الإيديولوجي والجمالي في الأفلام الوثائقية العربية
وسيم القربي – دبي
يطرح الحديث عن الفيلم الوثائقي في العالم العربي عدة إشكالات جوهرية سواء على مستوى الخطاب الفكري والجمالي أو على مستوى حضور هذا الجنس الإبداعي في المهرجانات الدولية. لقد عُرف الفيلم الوثائقي بارتباطه بالواقع وهو ما يجعل الصور الفيلمية بمثابة مرآة المجتمع اليوم ورسم لعلاقة جدلية بين التقنية والجمالية والمضامين الفيلمية. وقد كان حضورنا في لجنة تحكيم الفيلم الوثائقي العربي في مهرجان دبي السينمائي فرصة للاطلاع على مستوى الوثائقيات من مختلف البلدان العربية في مدينة العالم… دبي.
1- المضمون الإيديولوجي في الأفلام الوثائقية العربية:
نادرا ما استطاعت السينما العربية أن تفرض وجودها في المهرجانات العالمية باعتبار أنّ ممارسة الفن السينمائي لم تبلغ بعد مرحلة النضج في ظل العوائق والإكراهات الإنتاجية من ناحية والنزعة التجريبية والبحث عن إنضاج الوعي الفني من ناحية أخرى. وعلى عكس الأفلام العربية استطاعت بعض المهرجانات السينمائية في العالم العربي أن تبلغ درجة عالمية على المستوى التنظيمي وأن تصنف ضمن المهرجانات الأولى في العالم ومن بين هذه البنيات الإبداعية يمكن أن نذكر مهرجان دبي السينمائي. بالإضافة إلى قيمة الضيوف الحاضرين والقيمة المضافة للأفلام التي يُعرض أغلبها للمرة الأولى عالميا، فإنّ تخصيص مسابقة للفيلم الوثائقي العربي هو بمثابة الاعتراف بقيمة هذا الجنس الإبداعي الذي أصبح يحتل موقعا مهمّا في السينما اليوم. لكنّ ما يُثير الاهتمام هو تنوع الأفلام الوثائقية العربية وحملها لمضامين معرفية وفكرية وجمالية متعددة، ولعل أبرز ما يمكن أن نستقرأه في أفلام هذه الدورة هو طغيان الطابع الإيديولوجي من ناحية ومحاولة التجديد الجمالي من ناحية أخرى. في السابق كان الفيلم الوثائقي في السينما العربية مجرّد مجموعة صور فلكلورية تتحاشى كل ما هو سياسي خشية لعوائق التصوير والخوف من الرقابة المحلية، أصبحت السينما الوثائقية اليوم بمثابة الاحتفاء بالربيع العربي، بل إنّ أغلب الوثائقيات التي جاءت في المسابقة كان أغلبها يتناول مضمونا إيديولوجيا بامتياز ويمكن أن نستخلص أهمّ المحاور التي تمّ تناولها:
– ثورة الربيع الديمقراطي:

اهتمّت بعض الأفلام في المسابقة بفترة ما بعد الثورات العربية ونذكر بالخصوص أفلاما وثائقية من البلدان التي شهدت الثورة مثل فيلم “الميدان” للمخرجة جيهان نجيم من مصر الذي يركّز على رحلة في خبايا الثورة المصرية من خلال الشباب الذي يوثّق للأحداث عبر الوسائل الحديثة لمقاومة الاستبداد والقمع وهي صور للنضال من أجل الحرية والديمقراطية في ظلّ صراعات جديدة بين المجتمع المدني ومجتمع الخوان المسلمين. من جهة أخرى تناول الفيلم التونسي “الحيّ يروّح” وقائع من الثورات العربية بدءا بالثورة التونسية والليلبية والمصرية واليمنية وصولا إلى الأحداث في سوريا، وقد ركّز المخرج على مهنة الصحفي وتغطيته للأحداث خلال الثورات، وقد نجح الفيلم في توثيق الخطر الذي يتربّص بمهنة الصحافة من خلال القمع البوليسي وردّة فعل المواطن الثائر تجاه الصحافة وتهديدات الميليشيات للصحفي الذي يجتهد لنقل الخبر دون أن يعلم إن كان سيعود حيّا أم ميّتا، وقد أبرز الفيلم صورا مؤلمة لموت المصور الفوتوغرافي الفرنسي لوكاس في تونس ومصرع نيكولا وريمي في سوريا. من جهة أخرى سلّط فيلم “بيت التوت” للمخرجة اليمنية سارة إسحاق الضوء على عودة فتاة من المهجر لتشهد وقائع وتتطورات الثورة في صنعاء والفيلم هو بمثابة حالة من الترقب قبل أن تتخلص البلاد من الديكتاتورية…
– القضية الفلسطينية:
اتخذت القضية الفلسطينية حيزا هاما في المواضيع المعالجة في مضامين الأشرطة الوثائقية حيث عالج فيلم “حبيبي بيستناني عند البحر” على أحلام الأرض المتناثرة هنا وهناك وعلى آمال معلقة، أما فيلم “البحث عن ساريس” فقد كان بدوره رحلة بحث عن الهوية وتذكير بمآسي التهجير.
– الحرب الأهلية اللبنانية:
اهتمّت مجموعة أخرى من الوثائقيات بالحرب الأهلية اللبنانية وفوضى الشارع حيث ترتكن الطائفية في مجموعة من الأحياء الشعبية البيروتية. فيلم “أرق” يكشف لنا عن تعقيدات الحياة الاجتماعية في لبنان وانعكاسات السياسي على الأمن الاجتماعي حيث يتحوّل “حي اللجا” إلى منطقة محظورة على غير سكان الحي… من ناحية أخرى تطرّق فيلم “ميراث” لفيليب عرقتنجي إلى ثنائية الهجرة والعودة من خلال الاستقرار في فرنسا طورا والرغبة في العيش في لبنان وهو ما جعله يعيش الاغتراب ويبحث عن هويته الضائعة.
– القضايا الحقوقية:
عادة ما تعالج الأفلام الوثائقية السينمائية مواضيع سينمائية حسّاسة، وهو ما تطرّق إليه الفيلم المتوّج بجائزة الفيبريسي خلال مهرجان دبي، الفيلم بعنوان “يوميات شهرزاد” وقد استطاعت زينة دكاش المخرجة المتخصصة في العلاج بالدراما أن تخترق بصورها عوالم صعبة. عالم سجن النساء “بعبدا” في لبنان حيث تسرد لنا الصور قصصا مأساوية لحياة السجينات اللواتي اقترفن أخطاء أوصلتهن إلى عالم الظلمات. وقد حاولن ممارسة المسرح داخل السجن لنسيان الهموم.

إنّ هذه المحاور التي تطرقت غليها مجمل الوثائقيات العربية هي انعكاس للواقع الراهن، هي صور تجسّم أشكالا من الصراع الفكري وهي إيديولوجية المبدع السينمائي الذي يصارع اليوم إيديولوجية المجتمعات العربية وإيديولوجية السياسىة القمعية عبر مجموعة من المكونات الفنية والجمالية. ولعلّ أهمّ ما يمكن أن نستخرجه من خلال مشاهدتنا هي قتامة المشهد العربي اليوم في ظلّ الأزمات والصراعات الإيديولوجية سواء من خلال البعد السياسي أو الديني أو الاجتماعي… إنّ إيديولوجية السينمائيين الشباب تلوح إيديولوجيا مخالفة للإيديولوجيا السياسية الرسمية وهي صورة من المقاومة الثقافية في ظلّ الإنفراج الديمقراطي بعد نشوب الثورة في أولى بلدان الربيع: تونس.
2- الدلالة الجمالية في الفيلم الوثائقي ورهانات الصورة الجديدة:
لقد أتت المضامين الفيلمية للوثائقيات العربية مشبعة بالأحداث التاريخية والحراك السياسي ومشاهد اليومي وبصمات الهوية. إنّ التوثيق في العالم العربي لم يغطي إلى حدّ الآن إلا جزءا قليلا من المواضيع الهامة والمتراكمة التي تزخر بها المنطقة العربية، ويعود ذلك إلى النشأة الجديدة للإنتاج السينمائي الفاعل وقلة الوعي بأهمية التوثيق وضعف الإمكانيات المخصصة للصورة.
إنّ الفيلم الوثائقي هو نزوع إيديولوجي بامتياز حيث عادة ما يكون بمثابة المحرّك للواقع، لكنّ الأفلام الوثائقية السينمائية جاءت في غالبها احتفاء بالسوداوية والقتامة والحزن. تمّ التعبير عن هذه الإيديولوجيا المهيمنة بجماليات متعددة حيث انتهج مخرج فيلم “ميراث” تجريب أسلوبية سينمائية جديدة عبر اعتماده على تقنية الخلفية الخضراء ومزج صور أرشيفية بصور عائلية، كما أدمج صور شخصيات من الحاضر داخل صور أرشيف قديم ليجعل من ذلك إيحاء بالتجوّل في أغوار الماضي. يمتزج الزمن ويلتقي الحاضر بالماضي ليجعل من الأمكنة مكانا واحدا.
كما تمّ الاعتماد على حركة الكاميرا كمحمل جمالي للصور الفيلمية مثل فيلم “طيور أيلول” حيث لم تتوقف الكاميرا عن الحركة من خلال استقرارها داخل عربة تسير من بداية الفيلم إلى نهايته، وهو ما يحيل على البحث… الكاميرا تنتقل داخل أرجاء مدينة بيروت لتخلق حركة للإطار وحركة داخله. في سياق آخر اعتمد فيلم “الحي يروح” على الكاميرا المحمولة وعلى المشهد الذاتي في نقل صور الحرب ومحاولة نقل الواقع بأدق تفاصيله، فالكاميرا ترتعش لتنقل في بعض الأحيان صورا غير مفهومة وأخرى تشابه صور الهواة لكنها تزيد من رونق صور الثورة وتنعش الإحساس بالواقعية.
يمكن أن نذكر أيضا السرد الذي تمّ استغلاله كواجهة للصراع الإيديولوجي لمواجهة السائد ومحاولة تحقيق نوع من الواقعية الإبداعية، فبعض الأفلام اعتمدت كتابة إبداعية سائدة وأخرى حاولت التجديد والمراوغة عبر مجاورة المتخيل للواقعي وإدماج الحلم مع الحقيقة وتداخل الوثائقي بالروائي على غرار الفيلم الجزائري “لوبيا حمراء”. أما في فيلم “يوميات شهرزاد” فقد اختارت المخرجة تعبيرية الصمت لتنقل صورها المعاناة داخل السجن، ومن خلال هذه الصورة الصامتة استمعنا إلى ضجيج الصمت… الصمت في الفيلم الوثائقي هو ذلك الإيقاع الهادئ والموسيقى المعبّرة والكلمات المتقطة، معها تختلج الكاميرا لتحملنا إلى غياهب الألم.

لقد اختلفت الأنماط والصيغ التوثيقية، ولعلّ ما يمكن أن نلاحظه في مجمل الوثائقيات العربية في هذه الدورة من مهرجان دبي السينمائي هو أنّها صوّرت بشكل محايد بعيدا عن الطابع الفلكلوري واستنساخ ما سبق، وجاءت في غالبها مشحونة بالقضايا الشائكة ومحاولات التجديد على مستوى المعالجة الفيلمية.
إنّ الجماليات التي تمّ اعتمادها ترتبط بالإيديولوجيا الجديدة وهو ما يمكننا اليوم من الحديث عن صورة مغايرة وعن اتخاذ السينما العربية لمفهوم جديد يجعل للوثائقي اليوم وظيفة السلاح الإيديولوجي وإنضاج الوعي الفني وفضح التعتيم المنتهج في سائر البلدان التي تقمع حرية الإبداع. بعيدا عن الصورة الرسمية والواجهة السياسية التي تصوّر لنا أنّ كل شيء بخير، لم يعد الوثائقي مجرّد نقل لصور الحرب كما في الماضي بل أصبح اليوم أداة لحرب الصور في عالم محاصر بالصور، ومع اندلاع الثورات العربية لم تعد هناك خطوط حمراء في البلدان التي شهدت الثورة في حين تمّ التصريح للباقي من المخرجين في الدول الأخرى أن يصوروا بعض القضايا الحارقة لتجاوز أغلال الماضي. يبقى الوثائقي جامعا بين الإيديولوجيا والجماليات لكنه في نفس الوقت خطاب فكري أثبت الجيل الجديد من الشبان أنّهم قادرون على خلق صورة وثائقية جديدة في ظلّ اغتناء المنطقة العربية مواضيع يمكن توثيقها لترسيخ زخم إبداعي جديد قد ينسينا المزالق النكوصية وانتكاس السياسة الثقافية في بلداننا. بقي أن نشير إلى أنّ الوثائقيات جاءت سوداوية في ظل مجتمعات تحتفي بالأحزان لكن هيمنة الإيديولوجيا على الصورة هو علامة صحية في ظل الحراك الهوياتي والسياسي ومصارعة ذهنية التحريم، وبالتالي تكون الصورة المنقولة وثائقيا هي صورة حقيقية لليومي في المجتمعات العربية.