التانغو الأخير في تكريت

محمد موسى

مُمثل ومُخرج أمريكيان، حققا أبرز إنجازاتهما السينمائية في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، في الزمن الذي كانت هوليوود تنتج بين الفينة والأخرى أفلاماً فنيّة جريئة من خارج منظومتها التجارية السائدة، هذان الأمريكيان سيلتقيان في مدينة كان الفرنسية، للتحقيق في حال الصناعة السينمائية الأمريكية اليوم، وسيبدان من تلك المدينة، التي تحتفل بالثراء وتُمجد الأموال ويَمِّر على سِّجاد مهرجانها مخرجون وممثلون وممثلات من كل الأنواع، رحلتهما للبحث عن تمويل لمشروع فيلم روائي، تُشَّكل الحرب الأمريكية في العراق في عام 2003، خَلفيتة النفسية والدرامية. تلك الرحلة ستكون موضوع الفيلم التسجيلي “مغوي ومَتروك” للمخرج جيمس توباك.

ليس من المؤكد إذا كان صاحبا المشروع: الممثل أليك بالدوين والمخرج جيمس توباك، جادان بخصوص مشروع الفيلم الروائي، أم إنه كان مدخل فقط لسَبر أغوار الصناعة السينمائية وأحوال الإنتاج في الولايات المتحدة الأمريكية. الأمر الذي جدال عليه إن كلا الرجلين هما من المعجبين كثيراً بفيلم الإيطالي برناردو برتلوتشي “التانغو الأخير من باريس” (يتضمن الفيلم مقابلة مع المخرج بمناسبة عرض فيلمه الأخير في مهرجان كان وقتها)، والذي يبدو إنه يُشَّكل جزءاً من الحامض السينمائي النووي لكلاهما، الى الحد الذي جعل عنوان مشروعهما المقترح هو تحيّة لا تشوبها شائبة للفيلم المعروف. هناك دلالة واضحة في إختيار هذا الفيلم بالتحديد، فهذا الأخير شَّكل حالة فنية خاصة وقتها (عرض في عام 1972)، اذ هَزَّ بعنف مفهوم النجم الهوليوودي، فمارلون براندو الذي قام ببطولة الفيلم، لم يكتفي فقط بترديد الكلمات النابية التي سمعها منه الجمهور لأول مرة، هو هشم تلك الصورة الإحتفالية للبطل، ووصل بحدود  الشخصية التي قدمها الى مديات غير مسبوقة من المكاشفة والجرأة وسَّلبها “رجولتها” السينمائية التقليدية، في دور ألهم كثير من الممثلين والمخرجين الأمريكيين من أجيال لاحقة.

سيفتح مشروع فيلم ” التانغو الأخير في تكريت” (المدينة العراقية التي ولد في ريفها رئيس النظام العراق السابق صدام حسين)، الأبواب على قضايا سينمائية متنوعة. فالرفض الذي يواجهه المشروع سيكون مُتعدد الطبقات، بعضه له علاقة بحال السينما اليوم، ورفض الشركات الكبيرة تمويل أفلام غير واضحة المعالم، من جهة الجمهور الذي تتوجه له. كما إن أسباب تخوف وتردد شركات ومستثمرين لها علاقة اساسية بالنجوم الذين من المفترض أن يقوموا بالأدوار الأساسية في الفيلم، فهناك من كَشف بدون تحفظ إن ” أليك بالدوين “، والذي من المُقرر أن يقوم ببطولة الفيلم الروائي، لم يَّعد يجذب الجمهور الكبير، كما إن عمله في السنوات السبع الأخيرة في مسلسل كوميدي أمريكي ناجح، حوله الى ممثل تلفزيوني ولم يَّعد يصلح للسينما. شركات سينمائية من دول يتعاظم في السنوات الأخيرة أهميتها الإقتصادية لهوليوود (روسيا والصين)، لَمَحت إن فرص الدعم ربما ستتضاعف إذا تمت الإستعانة بنجوم محليين من تلك الدول في الفيلم الروائي المزعوم. كما يكشف الفيلم التسجيلي إن موقف شركات الإنتاج في هوليوود لم يتبدل في جوهره في تعامله مع النجمات، وإن الشباب والجمال والنجومية الراهنة مازلت المعايير الوحيدة في إختيار الممثلات في عاصمة السينما في العالم. وهي المعايير التي تتحكم بحدود كبيرة أيضا في ترتيب الممثلين في بورصة النجوم الرجال في هوليوود.

يختار الفيلم التسجيلي أن يطلق تجربته التحقيقية في مدينة كان الفرنسية، وأثناء مهرجانها الشهير (صور الفيلم قبل عامين). لا يوجد مكان مثل “كان” يجمع الأضداد السينمائية، فالمهرجان الذي يُوفر أهم منصة لعرض الأفلام الفنيّة والمحدودة الإنتاج و التجريبية، جنباً الى جنب مع أكبر سوق للسينما في العالم. السوق هنا ليست مجازية فقط، فسوق الأفلام الذي يُنظم في وقت المهرجان، هو مَقصّد كبرى شركات الأفلام في العالم. قُرب السوق الجغرافي  من صالات عروض المهرجان ، لا يعني أبداً، إقتراب “رؤوس المال” من صناع السينما المختلفة، فالمسافة لازالت شاسعة بين هؤلاء. أحد المنتجين الإسرائليين عبَّر في لقاء مع الفيلم عن كرهه للسينما الفنيّة، والتي لا يشاهدها أبداً، فالأفلام، لهذا المنتج، تعني تلك التي تجذب الجمهور الكبير، وليست التي تُعرض لأقرباء مخرجي تلك الأفلام وأصدقائهم فقط، كما وصف. سيواجه المخرج وصديقه الممثل الخيبات في “كان”، لا أحد يرغب في إنتاج فيلمهم المزعوم، رغم التنازلات التي سيقدموها، والتي ستأخذ طابع ساخر كوميدي، يكشف عن هوس وأحيانا ضحالة، من يتحكم بذائقة الجمهور الواسع في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم.

رغم إن مشروع الفيلم الروائي هو الذي منح الفيلم التسجيلي مساراً تحقيقياً خاصاً، الا إن التركيبة وصلت سريعاً لطريق مسدود فنيّاً وإستنزفت  قوتها وهدفها، وصرف الفيلم التسجيلي كثير من وقته بتقديم مشاهد متشابهه بسايقها وأجوائها وخواتمها، فالاجتماعات مع المنتجين تنتهي النهاية نفسها تقريباً. برفض هؤلاء الإشتراك في إنتاج الفيلم، والذي بالتاكيد لا يأتي كمفآجأة لأليك بالدوين و جيمس توباك، او حتى للجمهور، فليس غريباً أن تُشَّدد الشركات السينمائية من شروطها للتمويل، فهذا دئبها منذ بدايات السينما. الذي تغيير هو تركيز الإستديوهات العملاقة في الأعوام الأخيرة لدعم أفلام الأجزاء المتعددة والمأخوذة عن الكتب المُصورة، في مقابل تجنبها الغوض في مغامرات الأفلام الفنيّة وأفلام المخرج المؤلف. كما لم يهتم الفيلم في البحث عن مصادر إنتاجية أخرى، مثل صناديق دعم الثقافة والسينما في اوربا والعالم ، رغم أهمية هذه في إنتاج معظم الافلام الفنية المُختلفة التي نشاهدها منذ عقود.

في مقابل تسجيل رحلة أليك بالدوين و جيمس توباك للبحث عن النقود، يُقدم الفيلم مقابلات ممتعة كثيراً مع اسماء سينمائية معروفة من عالم الأخراج او التمثيل، والذين جمعهم مهرجان كان السينمائي. هذه المقابلات لن تنتمي دائماً لإتجاه الفيلم التسجيلي التحقيقي والذي إنشغل بالجانب الإنتاجي، لكنها ستكون مناسبة جديدة للتعرف على تفاصيل وخبايا الصناعة السينمائية، او التحديات التي يواجهها المشتغلين بالسينما، فهي تغوي بسحرها وأزليتها، المخلصين  لها، ثم تَصّدهم بقسوة أحياناً، كما يصف أليك بالدوين في منآجاة مؤثرة في مقدمة الفيلم. كما إن أي مناسبة لسماع حديث مخرجين من أمثال : مارتن سكورسيزي و رومان بولانسكي و فرانسيس فورد كوبولا، والتي يوفرها الفيلم التسجيلي هذا، هي فرصة لا تعوض لعشاق السينما من كل الإتجاهات.


إعلان