا.


إعلان