علياء ارصغلي: السينما الفلسطينية ينقصها التجدد

حوار: سعيد أبو معلا/ رام الله
بعد دورات تسع هي في مجملها عمر مهرجان شاشات لسينما المرأة في فلسطين تمنح جائزة المهرجان “جائزة سلافة جاد الله” لمدير عام شاشات، وهي الدكتورة والمخرجة والمنتجة علياء ارصغلي، لم يدهش الخبر المشهد السينمائي والثقافي الفلسطيني، فقد صبت الجائزة في مكانها الصحيح.
فإرصغلي تعرف على أنها رائدة تجربة سينما المرأة في فلسطين، عملت في مؤسسة “شاشات” (منذ 2005م) برفقة مخرجات شابات على الانطلاق بالفكرة الحلم والتحليق بمنتجاتها بين الجماهير في عروض مجتمعية يصعب حصرها، وبمناسبة انطلاق فعاليات المهرجان التاسع وحصولها على الجائزة ورغبتها بترك المؤسسة التي ارتبطت بها طمعا في ضخ دماء جديدة في عروق المؤسسة نجرى هذا الحوار مع مخرجة “هاي مش عيشة”، و”حبل غسيل”…الخ، وفيما يلي نص الحوار:

يقوم مجلس إدارة “شاشات” بتكريمك عبر جائزة رفيعة هي “جائزة سلافة جاد الله” ماذا يعني لك هذا الفوز وتحديدا وأنت في عامك الأخير في المؤسسة التي ارتبط أسمها بك كمديرة ومخرجة ومنتجة أيضا؟
شعرت بالاستحقاق، ليس من باب الغرور، فقد عملت بجد طوال سنوات تسع في سبيل أن تصل السينما للمجتمع الفلسطيني، وهو ما تحقق فعليا عبر عروض شاشات المختلفة ودورات مهرجانها التسعة.
كما أن تجربة إطلاق شاشات لم تكن سهلة، بدأنا العمل في بيئة مليئة بالصراع والتنافس غير الشريف الذي يسود الوسط السينمائي، إضافة إلى وجود مخاوف من النجاح. كنت عائدة من أمريكا، البعض كان يقول ما علاقتي بسينما المرأة، ورغب البعض بوضعي في زاوية صغيرة وضيقة بدلا من أن أكون وسط الحدث أو جزءا منه.
النهج الذي سرنا عليه في “شاشات” جاء مختلفا عن النهج الذي تسير فيه الأمور في فلسطين، لم يكن الواقع متوافقا مع قناعاتي وأفكاري، قدمت من بيئة مهنية فيما كان الواقع مليء بالعلاقات والواسطة والمسايرة، رفضت ذلك النمط من العمل، وتعاملت على أن “شاشات” مؤسسة حقيقة وهي ملك للمجتمع. 

بعد التكريم

 
حتما ذلك حملك ضريبة مضاعفة مع بداية تجربة “شاشات” في ظل الجو العام في البلد؟
نعم، كان هناك ضريبة كبيرة، فقد مورست علينا ضغوط كثيرة كان بعضها من أعضاء مجالس إدارة، كانوا مثلا يرغبون بتوظيف أشخاص معينين، أو أن يملوا علي أفعال معينة، وهو ما جعلني في عزلة ووحدة في بعض الأوقات، ودفع بي أن ابتعد كي لا أضع نفسي في مواقف أكون فيها في موقع هجوم أو تملق أو مسايرات، كنت أريد أن أحافظ على المؤسسة، وكنت اتخذ القرارات من دون أي حسابات، سرنا على نهج قائم على الموضوعية والمهنية، في أول عامين من عمر “شاشات” كان يقال لي: “نهجك ليس صحيح، عليك أن تسايري المجتمع والناس”.
رفضت ذلك، وسرنا على نهج مبنى على الجودة والاستحقاق، وما حصلنا عليه في “شاشات” أخذناه بتعبنا وجهدنا، حاولت بناء مؤسسة بحيث أكون فخورة بها، كنت واضحة عندما عدت من أمريكا إلى فلسطين فبعد أن عملت لسنوات مع مؤسسات نسوية وإعلامية دولية وجدت أنها مشاريع موسمية ومن دون بناء تراكمي، قلت لنفسي يجب أن يكون هناك مؤسسة قادرة على البناء التراكمي، راكمنا البناء على أساس متين وبهدف واضح سعينا لتحقيقه، لم يكن هدفنا بناء مؤسسة أو إطار يمنح رواتب للموظفين، بل حاولنا تحقيق فكرة سينما المرأة في فلسطين.

هل بدوت كمن ابتعد عن الوسط السينمائي في فلسطين والجماعة الثقافية أن جاز لنا التعبير وذهبت للمجتمع والناس عبر العروض المجتمعية بصفتهم مصدر الدعم الحقيقي والأصيل؟
كان لدي هدف واضح يتمثل بأنه يجب أن يكون هناك تغيير في القطاع السينمائي الفلسطيني، فهذا القطاع لا يتجدد على مستويين، الأول مستوى الأشخاص، فالمخرجون هم هم، لا تتغير الوجوه، ينتجون ويشاركون في مهرجانات وعروض، والثاني على مستوى الأفكار، فهذا القطاع لديه أفكار معينة عن المجتمع والمهرجانات تريدها، وهي أفكار تباع بالمهرجانات لكن بطريقة فجة، سألت نفسي: أيعقل أن لا يكون هناك أي أفكار أو قصص جديدة في فلسطين، كنت أريد أناس قادمين من مناطق مختلفة ويصورون من منظور وزاوية رؤية مختلفة.
كان الهدف من “شاشات” هو إعادة بث دم جديد في القطاع السينمائي، رفده بوجوه وقصص وأفكار وأساليب جديدة، لم نكن يوما ضد القطاع ومع المجتمع، كنت شخصيا مع القطاع لتجديده وإحياءه والنهوض فيه، وهذا دفعنا لتدريب مخرجات شابات من جنين وطولكرم ونابلس..الخ.

– إذا كان هناك عزلة، ورفض مجتمعي بفعل مضامين بعض الأفلام مع انطلاق المهرجان، ومع ذلك نال القسط الكبير من النجاح، وها هو في عامه التاسع، أين السر في النجاح حيث فشلت مهرجانات فلسطينية وعربية مماثلة؟
السر هو في مخاطبة المجتمع من خلال قصصه، أفلام شاشات خاطبت المجتمع بقضاياه، للأسف الثقافة في فلسطين صارت إما فلكلورية ولا تمس الحياة اليومية في شيء، أو ثقافة ما بعد حداثية، المجتمعات الحية الأخرى تنتج أفلام عن مجتمعاتها، المنتج الثقافي فيها يحكي حياة الناس، نحن الثقافة لدينا أصبحت ميتة وقادمة من مكان أخر ويعاد إنتاجها مرارا.

السؤال: لماذا لا ننتج أفلام ذات ثقافة حيوية تمشي مع المجتمع وتتصارع معه وتحاوره؟ لماذا لا نرى الحياة اليومية للمواطن وهواجسه وأحاسيسه اليومية؟ هناك فراغ أو غياب قاتل و”شاشات” حاولت أن تمليء ذلك.

شاشات

قلنا للشابات المتدربات تحدثن عن قصصكن، عندما بدأنا بمشروع “بوح” كان الشباب بالجامعات يرغبون برؤية حكاياتهم كانوا يتوافدون على العروض لكونها تتحدث عن واقعهم، أما أفلام “مشروع القدس” مثلا فركزت على تفاصيل الناس ومعنى القدس بالنسبة للفتيات، تجاوزنا الشعارات الكبرى الخاصة بالقدس بصفتها عاصمة للدولة، حكت المخرجات الواقع بحرقة وشعور أصيل وحقيقي وهو ما تجاوب معه الجمهور، الأفلام دخلت حياة الجمهور وملئت الفراغ الثقافي، فهي تتحدث عن الواقع بطريقة حادة وجدية وبحرقة.
كما كنا معنيين بالحوار بيننا وبين أنفسنا ومع المجتمع، جزء من جهودنا صبت في خانة بناء جمهور سينما وجمهور للفيلم الفلسطيني، كنا نؤكد على ضرورة تفاعل المخرجة مع الجمهور من خلال نقاش الأفلام مع جمهورها الحقيقي الذي تعبر عنه، كانت بمثابة مرآة ووسيلة لحوار وتفاعل مجتمعي.

هل تحقق ذلك؟
لو لم يتحقق لما وصلنا للدورة التاسعة، هناك انتشار كبير لأفلام شاشات يتجاوز العروض التي نقيمها، بشكل يومي تصلنا طلبات لأفلامنا بهدف إقامة عروض لها من أماكن مختلفة من قرى وجمعيات ومن فلسطين المحتلة عام 1948، لو لم تحاك الأفلام الواقع وتفاصيله ولم تضع يدها على نبض الحياة لما حدث ذلك.

كيف تضمنون الوصول لأرضية مشتركة في ظل تنوع القراءات في مجتمع متنوع جغرافيا واقتصاديا وسياسيا، وذلك إذا ما وضعنا بعين الاعتبار أن الأفلام تحمل رؤية مخرجات ومؤسسة للواقع الفلسطيني وفي الصلب منه واقع المرأة؟
الجمهور يرى نفسه في الأفلام، كل فرد يرى انعكاس مختلف للأفلام عليه، وهو يختلف من شخص لأخر، وهو اختلاف حيوي وجوهري وغني جدا بالنسبة لـ”شاشات”، الناس ليسوا نسخ عن بعضهم البعض، المجتمع مؤلف من جزئيات صغيرة، نحن نبسط الأمور عندما نقول أن الجمهور كله شيء واحد أو هناك ثقافة سائدة، هذا الكلام هو شعار أو “كليشة”، فالوقع بالنسبة لنا معقد ومركب ومتناقض، هذا أمر نؤمن فيه ونعمل عليه، وهو ما يجعلنا في النهاية نقبل حالنا ونقبل أنفسنا والمجتمع من حولنا، “شاشات” تقيم حوار عبر عروضها، مثلا في الجامعات نرى أن هناك 50 وجهة نظر حول نفس الفيلم بنفس القاعة، ليس هناك ضرورة للقول أنه يجب أن نصل لنتيجة واحدة وأحادية. ليس شرطا أن نصل لنتيجة أو وجهة نظر واحدة. إن تحدثنا عن الثقافة فإننا نتحدث عن شيء حيوي وفعال ويصعب قياسه أو حصره بتفسير واحد. الكل يؤكد أن الثقافة هي منجم يخرج أشياء جديدة كل يوم، لكن هذا الكل يرفض أن يكون الواقع متجدد ومتنوع، في “شاشات” نرفض ذلك، نؤمن بالتنوع الذي يقود للغنى ويدفع على النمو والنضوج، وهذا كفيل بنمو العقل وزيادة الوعي بإنسانية الإنسان.

لديكم تقليد دائم يتمثل في ضرورة إجراء تقييم للجمهور، ما الذي تخبرنا عنه هذه التقييمات بشكل إجمالي؟

التكريم

نرى أن هناك اهتماما عاليا جدا، ونحن لا نقدر على تلبيته، الجمهور يريد المزيد من الفعاليات والعروض والنقاش، الجمهور يريد من يعاركه ويحتكك معه، هناك عطش أو جوع، وسبب ذلك وجود تقصير من جهات مختلفة. وذلك يدلل على الثقافة الفلسطينية أصبحت مختلة، الكل يتحدث عن أهمية الثقافة لكن هناك فراغ ثقافي هائل، الثقافة في محل والناس في محل أخر، الناس تريد أن تتحدث عن نفسها أن تسمو وتحس وتكبر.

في تجربة شاشات طوال تسع أعوام خاضت المؤسسة عبر أفلام مخرجات في حقل ألغام، قاربت أمور كانت بمثابة “التابو” الذي لا يجوز الاقتراب منه مثل: قانون الأحوال الشخصية، زنا المحارم، البلوغ، العلاقات الاجتماعية والتحرش…الخ، كان المجتمع نصب أعينكم، ليس كما في تجارب مختلفة حيث ينتج الفيلم لجمهور غير فلسطيني، من أين جاءت تلك الجرأة، على ماذا كان رهانكم في هذا الاقتراب من قضايا مجتمعية غالبا ما يعرفها المجتمع ويخاف من مناقشتها علنا؟
ربما على الشركاء والنفس الطويل، كانت هناك فرص كثيرة لخلق الشهرة والنجومية للمؤسسة، مصدرها اختلاق الضجة كلما وجدنا معارضة لعرض بعض أفلامنا، وهو أمر كان سيكسبنا عطفا دوليا وغربيا طالما نحن “نعيش ونعمل في مجتمع متخلف” كما يحب البعض التصريح، لكننا لم نفعل ذلك، كان لدينا قرار في أننا جزء من هذا المجتمع، ونحن نتعامل ونتفاعل معه بعيوبه وعاهاته، عندما منعت أفلامنا في بعض الجامعات أو بعض المؤسسات كان بإمكاننا أن نصدر بيانات صحفية وننشرها ونظهر على أننا أبطال أو ضحايا، كنا سنظهر على أننا أبطال الممولين أو أبطال المؤسسات النسوية، لكننا احترمنا أننا بطريق طويل، وكان لدينا النفس الطويل وهو أحد أسرار نجاح “شاشات”، كنا نقول إذا كانوا غير قادرين على تقبل هذا الفيلم ربما يتقبلون غيره، ربما يعرضون فيلم أخر، وهو أمر نريده طالما نسعى إلى التغيير في الثقافة المجتمعية. 
كنا نريد أن نظل موجودين، نريد الأبواب أن تبقى مفتوحة، لأننا نؤمن أن سينما المرأة هي سينما المجتمع، سينما مجتمع يخاطب نفسه من خلال عيون نسائية.


إعلان