جوائز مهرجان برلين السينمائي الدولي 63
رومانيا تخطف الدب الذهبي والعرب يحصلون على جوائز جانبية!
عدنان حسين أحمد
انتزع فلم “وضعية طفل” للمخرج الروماني كالين بيتر نيتزر جائزة “الدب الذهبي” في دورته الثالثة والستين، وهي أرفع جائزة يمنحها مهرجان برلين السينمائي الدولي حيث سلّم رئيس لجنة التحكيم، المخرج الصيني المعروف وون كار واي، الجائزة بنفسه لمخرج الفلم نيتزر ومنتجته آدا سولومون في حفل توزيع الجوائز الذي تم في قصر البرينالي. وإثر تسلّمه الجائزة قال نيتزر:” لا أزال تحت وقع الصدمة أنها مكافأة مهمة بالنسبة إليّ”، مُشيراً إلى أن قصة فلمه: “يمكن أن تحدث في أي مكان من العالم”. واعتبر أن هذه “الجائزة تشجع المتلقين على الذهاب لمشاهدة العمل في السينما دولياً ومحليا”. تتمحور قصة الفلم حول شاب يُدعى باربو “بوغدان دوميتاغه” الذي يقتل عن غير عمد شاباً آخر في حادث سير كان يقود فيه سيارته بسرعة فائقة متجاوزاً فيها الحد المسموح به الذي يضعه تحت طائلة القانون.

لقد مات الشاب المدهوس بعد مدة قصيرة من وقوع الحادث المروّع، الأمر الذي سيعرِّض الجاني إلى عقوبة سجن تتراوح بين ثلاث سنوات إلى خمس عشرة سنة، لكن أمه كورنيليا “لومينيتا غورغيو” تبذل قصارى جهدها لإنقاذ ولدها الوحيد من هذه العقوبة القانونية التي قد تدمِّر حياة ولدها من جهة، وحياتها من جهة أخرى خصوصاً أنها تعيش في عائلة ممزقة اجتماعياً. تنتمي عائلة كورنيليا إلى الطبقة العليا من المجتمع الروماني، وهي تزيِّن رفوف مكتبتها بروايات غير مقروءة لهيرتا مولر، الروائية الرومانية الحائزة على جائزة نوبل، كما أنها مولعة بإظهار بطاقات ائتمانها الكثيرة التي تحتشد بها محفظة نقودها لتتباهى بها أمام الأصدقاء الذين قد لا ينتمون إلى هذه الطبقة الاجتماعية المرفهة التي تسرق جهود الناس الفقراء وتعتاش عليهم، فتبدأ بحملة واسعة النطاق بهدف إنقاد ابنها الكسول والمسترخي على الدوام من هذا المأزق القانوني الذي وقع فيه، وتحاول بشتى الطرق، بما فيها دفع الرشاوى إلى الشاهد الوحيد على الجريمة، وإلى الأبوين أيضا، في محاولة محمومة لاسترضائهما والتخفيف من وقع الصدمة الكبيرة عليهما وتداعياتها النفسية المريرة. الفلم يعيد بناء الأحداث في ليلة واحدة بشكل دقيق وموسوس بالتفاصيل ليوم الحادث وللأيام التالية مقدماً نظرة ثاقبة للانحراف الأخلاقي للبرجوازية الرومانية منتقداً دولة المؤسسات الاجتماعية بشكل قوي وحاد مثل الشرطة والقضاء وما إلى ذلك. تحاول الأم البرجوازية كورنيليا تعزية أم الشاب المدهوس في جلسة مؤلمة ومؤثرة جداً تنتهي بإقناع أم الضحية بضرورة الصفح عن ابنها الوحيد. وعلى الرغم من أن الفلم يدور حول معاناة الأمهات اللواتي يفقدن فلذات أكباهن، ويستغرقن في الحِداد الطويل، إلاّ أن جانباً من القصة السينمائية تنتقد الفساد الإداري الذي يضرب في عمق المجتمع الروماني في الوقت الحاضر. لم يكن “وضعية طفل” فلماً روائياً بالكامل، لأن فيه لمسة شبه وثائقية أخرجت الفلم من إطار النمط الواحد، وأدخلته في إطار الأنماط المتعددة الذي يكسر بالضرورة مناخ الرتابة، ويقدِّم لنا قراءات مختلفة من زوايا نظر متعددة. جدير ذكره بأنّ كالين قد وُلد في بيتروسالي برومانيا عام 1975. هاجر في سن الثامنة مع عائلته إلى ألمانيا، ثم عاد عام 1994 ليدرس الإخراج السينمائي في المعهد الوطني للمسرح والسينما في بوخاريست. تخرّج في هذا المعهد عام 1999. وبعد إنجازه لسلسلة من الأفلام القصيرة أخرج كالين فلمه الروائي الطويل الأول”ماريا” عام 2003. ثم أنجز فلمه الروائي الطويل الثاني “ميدالية شرف” الذي عُرض أول مرة عام 2009 ونال عنه جائزة غوبو أو “الأوسكار الرومانية” التي مُنحت لأحسن ممثل في الفلم وهو فيكتور ريبنيوك وأفضل سيناريو لتيودور فويكال.
كما منحت لجنة التحكيم المخرج البوسني دانيس تانوفيتش جائزة أفضل ممثل عن فيلمه الموسوم “حلقة من حياة جامع الحديد” التي أُسندت إلى الفنان نظيف موشيش الذي صرّح بأنه يحضر أول مهرجان سينمائي في حياته. يتوفر هذا الفلم معالجة إنسانية أيضاً مثل الفلم السابق. يتناول هذا الفلم قصة عائلة غجرية تعيش بعيداً عن المناطق المأهولة في البوسنة والهرسك حيث يقوم الأب “نظيف” بجمع الحديد من السيارات القديمة وبيعه إلى محلات السكراب. أما الأم سينادا فهي تقوم بواجباتها المنزلية على أكمل وجه وتعتني بطفلتيها، لكنها تشعر في أحد الأيام بألم حاد في بطنها. وفي العيادة الطبية يخبرونها بأن الجنين الذي تحمله في رحمها ميت وهم يخشون من أن يتعفن في جوفها ولابد من إجراء عملية جراحية حالاً، وحينما يكتشف مدير المستشفى بأنها لا تملك تأميناً صحياً يرفض إجراء العملية لأن أسرتها الفقيرة غير قادرة على تأمين المبلغ المطلوب، الأمر الذي يفضي بسينادا إلى الإحساس بفقدان الأمل خصوصاً وأنها تجد نفسها في سباق مرير مع الزمن الحرج الذي يهدد حياتها أولاً وسوف ينعكس على الأسرة برمتها. تعامل المخرج تانوفيتش مع ممثلين غير محترفين ليجسّدوا قصة مستمدة من الواقع يسعى أبطالها لإنقاذ أمهم من موت مؤكد. أعرب تانوفيتش عن سعادته بهذا الفوز قائلاً: “أريد متابعة صنع أفلام تنبع من إحساسي، وآمل أن تساهم في صنع الحوار في بلدي حيث لم يعد أحد يعرف إلى أين نحن متجهون؟ وهذا رهيب بالنسبة للشعب، وخاصة الأكثر فقراً. أنا متشائم بشأن مستقبل بلدي، لكنني آمل أن تغير السينما شيئا”.? يعد تانوفيتش أفضل مخرج صربي معاصر فقد حاز على العديد من الجوائز من بينها جائزة الأكاديمية لأفضل فلم أجنبي عن فلم “الأرض الحرام”. أما أبرز أفلامه الأخرى فهي “سيرك كولومبي”، “صورة الفنان في الحرب”، “جحيم”، “فجر” و “يقظة”.

مُنحت جائزة “الدب الفضي” التي تحمل اسم “ألفريد باور” وهي جائزة الإبداع الخاصة التي تُسند لأفضل فلم يفتح آفاقاً جديدة وهو فلم “فيك وفلو شاهدا دبا” للمخرج الكندي دينس كوتي الذي تدور أحداثه في منزل منعزل بغابة كندية ويروي لنا قصة حب تتأجج بين امرأتين، الأولى “فيك” التي خرجت لتوها من السجن حيث تستقبل حبيبتها “فلو” ثم تشرع معها في رحلة إلى أعماق الغابة. يتميز دينس كوتي بنَفَسه التجريبي، وشخصياته غريبة الأطوار، وموضوعاته اللافتة للانتباه، وطريقة إخراجه غير المألوفة التي يصنع بواسطتها عالمه الخاص الذي يتداخل فيه الواقعي والمصطنع في آنٍ معا. أنجز دينس عدداً من الأفلام المهمة بينها “حيواتنا الخاصة”، “ذلك كل ما تريده” و “خطوط العدو”. قال دينس في أثناء تسلمه الجائزة: “إنها طريقة لشكري على جرأتي وتجديدي، وهذا سيساعدني على بيع الفيلم في عدد من البلدان”.
حصل الأميركي ديفيد غوردون غرين على جائزة “الدب الفضي” لأفضل مخرج عن فلمه المعنون “برينس آفالانش” الذي يتمحور حول شخصيتين وهما ألفِن “بول رود” ولانس “أميل هريش” اللذين يقضيان صيف 1988 في غابة مهجورة دمّرتها النيران. كانت مهمتهما الرتيبة هي إعادة صبغ العلامات المرورية التي أتلفتها الحرائق في طريق لا نهاية له في بلدهم. يكتشف لانس صعوبة المضي في عزلته في البرية الموحشة بعيداً عن الحفلات الليلية والصديقات، بعكس ألفِن الجاد الذي يكتب رسائل عاطفية ملتهبة إلى صديقته، الأخت الكبرى لـ “لانس” كلما وجد متسعاً من الوقت. يجد ألفِن متعة كبيرة كلما غاص عميقاً في الغابة المحروقة بحثاً عن الأشباح والمنازل المهجورة. يتجول ألفِن ولانس في الغابة بعربة صغيرة، يتشاجران ثم يتصالحان، ويلتقيان ذات مرة بشخص واحد، سائق شاحنة غامض، يقدِّم لهما شراباً محلي الصنع ثم يختفي بسرعة مثلما ظهر على حين بغتة. لقد نجح غوردون في خلق دراما مقتضبة في جزء منها، وفلسفية في الجزء الآخر، كما نجح في تقديم فلم طريق باثاً فيه قوة خطابه البصري مثل بقية أفلامه المستقلة الأولى. أخرج غرين عدداً من الأفلام أبرزها “جورج واشنطن”، “الطبيعة تنادي”، “الغابة المبتهجة” و “ملائكة الثلج”.
رجّحت غالبية التوقعات فوز فلم “غلوريا” التشيلي بجائزة “الدب الذهبي” إلا أن هذا الفلم لم يفز إلا بجائزة أفضل ممثلة التي أُسندت إلى الفنانة بولينا غارسيا وشكرت المخرج سيباستيان ليليو الذي رسم خصائص الشخصية التي تؤديها. تتمحور قصة الفلم على امرأة مطلّقة عمرها “58” عاماً، يغادر جميع أطفالها المنزل وتبقى وحيدة، لكنها تتحدى العمر والوحدة وتقرر الذهاب إلى حفلات العُزّاب لكي تروي ظمأها، لكنها كانت غالبا ما تُمنى بالخيبة والفراغ. تقابل رودولفو، ضابط بحري متقاعد يكبرها بتسع سنوات وتشعر نحوه بميل رومانسي جميل فتتخيل نفسها معه في علاقة دائمة، لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن. القصة لا تبتعد كثيراً عن التاريخ التشيلي المعاصر خلال الأربعين سنة الماضية. أنجز ليليو عدداً من الأفلام أهمها “العائلة المقدسة”، “مدينة العجائب” و “عيد الميلاد”.
لم يخرج فلم “ستائر مسدلة” لجعفر بناهي خالي الوفاض من مهرجان برلين فقد منحته لجنة التحكيم جائزة “الدب الفضي” لأفضل سيناريو وقد تسلّم الجائزة شريكه في الإخراج كامبوزيا باتروفي الذي حضر فعاليات المهرجان فيما ظل بناهي أسير الإقامة الجبرية في إيران. قال باتروفي: “السينما الإيرانية وجدت مكانها في العالم ومهم أن نحصل على هذه الجائزة للسيناريو لأنه الأساس، إنها محاورة للأفكار التي مرت في ذهن بناهي وهي الأفكار التي كوفئت هنا في برلين”. وفي معرض ردّه عن المعنى السياسي لسينما بناهي أجاب: “لا حدود واضحة بين الفن والسياسة”. يدور الفلم حول شخصيتين مُطاردَتين، الأول رجل متهم بحيازة كلب غير نظيف على وفق التصورات الإسلامية، والثانية امرأة تقيم حفلاً محظوراً على شواطئ بحر قزوين. يثير الفلم أسئلة متعددة منها: هل نحن نتطلع إلى شخصيتين خارجتين عن القانون أم أن الرجل والمرأة هما مجرد شبحين صنعهما خيال المخرج؟ ومهما تكن الإجابة فإن المخرج يلج المشهد، ويفتح الستائر، وإذا كانت الحقيقة تستعيد نفسها فإن الخيال يغلِّفها ثانية.

مُنحت جائزة “الدب الذهبي” لأفضل مساهمة في التصوير لعزيز زامباكييف لتصويره فلم “دروس هارمونية” للمخرج الكازاخستاني أمير بايغازين. يحكي الفلم قصة أصلان ذي الثلاثة عشر عاماً الذي يتعرض لفحص طبي لأنه أُذَل أمام جمع من أصدقائه الطلبة فيتحرر من الاضطراب المستتر لشخصيته، لكن الشكوك لا تزال تراوده، فهو يصارع من أجل النظافة، ويسعى لتحقيق الكمال، ويريد أن يسيطر على الأشياء المحيطة به، لكن بولات يقمعه، ويزدريه، ويبتزه، كما يبتز الطلبة الآخرين. أنجز بايغازين عدداً من الأفلام أهمها “سعيد ومُنتهَك”، “ذئب البراري” و “يوميات جان المُصوَّرة”. أما الجائزة الأخيرة من جوائز مهرجان برلين الأساسية فهي جائزة أفضل فلم أول ضمن تظاهرة “جنيريشن”، وهي جائزة مالية قيمتها “50” ألف يورو أُسندت لفلم “ذي روكيت” للمخرج الأسترالي كيم مورداونت الذي يحاول بطله “آهلو” أن يثبت أنه حسن الطالع، وليس مشؤوماً ملعوناً. وفي هذا السياق نوّه المخرج وون كار واي بفلمين آخرين وهما “ليلى فوري” للمخرجة بيا ماري من إفريقيا الجنوبية و”أرض موعودة” للأميركي ستيفن سوذيربيرغ.
الأفلام العربية كانت لها حصة في الجوائز الجانبية فقط، فقد حصل المخرج الفلسطيني مهدي فليفل على جائزة السلام عن فلمه “عالم ليس لنا”، فيما نالت المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر على جائزة النيتباك التي تكافئ الفلم الأسيوي من قِبل النقاد عند فلمها “لما شفتك” الذي تسجِّل فيه إنطلاقة الكفاح المسلّح عام 1967، علماً بأن الفلمين قد شاركا في تظاهرتي “بانوراما” و”فوروم”. كما حصل فلم “انشالله” للمخرجة الكندية باربو لافاليت على جائزة لجنة تحكيم النقاد الدوليين “فيبريسي” الذي تناولت فيه الشأن الفلسطيني أيضا.