“كارن” الحس الإنساني العميق

درويش درويش
“استخدمْ جلدي عندما تبرد وكُلْ لحمي. لكن عليك أن تقسم أولاً أنك ستحمي وتطعم أطفالي” هذا ما تقوله الذئبة للولد الذي يتوه في “جحيم” البرد والثلج في مكان مقفر وعاصف، في فلم الرسوم كارن “Carn” للمخرج “جيف لي بارس”.
تبدو هذه المقايضة كتلك التي نسمعها من جداتنا في القصص الشعبية والبسيطة السهلة، ذات المغزى المؤسس للتكوين الأخلاقي لدى من يتلقاها. العبرة الكامنة في لعبة حكاية تصل بسهولة واختصار إلى هدفها وتنغرز فيه عميقاً، باستقامة ودونما مجال للنقاش، وكأن ذلك بحكم تكوينها وصقلها وبنيتها الناتجة عما يشبه “الاصطفاء الطبيعي” عبر زمن طويل لا يُعرف متى بدأ.
“هذا هوَ الثمن مقابل أن تبقى على قيد الحياة، وإذا رفضتَ ذلك اغربْ عن وجهي ومُتْ من البرد” تقول الذئبة الجريحة الموشكة على الموت، والنازفة دماً أحمر على الثلج، الثلج الذي يجيد “جيف لي” تغييرَ لونه، أو بالأحرى قلبَه إلى نقيضه، ليصبح أسود باتكائه على لعبة الظل وتغيير منظور الكادر السينمائي ليصبح مصدر الضوء في الخلفية.
يجذبنا الفيلم معه لننساق وراء سهولةٍ خادعة وفق الرؤيا المشار إليها أعلاه، بما يتعلق بانطباع “الحكاية” البسيطة، لتفاجئنا “التفاصيل” تباعاً، إذا لم نقع حتى النهاية في فخ “السهولة”.
ذلك الولد، الكتلة الصغيرة البيضاء الضائعة في ذلك الصقيع، في أول لقطة من الفيلم، يمشي بصعوبة ويكاد يهلك كما تظهر لقطات لاحقة أقرب، تجسيدٌ يشعرك بشفقة ضاغطة تجاهه، لا تكاد تستطيع الفكاك منها حتى نهاية الفيلم. هكذا وفي ذروة لحظات إنهاكه تخرج الذئبة الجريحة إليه بكامل مظهرها المرعب، لتقدم له عرضها “أنت ضائع. وستموت من البرد. أنا أحتضر. أولادي الصغار سيموتون بدوني. اقتلني….”.

سيواجه بطلنا في ظرفه ذاك هذا العرض، وسيكون عليه أن يقرر، هل سيقتل الذئبة ويقتات من لحمها ويتدفأ بفروها مقابل أن ينقذ أولادها الصغار؟ بينما يفكر، ينقلنا المخرج إلى مكان آخر؛ أهل الولد وأمه يبحثون عنه، ثم يعيدنا إلى مكان رعب الفتى الذي يقرر على مرأى “منا”: “وافقتُ”.
سيدور السؤال في ذهن المتلقي في المستوى الأول، عن مصير ومستقبل الرهان والمقايضة التي أبرمت بين الطرفين، وهل سيوفي بعهده، وسنتخيل مسبقاً علاقة الولد بالجراء الصغيرة وما هو فاعل بها.
هكذا تستسلم الذئبة لمصيرها، وتضطجع على الثلج في انتظار أن يغرس الولد في قلبها غصناً اقتطعه من شجرة، برأس غير مدبب كفاية ليقتل بألم أقل.
سيتابع الأهل بحثهم عنه، وسيتابع هوَ ما بدأه فيأكل لحم الذئبة ويلتحف بفروها، وسنتابع نحن انتظارنا وتوقعنا لما سيسفر عنه العهد والقسم الذي بذله للذئبة قبل أن “يرديها”.
لن يطول بنا الأمر حتى يتجه بوجهه المدمى جارّاً وراءه الفراء الذي يغطيه، نحو وكر الجراء الصغيرة المنتظرة عودة أمها، ولن تطول –بعد أن تخرج الجراء الضعيفة لتواجهه- مدة مراجعته لعهده فيشمئز سريعاً من العبء الجديد ويغادر المكان راكضاً، تاركاً الجراء وحدها في ذاك الرعب.
ولن يطول الأمر أيضاً حتى يقابلَ أهله الباحثين عنه، أثناء هروبه ذاك، ليطل عليهم من فوق مرتفع طفيف والشمس وراءه فيتراءى لهم كذئب أسود مرعب بعيون لامعه. وعندما يركض نحو أهله الذين لم يتعرفوا عليه تسحب الأم البندقية من يد زوجها المتردد وتطلق النار على الذئب المندفع نحوهم.
حسب المستوى الأول في متابعة الفيلم/الحكاية فإننا سنفسر النتيجة على أنها العقاب العادل لحنث الولد بوعده، وبتركه للجراء العاجزة وحيدة دون أمٍّ أكلَ هوَ لحمها، وتدثر بفرائها. كأي حكاية شعبية ذات مغزى مباشر: واحد زائد واحد يساوي أثنين.
لكن ما قتْلُ الولدِ بيد أمه إلا نتيجة نافلة، وقد حسم الأمر منذ “زمن بعيد”، وقضي على الولد سابقاً وقد نال عقابه الأشد من القتل، ذلك أنه لم يخطئ عندما حنث بوعده، بل سقط بمجرد لفظه لعبارة “قبلت” بعد أن حسم خياره. يتجلى ذلك من لون وجهه الأسود عند تلفظه بها، ومن إغماضة عين الذئبة المخذولة عند سماعها موافقته، ومن ثم تلطخِ وجهه بدماء لحمها، وقد بدأ يتحول في مظهره ليشبه هيئة الذئب رويداً رويداً قبل أن يترك الجراء وحيدةً.
السقوط الإنساني المتواري بالمعنى العميق للكلمة، هوَ ما رصده وكشفه وحاكمه “جيف لي بارس” بأن تحول البطل هنا إلى ذئب، فاقداً “إنسانيته” عندما تخلى عن واجبه الإنساني بأن يسعف الذئبة وأولادها معاً وهي التي كانت في حالٍ أسوأ من حاله.
“كارن” فيلم قصير لا يتجاوز طوله خمس دقائق، محبوك بعناية ملفتة بلغة سينمائية متينة.


إعلان