فيلم غزة 36 ملم
عدنان مدانات
يثير فيلم” غزة 36 ملم”( عام 2012)، وهو فيلم تسجيلي مدته 48 دقيقة من إخراج المخرج الفلسطيني خليل المزين أكثر من سؤال نقدي وذلك أولا، بسبب من الطموح الفني الذي يحتويه و كيف تجسد في الفيلم، وثانيا بسبب تناوله موضوع غزة من زاوية جديدة غير زاوية المعركة مع الاحتلال الإسرائيلي، ألا وهي علاقة غزة بالسينما ممثلة بتدمير صالات العرض السينمائية العامة في الفترة التي تلت تولي حركة حماس زمام السلطة.

يتجلى الطموح الفني لمخرج الفيلم منذ لقطاته الأولى التي تبين في لقطات قريبة أجزاء من بكرات عرض الأفلام السينمائية من مقاس 35ملم وهي تدور وعليها شريط فيلم فيما يظهر المخرج و زميل له بين اللقطات. تُعرض اللقطات مكبرة بحيث تبدو أحيانا تجريدية الشكل وأحيانا تُعرض صورة خيالها بحيث تبدو كعرض لخيال الظل. يلي ذلك لقطات لغرفة مكتظة بالأشياء ومنها أوراق ملونة موزعة في كل مكان ثم يدخل شخص ما إلى الغرفة يتنقل فيها ويعيد ترتيب بعض الأوراق. تعرض لقطات الغرفة بطريقة مقلوبة: السقف في أسفل الكادر والأرض في الأعلى. وهي لقطات من الصعب فهم دلالاتها أو معناها إنما هي قد توحي للمشاهد أنه أمام عمل فني وحتى تجريبي.
يظهر بعد ذلك المخرج وهو يتحدث عن مشروع فيلمه الذي يجري التحضير له وعن الصعوبات التي تواجهه فالفكرة في البداية مشوشة في ذهنه وكان يكتب مشاهد ثم يشطبها. ثمة في حديث المخرج فقرة فيها فكرة هامة حيث يقول ما معناه أن التفكير في الصورة و كيف ستكون عليه يسيطر عليه وهذا ما يجعله يبتعد عن الموضوع فتتكون لديه صور جميلة، أو أنها تبدو له جميلة، لكن من الصعب وصلها مع بعض.
تشكل هذه الفكرة واحدة من الإشكاليات التي تعاني منها العديد من الأفلام السينمائية عندما تفتقد الرؤية الشاملة للموضوع والمنهج و وحدة الأسلوب الفني، وهذه الإشكالية تنطبق تماما على فيلم” غزة 36ملم”( 36 ملم رقم يوحي بالرغبة بالسخرية لأن المقاس الحقيقي لشريط الفيلم هو35ملم)، لأن بدايته التجريبية ( إن صح التعبير)، المتمثلة بالمقاطع الثلاثة التي ذكرت أعلاه، يصعب وصلها مع ما يلي من الفيلم فهي تبدو منفصلة عن الموضوع الذي يتناوله، من هذه الناحية يبدو حديث المخرج عن أزمته مع مشروع الفيلم وكأنه اعتراف صادق و مسبق بمشكلة الفيلم من الناحية البنائية.

عن ماذا يتحدث الفيلم؟ بعد هذه المقاطع الثلاثة ينتقل الفيلم من خلال مجموعة مقابلات مع عدة أشخاص للحديث عن أزمة عدم وجود صالات للسينما في غزة. ونفهم من الفيلم أن غزة كانت تتوفر فيها اثنتا عشر صالة عامة للسينما وبعضها كانت صالات راقية مجهزة أحسن تجهيز ولكنها كلها دمرت وجرى حرق محتوياتها بعد استلام حماس السلطة. ينقسم المتحدثون في الفيلم إلى ثلاثة أقسام ، قسم يحكي في المتحدثون، وهم على ما يبدو من أصدقاء المخرج، عن تجربتهم الشخصية مع صالات السينما وعن افتقاد المجتمع لها، وقسم ثاني يتكون من أصحاب الصالات أو من الذين كانوا يعملون فيها وهم يتحدثون عن الأفلام التي كانت تعرض فيها وكيف كانت كل صالة تتخصص في عرض نوع معين الأفلام ولكنها جميعها كانت تراعي الأخلاق العامة ولا تعرض ما هو معيب، أما القسم الثالث فيتكون من كتاب و أدباء عاصروا التجربة، وهم يحللون قضية تدمير وحرق الصالات من زاوية سياسية باعتبارها جزءا من معركة القوى الدينية ضد القوى العلمانية في المجتمع( نعرف من الفيلم، مثلا، أن الشيوعيين كانوا ذات يوم يشكلون قوة جماهيرية في غزة). وتأكيدا على ما يقوله هؤلاء الكتاب يظهر في الفيلم إضافة إليهم شيخ ملتح يتحدث عن الفساد الأخلاقي المرتبط بوجود صالات للسينما.
ينتهي الفيلم بلقطات لآلة العرض السينمائية وسط قاعة شبه مهجورة وشرائط الأفلام مكومة على الأرض من حولها.
على المستوى السطحي الظاهري يلقي الفيلم، في معالجته لموضوع تدمير صالات السينما، نظرة حنين رومانسية على الصالات وعلى الأفلام التي كانت تعرض فيها، لكن في العمق، فإن أزمة صالات السينما، كما جرى التعبير عنها في الفيلم، يمكن اعتبارها تعبيرا مجازيا عن أزمة مجتمع يجري فيه تدمير ثقافة متكونة تاريخيا لصالح ثقافة حديثة السلطة، وهذا الانتقال من السطح إلى العمق، والذي لا يحتاج إلى جهد كبير لإدراكه، ما يحسب لصالح الفيلم.