وثائقي يقبل التحدي ويكشف جرائم الحرب..
المناطق الآمنة.. حقول للموت في سريلانكا
قيس قاسم
يوم وصفه، بالكذاب وتحداه أن يُثبت بالوثائق ما ذكره في تقاريره الصحفية عن جرائم انسانية ارتكبها بحق الأقلية التاميلية، لم يخطر ببال الرئيس السريلانكي ماهيندا راجاباكسا ان صانع الوثائقي والصحفي الانكليزي كالوم ماكير سيقبل التحدي وسيذهب بعيداً ليثبت ان ما قاله عن جرائمه بحق التاميل كان حقيقة وليس ادعاء صحفياً زائفاً. لم يخطر بباله ان الصورة الفوتوغرافية وكاميرا الفيديو سيتحالفان ضده وهو الذي خطط بدهاء ليمحو كل أثر لجرائمه ضد المدنيين الهاربين من بطشه الى “المنطقة الآمنة”.
قبل الدخول في التفاصيل التي قادت الى تكوّن ما أطلق عليه “المنطقة الآمنة” في شمالي شرق سريلانكا، والتي أرتكتبت فيها واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ البشري الحديث، التقى المخرج كالوم ماكير بالكاتب المنفي باشانا أبيوردين وهو من الأغلبية السنهالية التي تحكم البلاد وطلب منه عرض تاريخ المشكلة التاميلية. قبل كل شيء اعتبر الكاتب المشكلة نتاجاً لسياسات كولونيالية متعمدة أرادت زرع بذرة الخلاف في البلاد حين أقرت وأقامت نظاماً هيكلياً متكاملاً يعطي كل الحقوق للأغلبية السنهالية، البوذية الديانة، دون غيرها ووفقها عوملت بقية الديانات والقوميات كمكونات من الدرجة الثانية في التقسيم الاجتماعي.

وعلى المستوى التطبيقي ومنذ عام 1948 أصبح السنهاليون أسياداً، ولغتهم أقرت عام 1956 لغة رسمية لها، ما ألحق الحيف ببقية مكونات المجتمع السريلانكي، وكنتيجة لهذا الوضع طالب التاميل بحقوقهم المشروعة بإعتبارهم القومية الثانية في البلاد. لقد جوبهت مطاليبهم السلمية بالعنف ما شجع على بروز تيار سياسي دعا من داخلهم الى استخدام القوة لانتزاع الحقوق والذي سيتبلور فيما بعد كحركة مسلحة قومية أطلقت على نفسها اسم “النمور التاميل”. في عام 1983 استغلت السلطة العسكرية مقتل 13 جندياً منها على أيديهم فقامت بحملة ابادة جماعية ضدهم قُتل فيها ألاف من المدنيين وعرفت ب”يوليو الأسود”، ومن نتائجها كان انسحاب التاميل من المدن السريلانكية الى موطنهم في منطقة ترونكومالي شمال البلاد. هذة المقدمة مهدت لفهم ما سيتابعه الوثائقي لاحقاً من تطورت الصراع السياسي والعسكري بين الطرفين والتي انتهت بتوقيع معاهدة سلام بين الطرفين عام 2002 وبموجبها تمتع التاميل بحكم شبه ذاتي، استمر حتى مجيء الرئيس الجديد، والمدعوم من الغرب، راجاباكسا الى الحكم عام 2005.
لقد بَيّت الرئيس الجديد خطته لإبادة التاميل واسكات أصواتهم، عبر تسويقه سياسة ادعت المشاركة مع الغرب في القضاء على الارهاب، ونجح عبرها في اقناع العالم بأن “النمور التاميل” هم من بين الحركات الارهابية، وما أن حل عام 2008 حتى بدأ بشن هجوم كاسح بالطائرات وبكل أنواع الأسلحة الثقيلة ضد موطن التاميل. يستعين الفيلم التسجيلي بوثائق سربتها “ويكليكس” تُبيًن معرفة الأمريكان بتحركات الجيش السريلانكي الى جانب، ما سيعد لاحقاً فضيحة في تاريخ منظمة الأمم المتحدة، حين سيتحدث عدد من موظفيها عن قبولهم مقترح الحكومة بالانسحاب من المناطق التاميلية قبل بدء الهجوم. لقد أراد الجيش أن يتم هجومه الكاسح دون وجود شهود. وبإنسحاب موظفي الأمم المتحدة كان له ذلك.
من لحظة بدء الهجوم سيُغير الوثائقي من طبيعته كعارض للأحداث الى موثق وشاهد عليها. وسيؤرخها بنفسه وفق تسلسل تاريخي بدأ في الثاني عشر من يناير عام 2009، معتمداً في خاماته بالأساس على ما صورته كاميرات الناس وأفراد من الجيش في نفس الوقت. ستعطي التسجيلات فيما بعد صورة دقيقة للهجوم ما تعبه من مجازر مخيفة لم يكن يرغب الجيش في وجودها أبداً ولا في وجود ما سيحصل عليه الوثائقي في “المنطقة الآمنة” من صور اضافية على الاطلاق.

بعد نزوح مئات الألاف من الناجين من الهجوم الى عمق مناطقهم الداخلية سمع العالم ولأول مرة عبارة “المنطقة الآمنة”، واليها جاء متطوعان من موظفي الأمم المتحدة اضافة الى شابة تاميلية عادت لتوها من منفاها في لندن. شهادات الأشخاص الثلاثة في المنطقة التي تعرضت لهجوم عسكري منظم أريد به ابادة الشعب التاميلي عن بكرة أبيهم وليس “النمور التاميل” فحسب لأن تحليل مسار قنابل المدفعية والتي تعرف عسكرياً ب “الإحداثيات” تؤكد تعمد الجيش على تصويبها صوب المنطقة الخالية من المسلحين والتي تحولت عملياً الى مستشفيات متنقلة ومراكز لإيواء الفارين من المدنيين. وستكفي لاحقاً أقوالهم وتسجيلاتهم “الفاضحة” لكشف أكاذيب الحكومة العسكرية وتضعها في مواجهة مباشرة مع القانون الدولي الذي يعتبر أي خرق عسكري للمناطق الآمنة جريمة حرب وهذا ما قاموا به بالضبط. لقد أبادوا وبشكل متعمد من لجأ الى المنطقة ورافقوا هجومهم بحملة دعائية تقول انهم يريدون ابعاد المسلحين فقط عنها، لكن كاميرات الفيديو والصور الفوتوغرافية أظهرت العكس تماماً. لقد سجلت تفاصيل القتل وعمليات أغتصاب النساء وحرق المزارع والمنازل بما لايرغب فيه أحد من قادة الهجوم.
استخدم الوثائقي الانكليزي “المناطق الآمنة.. ساحات للقتل في سريلانكا” اسلوب المقارنة البصرية بحيث قابل كل ادعاء لمسؤول سياسي أو عسكري بصورة وتسجيلات تفضح أكاذيبه. صورتان لا يمكن لا للرئيس ولا لفرق قتله تكذيبها. لقد كان الفوز في التحدي من نصيب صانع الوثائقي، الذي أقنع الأمم المتحدة بحقيقة ما جرى هناك عبر التسجيلات والصور التي أُخضعت لفحص الخبراء والأطباء وأتضح انها صحيحة وليست ملفقة كما قال الرئيس السريلانكي عنها، وعليه وجهت الأمم المتحدة اليه تحذيراً طالبته فيه بتقديم توضيحات على ما جاء في الوثائقي من أدلة ضده وضد جيشه في مدة أقصاها نهاية هذا العام وإلا فأنها وفي الأشهر الأولى من عام 2014 ستقوم بنفسها بتشكيل لجنة مستقلة تكلفها بالتحقيق في تهم جرائم الحرب الموجهة اليها، والتي ستعتمد فيها بالأساس على ما تضمنه “الوثائقي” من أدلة تكفي لفضحهم وادانتم بشكل لا لبس فيه.