السينما العربية: تاريخها ومستقبلها ودورها النهضوي
تونس- أمـــل الجمل
“السينما العربية: تاريخها ومستقبلها ودورها النهضوي” كان عنوان الندوة التي أُقيمت في مدينة الحمامات بتونس تحت إشراف الناقد السينمائي اللبناني إبراهيم العريس، والتي نظمَّها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع المعهد السويدي بالأسكندرية وذلك على مدار الفترة الممتدة بين 17- 20 ديسمبر 2013.
شارك في الندوة اثنان وعشرون من الكتاب والباحثين الأكاديميين والمؤلفين الموسيقيين ونقاد السينما من مختلف أقطار الوطن العربي ومن بينهم كاتبة هذه السطور التي شاركت بدراسة عن “السينما وصورتها في ظل إشكالية النظرة العربية/ الإسلامية إلى الصورة التي بلغت حد التحريم أحياناً، مع ذلك نجحت السينما في تجاوز ذلك لجُملة من الأسباب منها؛ أن التحريم لم يكن أبداً بالإجماع، وكان دائماً محل خلاف، خصوصاً أن البيئة العربية قبل الإسلام – وعلى الأخص شبه الجزيرة العربية – لم تكن تهتم بالتصوير من الأساس، بل لم تكن ماهرة في أي فن آخر بقدر مهارتها في فن القول، حيث البلاغة الكلامية مُجسدة في فن الشعر. وهذا على عكس دول آخرى كان لديها تقاليدها الراسخة في فن التصوير مثل بلاد الرافدين وسورية وإيران، أو كما في الحضارة الفرعونية التي برعت في فن النحت والعمارة والرسم. فالواقع الحضاري الثقافي والاجتماعي في بيئة صحراوية يختلف عنه في بيئة وصفها هيرودت “بأنها هبة النيل”. ولا شك أن طبيعة الحياة في الصحراء وحياة العرب في شبه الجزيرة العربية المعتمدة أساساً على الترحال والتنقل لعبت دورها في تشكيل ثقافة تلك المجتمعات الرعوية ومبادئها المنحازة للحرف. صحيح أنه كان موجود منها النزر اليسير قبل الإسلام، لكن العصر الجاهلي لم يُبدع أي تصاوير كتلك التي ظهرت عند الأمم الآخرى وفق آراء كُثر من المؤرخين. ولعل انشغال الأمة العربية في جاهليتها بالحرف وابتعادها عن التصوير كان له أثره فيما بعد حين اكتنفها الإسلام.

على صعيد آخر يُثبت التاريخ وجود تصاوير تنتمي إلى العصر الإسلامي. كما أن تلك التصاوير الفنية التي تم إبداعها في ظل الخلافة الإسلامية تكشف أن عدداً من الخلفاء المسلمين كانوا على وئام مع بعض الفنون كالموسيقى والغناء، فجدران قصورهم كانت مزينة بصور لعازفين. وأحمد تيمور باشا في كتابه التصوير عند العرب يذكر أنهم وجدوا على جدران قصر الحير الغربي، وهو القصر الذي كان لهشام بن عبد الملك، صورة لمغنيتين؛ الأولى تنفخ بمزمار، والثانية تضرب بمرهب الخشب على عود ذي خمسة أوتار.
بالإضافة إلى أن مجموعة من علماء الأزهر ورجال الدين المستنيرين أكدوا أن الصورة حلال، ومنهم الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية الأسبق والشيخ محمد رشيد رضا الذي أكد أن “التصوير ركن من أركان الحضارة”، وكذلك الإمام محمد عبده الذي وقف وقفة تاريخية في الدفاع عن الإسلام وعن الفنون والجمال مُؤكداً أهمية التصوير، وأنه حلال، نافياً تحريم الإسلام له، خصوصاً عندما اشتدت الهجمة العدائية الشرسة ضد الفنون الجميلة في بدايات القرن العشرين.
لا شك أن السينما تجاوزت تلك الإشكالية والقضية الخلافية، ليس فقط بسبب الثورة التكنولوجية الهادرة التي كان من المستحيل الصمود أمامها، خصوصاً عندما تُصبح في متناول أيدي الطبقات الدنيا، وليس فقط لأن السينما سارت على درب طويل جداً من التجارب والابتكارات والإبداعات في محاولات مستميتة للحفاظ على جمهورها، ولكن أيضاً لأنه لم يكن هناك تحريم قاطع للصورة يُجمع عليه الفقهاء، كما أنه لا يُوجد نص قرآني يُقرّ ذلك مثل تحريم الخمر مثلاً.
قُدر للسينما إذن – بكل سطوتها ونفوذها الشعبوي والفني والفكري، والترفيهي أيضاً – أن تنجح في قهر التحريم، ومع ذلك هو انتصار يُمكن وصفه بأنه إلا قليلاً، أو إلا صورة، لأنه لايزال هناك شخصيات يُمنع تجسيدها على الشاشة، وهى الأنبياء والصحابة، وذلك منذ معركة فيلم “حب الأمير” 1926 الذي يدور عن الرسول محمد (ص) الذي كان سيقوم ببطولته يوسف وهبي ويخرجه وداد عرفي. أُجهض المشروع بعدما أثار من حوله جدل زادت حدّته وتنوّعت أطرافه، وتدخل الأزهر بحجة أن الدين الإسلامي يحرم علينا أن نصور الأنبياء. وهو الأمر الذي لازال قائماً حتى الآن حيث يمنع تصوير أي عمل يُجسّد شخصية الأنبياء والصحابة العشرة المبشّرين بالجنة، وأشهر قضية في القرن العشرين في هذا الصدد تخص “المهاجر” ليوسف شاهين الذي رفض الأزهر سيناريو فيلمه عن النبي يوسف الصدّيق، فقام شاهين بتعديل السيناريو وتغيير أسماء الشخصيات فأجازته الرقابة، لكن الفيلم تم ذبحه أثناء العرض وظل طريد المحاكم على مدار خمس سنوات بسبب السلطة الدينية والإرهاب الفكري إلى أن صدر حكماً نهائياً برفض تلك الدعاوى. نفس الإشكالية واجهها فيلم الرسالة للمخرج مصطفى العقاد عام 1977، والغريب في الأمر أن حكم رجال الدين الذي يُقرر أن تصوير الأنبياء “ممنوع وغير جائز شرعاً” يصفه عدد من الكتاب الإسلاميين – ومنهم فهمي هويدي – بأنه مبالغة لأنه لا يوجد نص قرآني، أو حديث شريف أو إجماع من الفقهاء يُحرم تصوير شخصيات الأنبياء.
تسعة عشر بحثاً
أتاحت الندوة فرصة لقاء عدد من المفكرين والكتاب والمثقفين التونسيين مثل خميس الخياطي والناصر الصردي، وكمال الرياحي ومحرز القروي والمؤلف الموسيقي ربيع الزمّوري، والدكتور الطاهر لبيب صاحب الكتاب الشهر “سوسيولوجيا الغزل العربي” والملقب بزوربا التونسي. تنوعت البحوث المشاركة – والتي سيتم إصدارها في كتاب قريباً – فبلغت تسعة عشر بحثاً، إلى جانب عدد من المعقبين عليها أثروا النقاش من حولها بمداخلاتهم وأفكارهم ومنهم المخرج الأردني عدنان مدانات، والناقد العراقي السويدي قيس قاسم، والكاتب اللبناني وليد نهويض، والمنتج السينمائي التونسي نجيب عياد، والدكتور رياض قاسم، والناقد التونسي الناصر الصردي، والكاتب السعودي إبراهيم بادي، والصحفية المصرية نسرين الزيات، والكاتب السوداني عبد الرحمن نجدي.

تضمنت البحوث عناوين مثل: “راهن السينما العربية” للناقد اللبناني نديم جرجورة والذي تناول محاولات تجديد الفيلم الوثائقي وكيف أن بعض الدول رغم عراقة زمنها السينمائي لم تُحصَّن كثير من نتاجاتها من الوقوع في الاستسهال والتسطيح والتجهيل والفوضى، بينما بلدان آخرى مغتربة عن السينما أخذت تحتضن تجارب ومحاولات سينمائية جديدة وكأنها تنقلب على أقدارها، في حين تحدث الناقد الفلسطيني بشار ابراهيم عن “حصيلة القرن الأول من عمر السينما العربية”، وتطرق الناقد المغربي مصطفى المسناوي إلى إشكالية التأريخ في السينما العربية، بينما شارك المخرج العراقي قيس الزبيدي بدراسة عن السينما والتليفزيون، وجاءت مساهمة المخرج المصري محمد القليوبي تحت عنوان: “السينما في كل بيت.. نحو التقدم أم الذوبان؟” وتمثلت مشاركة فيكتور سحاب في دراسة عن “السينما والنص الموسيقي”، كما قدم عازف العود العراقي نصير شمة محاضرة على مدار ساعتين عن تجربته في التأليف الموسيقي للأفلام، وأثار الكاتب كمال الرياحي مجددا إشكالية السينما والنص الأدبي، بينما تناول علي سفر السينما المستقلة واحتمالاتها، وطرح خليل الدمون رؤيته للمسار الجديد للسينما في المغرب في ظل التمويل والإنتاج المشترك خلال السنوات العشر الأخيرة، وجاءت مساهمة عصام زكريا بعنوان “السينما في عالم متحرك” متناولاً فيها المشهد السينمائي المصري منذ اندلاع الثورة حتى الآن، بينما تناول أستاذ الفلسفة – المغربي – محمد نور الدين آفاية المراوحة بين سينما القضايا وسينما الفرد، ومن الأردن تطرق الدكتور صباح ياسين إلى السينما العربية من زاوية الإعلام والأنساق التعبيرية، أما موليم العروسي فانصب تساؤله الجوهري على: مَنْ صنع مَنْ: السينما والمتفرجون؟ كما قدمت المخرجة المصرية المقيمة في ألمانيا فيولا شفيق محاضرة شيقة مصحوبة بلقطات ومشاهد فيلميه مثيرة للنقاش بعنوان “ثقافة الأفلام في حالة ثوران: مصر وتونس في أيام الثورة”. على صعيد آخر انتصرت دراسة الناقد السينمائي اللبناني ابراهيم العريس لفكرة أن التاريخ الحقيقي للسينمات العربية هو تاريخ المخرجين، مؤكدا ذلك على امتداد الدراسة بطرحه لعشرات من علامات الاستفهام التي يستحق كل تساؤل منها أن يصبح المتن الذي من حوله تنهض دراسة كاملة، والتي تنضوي ضمن هم واحد، هو البحث عن كينونة ذلك التبدل الأساسي الذي طرأ على دور المخرج في الفيلم، ومن دون اغفال الصراع بين دورين مزدوجين له، لكن هذا الصراع – في تقدير العريس – انتهى بانتصار دور المخرج كفنان مجدد ومبتكر.