الشريط الوثائقي في تونس: رؤية القضايا الحقوقية

وسيم القربي – تونس
هل يمكننا الحديث عن السينما الحقوقية في بلد يشهد مخاضا سياسيا صعبا؟ ما هي الخصوصيات الفنية والتقنية والموضوعاتية لأفلام تعتني بحقوق الإنسان؟
تطرح الصورة السينمائية والحقوقية بمختلف أنواعها إنعكاسا لبعد سياسي يجعل من هذه السينما تعبيرا ثقافيا يبرز بعدا إنسانيا في غالبه معاناة وثورة صامتة تنعكس هناك… في القاعات المظلمة.
أفرز الحراك الذي تشهده تونس مجموعة من المحاولات الوثائقية التي عكست رؤية فكرية شبابية وجمالية أفرزتها هذه الحساسية الجديدة.
نحو تأسيس الثقافة الثورية…
شهدت الرؤية الوثائقية في السينما التونسية انفراجا جوهريا بعد أن غابت فيها عبارة المحرّم الإيديولوجي باعتبار أنّ الإبداع السينمائي سابقا غالبا ما أصابته الأعطاب الرقابية. ولعلّ الفاعلية انبثقت بالأطروحات الجريئة التي تناولها شباب تونس والمعاني التي طرحها المُستجوب من خلال تعبيرات حرّة أمام الكاميرا. يلوح لنا في خضم الإنتاج الفكري والجمالي الجديدين أنّ الصورة السينمائية الحرّة والتي كانت فيها حقوق الإنسان في السابق مشكلا عويصا استطاعت أن تفرض نفسها اليوم بشكل بلور الاتجاهات الفكرية الجديدة. ففي ظلّ التحولات التاريخية وبالرجوع إلى أغلب الإنتاجات الوثائقية الشبابية منذ سنة 2011 نستشف أننا يمكن أن نتحدث عن نشأة حقيقية لمفهوم حقوق الإنسان في الصورة السينمائية. وقد تناولت أغلب الوثائقيات التونسية الجديدة مفهوم حقوق الإنسان من زوايا متعددة منها الحق في التعبير والحياة والرأي والشغل والتعليم والعيش… ويمكن أن نذكر بعض الأمثلة من وثائقيات الرؤية الجديدة في تونس منها:

– “يا من عاش” للمخرجة هند بوجمعة: اهتمّ هذا الشريط بيوميات إمرأة عاشت حياتها داخل الأحياء القصديرية في تونس إلى أن جاءت الثورة لتمنحها الحق في التعبير عن وضعها الاجتماعي المزري ولتمكّن أطفالها من حق العيش الكريم.
– “يلعن بو الفسفاط” لسامي التليلي، ويتناول من خلاله المخرج القضايا الحقوقية ويرسم الشذرات الأولى للثورة التي انطلقت سنة 2008 في منطقة الرديف في الجنوب التونسي، اهتم الفيلم بصور الظلم والقمع السلطوي.
– “نحن هنا” لعبد الله يحيى، يسلط الفيلم الضوء على أغاني الراب ومجموعة من الشباب الذين يتحدّون الواقع المرّ. الراب حسب الشريط هو تلك الشحنة الإيجابية لتحقيق الذات.
– “بابل” فيلم وثائقي للثلاثي إسماعلي وعلاء الدين يحيى ويوسف الشابي ويظهر الفيلم مجموعة من اللاجئين الأفارقة والآسيويين الذي فرّقتهم الحرب في ليبيا وجمعتهم تونس… هناك في مخيّم “الشوشة”.
– “الشهيد السعيد” للمخرج الحبيب المستيري ويستعرض خلاله مسيرة المناضل الحقوقي شكري بلعيد الذي تمّ اغتياله غدرا يوم 6 فيفري 2012.
– “أزول” لوسيم القربي ويطرح الفيلم وضعية بعض القرى الأمازيغية في الجنوب التونسي حيث يطالب متساكنوها بحق الحفاظ على هويتهم الخاصة بعد أن تمّ تهميشهم داخل جغرافيا المنسي من قبل النظام السابق.
– “أولاد عمار” لنصر الدين بن معطي ويتناول نشاط المدونين في تونس والرقابة التي لطالما أرادت عرقلة الإبحار والتعبير عن الرأي.
ما يمكن أن نستنتج من جملة هذه الاستنتاجات هو أنّ السينما التونسية قد انتفضت عبر إنتاجات كانت منذ زمن غير بعيد بمثابة المستحيل التفكير فيها، وهذا التنوع والتعدد هو من الإفرازات الثقافية للثورة التونسية التي جعلت من الوثائقي اليوم وظيفة للتعبير عبر جملة من السياقات الاجتماعية والأبعاد السياسية.

سينما الحقوق… الرهانات القادمة
تبقى الصورة تلك المرآة العاكسة التي تصنعها كاميرا المبدع، في هذه الصورة تحتل صورة المجتمع بالضرورة جزءا مهمّا باعتبار أنّ المحيط هو المرجعية الأولى… إنّ الصورة السينمائية عادة ما تتميّز بجرأتها حيث تهدف السينما إلى توعية المجتمع عبر أساليب راقية في عصر الصورة، وإذا كان السينمائي في أغلب الأحيان ثائرا، فإنّ أفلام حقوق الإنسان عادة ما احتلت مكانا مؤرقا مقلقا للسلطة بسبب اختطاف الآلة السينمائية لمشاهد عادة ما تكون محرجة… فالصورة السينمائية المؤثرة هي التي تنقل ذلك الواقع المخفي أو الذين يحاولون إخفاؤه.
إنّ سينما حقوق الإنسان وإن كانت لا تستأثر بما يتوفر للأفلام التجارية، فإنها تبقى في أغلب الأحيان سينما مستقلة بذاتها، تعرقلها صعوبات التصوير وتزيّنها لحظات قطف اللحظة البريئة… بعيدا عن زيف الحقيقة تكوّن تلك الصور الواقعية جمالية متفرّدة تجعل من هذه السينما نضالا من أجل إنسانية الإنسان وحرية الفنان.

سامي التليلي

أمام هذه الطفرة الإنتاجية للفيلم الوثائقي في تونس والتي تناولت مواضيع متعددة لا تزال الإنتاجات غير كافية مقارنة بما يمكن تصويره قصد توثيق الأحداث ورصد مظاهر متعددة من الحياة. إنّ للشريط الوثائقي وظيفة فنّية تكون من خلالها الصورة وثيقة ومجموعة تعبيرات سواء لإعادة ترميم الذاكرة أو لكشف قلق المجتمع وحقائق مخفية أو أيضا لردّ الاعتبار لذاكرة منسيّة.
إنّ الوثائقي اليوم في تونس هو وثائقي حقوقي بامتياز باعتبار أنّ المواضيع الآنية مرتبطة أشدّ الارتباط بالأحداث السياسية التي تنعكس بالضرورة على كل ما هو اجتماعي، وبالتالي فإنّ الصورة الوثائقية الحيّة هي طرح للقضايا وربط بالعملية الفنية التي يفرضها الشريط الوثائقي لإنتاج المعنى. وإذا كان الوثائقي في تونس قبل الثورة مجرّد جنس إبداعي للتضليل الإيديولوجي حيث جُعل أداة ثقافية لتوثيق فولكلوري لا غير، وتمّ قتله من قبل المسئولين على الثقافة فإننا اليوم نشهد طفرة من الإنتاجات المستقلة باعتبار أنّ وزارة الثقافة لم يعد لمنظومتها أيّ معنى أو دور لتسيير الثقافة في تونس لأنّها موروث من الماضي والكثير من الإداريين في صلبها هم نفسهم من قمعوا التعبير وحذفوا المشاهد في المنظومة السابقة وهم نفسهم الذين يشرّعون اليوم للمنتوج الإبداعي الجديد. هؤلاء الذين يتّبعون اتجاهات الرياح يوزّعون أموال الشعب/ الدعم حسب أهوائهم، هم من غدروا بالسينما الوطنية في تونس وشرّعوا للالتباس الإيديولوجي، جاثمون على كراسيهم الفارهة معتقدين أنهم صناع الثقافة في تونس.
لقد وثقت الثورة التونسية الرهانات المغدورة لكنّ الأحزان المتولدة عنهم ستصنع جيلا من السينمائيين المستقلين الذين سيؤسسون صورة مضادة ستساهم في تثوير غبار الزيف الإبداعي وتفعيل رهانات الإبداع الحقيقي والنظر الجاد في ثنائية سينما الحقوق وحقوق السينما.


إعلان