وثائقي فرنسي تخيّلَها ك”كعب أخيل”

هل ستُفلس الأزمة اليونانية الوحدة الأوربية؟

قيس قاسم

الأزمة اليونانية في وثائقي أوليفر توسكر، أبعد ما تكون عن كونها أزمة اقتصادية مؤقتة بل تتعدى هذا التوصيف الى أزمة أعمق تمس جوهر فكرة اقامة الوحدة الأوربية وآليات عملها التي ربما ستنتج مستقبلاً أزمات ممثالة مما سيؤدي الى افلاسها، وانهيار مقاومات جسدها القوي حالها، وكإستعارة رمزية مستوحاة من الأسطورة اليونانية، حال البطل أخيل حين عجزت مياة نهر ستيكس من حماية جسده. لقد غمرت مياهه كل جسده إلا كعب قدميه، فأصبح هذا المكان من الجسد نقطة ضعفه الوحيدة وسبب موته، كما يتوقع الوثائقي الفرنسي “الأزمة اليونانية: افلاس الأوربية؟” أن تصبح اليونان، لا أسطورتها، “كعب أخيل” أوربا، وستكون سبب موت وحدتها!
يقترح علينا توسكر قراءة الأزمة اليونانية بإرتباطاتها السياسية، الداخلية والخارجية، التي سبقت دخولها الوحدة الأوربية، وبشكل خاص علاقتها مع فرنسا التي أسهمت وبعد نهاية الحكم الديكتاتوري فيها، أواسط السبعينيات، الى احتضانها بوصفها “البلد الملهم للفكر الأوربي”. لقد تحمس الرئيس الفرنسي السابق جيسكار ديستان أكثر من غيره من رؤوساء أوربا الى دعم النظام الديمقراطي الجديد لأسباب فكرية وشخصية: على المستوى الفكري كان ديستان طموحاً لإحداث تغييرات كبيرة على الخارطة الأوربية منذ وصوله الى قصر الاليزية عام 1974، وشخصياً ربطته علاقة بالزعيم السياسي كرامانيلس الذي كان منفياً في فرنسا.

اوليفر توسكر

قبل عودته الى بلاده بعد نهاية الحكم الديكتاتوري فيها، على متن طائرة رئاسية فرنسية كتب عليها “الجمهورية الفرنسية” لتصبح رمزاً لتعاون مستقبلي بين البلدين، ولتاريخ جديد سيكتب بعد شهرين من هبوطها، حين دعي ديستان الى زيارة اليونان الذي سينبهر بموروثها الثقافي وسيندفع أكثر لمساعدتها في أن تكون جزءاً أساسياً من “الجماعة الأوربية”، بغض النظر عن مؤهلاتها الاقتصادية، وستغلب فكرة عدم تخيل أوربا موحدة بدون وجود “جذرها الفكري” على حقيقة ضعف حالتها الاقتصادية لتزرع بها نواة المشاكل مستقبلاً. يراجع الوثائقي المواقف المعارضة منذ البداية لضم اليونان الى وحدة أقوياء أوربا، وفي مقدمتها الموقف الألماني الذين كان يرى في وجود اليونان بينهم مصدراً لمشاكل مستقبلية لها ولهم ولكن حذاقة اللسان الفرنسي كانت، وفي كل مرة يشتد فيها النقاش، تبدد المخاوف وتزيد من القناعات بأهمية وجود اليونان في قلب أوربا. إذن الموقف السياسي والشخصي كان يلعب دوراً كبيراً منذ البداية في حسم الكثير من المواقف المتعلقة بقضايا التعاون الأوربي وسيمتد لاحقاً تأثيره على الوحدة الأوربية، ومعه سيظهر ما يمكن وصفه “بالطفل المدلل” كوجود حقيقي داخلها. لقد وعت اليونان جيداً لهذا الوجود وراحت تتحرك وفقه لا وفق مباديء “افلاطون”، فأنتهجت نهجاً ملتوياً خلال كل مراحل تقاربها ودخولها الاتحادات الأوربية على اختلاف مسمياتها.
رأت اليونان في الاتحادات الأوربية “كنزاً” يسد عجزها وعملت كل ما يمكن عمله من أجل الانضمام اليها حتى لو لجأت الى الغش. لقد اعتمدت وطوال تجربتها مع أوربا على مبدأ تقديم أرقام وهمية تشير الى تأهلها للوقوف بين الكبار. في المقابل لم يراجع قادة أوربا ولا بنوكها تلك الأرقام لأسباب غامضة لدرجة شجعت الوثائقي على وصفهم ب”المسحوريين”، وعلى هذه الوقائع راحت اليونان تستثمر وجودها فأزدهر اقتصادها خلال الثمانيات بفضل حجم الاستثمارات الأوربية الهائلة فيها والتي استحوذت لوحدها على أكثر من 10% من مجموع كل استثمارات دول أوربا، ومع دخول البرتغال واسبانيا “المجموعة الأوربية” وجدت الصادرات اليونانية من الفواكه والخضروات نفسها تتنافس معهم ما دفع “EG” الى تقديم مساعدة لها فاقت ال30 مليار دولار. وخلال التسعينيات ومع ظهور فكرة “الوحدة النقدية الأوربية” ظلت اليونان محافظة على نفس الروح والحماسة للبقاء في هذا الاطار الذي كان يجلب لها ذهباً، مع كل الشكوك التي بدأت تظهر حول عدم أهليتها لعضوية الاتحاد. هذة المرة سيتدخل شيراك بدلا من ديستان ليقنع أعضاء “معاهدة ماستريخت” لضم اليونان اليهم. لم يلتفت أحد للأرقام التي قدمتها حكومة اليونان الى المعاهدة وقبلوا بها كحقيقة، مع انها بُنيت على أوهام. لم تقدم اليونان ولا رقماً صحيحاً عن حجم العجز في ميزانيتها، وكانت بديونها الهائلة تبني ازدهاراً كاذباً، جعل الناس خلال السنوات الأولى من الألفية الجديدة يعيشون في بحبوبة معتمدة على القروض: دخل سريع وسهل يوفر حياة مريحة بدون جهد. سيستمر الأمر هكذا حتى عام 2004، حين ستبدأ البنوك الأوربية بدق ناقوس الخطر حول حجم الديون اليونانية، ومع هذا استمرت الدولة بتقديم ميزانياتها السنوية وكلها تشير الى تحسن في النمو الاقتصادي.

كيف لم يسترع انتباه أحد الصحوة غير المنطقية للطالب الكسلان ليصبح واحداً من أكثر طلاب صفه اجتهاداً؟ الحقيقة التي يثبتها الوثائقي ان الألمان كانوا الأكثر وعياً وحذراً من “الحالة اليونانية” وسيضطر بنكهم المركزي خلال عام 2004 وبشكل منفرد الى اعلان تحفظاته على الأرقام المقدمة في الميزانية اليونانية الى البنوك الأوربية ومعها سيفتح الباب لأسئلة ستقود لاحقاً الى كشف الكذبة الكبيرة.
ما يهم الوثائقي كان في الدرجة الأولى كشف ضعف آلية عمل البنوك المركزية لدول الوحدة الأوربية وأيضاً عدم جدية قادتها في التدقيق والمحاسبة، فهمهم الأول كان منصباً على جني منافع لدولهم من الوحدة بأكبر قدر مستطاع، لدرجة أغفلوا خلال انشغالتهم تلك، تلاعبات غيرهم. كل طرف كان يسحب الحبل اليه وكانوا يريدون تعزيز مكانتهم، ولهذا ومع الوقت ظهرت الصورة الحقيقية لهكيلة الوحدة الأوربية: الأقوياء يحكمون الضعفاء ولا يهمهم كيف يتصرف الأقل منهم شأناً، ما دامهم يحققون ما يريدونه من الوحدة التي فصلوها وفق مقاييسهم. العنصر الشخصي والحماسة والانحياز الفكري كلها عناصر تلعب دوراً في سياسية الوحدة وعليها اعتمدت اليونان في تمرير خدعها. ستجتمع كل هذة العناصر حين ستبرز الأزمة اليونانية التي راح كل طرف يرمي بأسبابها على الطرف الآخر. لكنهم وحفظاً على وحدتهم وعلى مصيرها قبلوا بإخراج محافظهم وسحب المليارات منها لدعم اقتصاد البلد المدلل المنهار. لقد ظهر الانهيار أولا في اليونان نفسها حين أعلن وزير ماليتها قبل عامين عن حقيقة العجز في ميزانيتها وبعدما انسحب بالكامل على المواطن نفسه الذي وجد نفسه عاطلاً عن العمل وعاجزا عن دفع الديون مثل دولته التي كشف الوثائقي انها اتفقت مع بنك “غولدن ساكس” على استلاف قروض منه مقابل دفعها فوائد عالية تخفي بها عجز ميزانيتها الفعلي والذي بلغ 13% . لقد وجد الأوربيون أنفسهم أمام مأزق لا حل لهم فيه سوى دفع تعويضات “غش” اليونان” لهم، والذي سيصل الى حوالي نصف ترليون يورو خلال الأربعة عقود القادمة. فشل جماعي يحاولون تبريره عبر حصر المشكلة باليونان وحدها، لكن الوقائع التي كشفها الوثائقي بالأرقام تقول أن “كبش فداء” واحد لن يغير واقع حال الوحدة الأوربية ولا سيحسن من أوضاع الناس في بلد سيظل يعاني من آثار الأزمة لعقود طويلة بسبب فساد حكوماته ولا أبالية قادة وحدة أوربية يفترض بها أن تعادل قوة الولايات المتحدة الأمريكية في الطرف الثاني من الكرة الأرضية.


إعلان