العودة الجديدة لـ “داي هارد”
محمد رُضــا
بالنظر إلى الكم الكبير من الأفلام التي تشكل أجزاءاً متراكمة مما يتكوّن سريعاً كـ “مسلسل”، يجد المرء أمامه تاريخاً حافلاً من سينما تتـّـكل بشدّة على إنجازات شبابيك التذاكر لكي تمنح نفسها مزيداً من النجاح ذاته.

بكلمات أخرى، فإن ما يودعه المشاهدون من عائدات ضخمة للأفلام التي تضرب السوق ليس فقط المال، بل الثقة بأن مزيداً من النوع ذاته سوف ينجز النجاح نفسه إن لم يكن أعلى من سابقه. وبأن من أعجبه «إسماعيل يس في البحرية» سيعجبه «إسماعيل يس في البوليس الحربي» فلم لا يتم تحقيقه أيضاً وبالعناصر ذاتها من ممثلين رئيسيين ومساندين ومع المخرج نفسه غالباً وإن لم يكن فمخرج يستطيع أن يكمل أسلوب المخرج السابق ولا يشق عنه.
من هنا تنشأ المسلسلات وتتكاثر وهي، بإستثناء قلّـة قليلة للغاية، أفلام جماهيرية القصد وليست بديلة أو مستقلّـة.
الموضوع يحتاج لبحث موسع جدّاً وبل لما هو أكثر، لكن ما يستدعيه للتمهيد هنا هو النجاح اللافت هذا الأسبوع لفيلم «يوم جديد للموت بتشبّث» A Good Day to Die Hard الذي هو الجزء الخامس من مسلسل لم يتم إطلاقه في البداية على هذا النحو لكن نجاحه دفع بهذا الإتجاه.
نجاحه كان أيضاً لافتاً بالنسبة لهوليوود ورجال أعمالها من حيث أنه من النوع الرجالي العنيف ذاته الذي ذبل حين قام كل من أرنولد شوارتزنيغر وسلفستر ستالون بالإقدام عليه في الأسابيع الثلاثة الفائتة. ففي حين أن فيلمي «الوقفة الأخيرة» (بطولة شوارتزنيغر) و«رصاصة إلى الرأس» (ستالون) توفّـيا بعد أيام قليلة من بداية عروضهما التجارية التي انطلقت قبل أسابيع قليلة، كسر الفيلم الجديد، بطولة بروس ويليس، التوقّـعات وحقق ما لم يحقق منافسيه.
الرابط بين الأفلام الثلاثة ليس ف��ط أنها أفلام أكشن، بل أنها أفلام أكشن من بطولة ثلاثة من نجوم الثمانينات والتسعينات. بروس ويليس (57 سنة) هو من يقود بطولة «يوم جيد للموت…» وأرنولد شوارتزنيغر (65 سنة) هو من لعب بطولة «الوقفة الأخيرة» في حين قام سلفستر ستالون (66 سنة) ببطولة «رصاصة إلى الرأس».
المسألة ليست في أن بروس ويليس أصغر سنّـاً فالفوارق ليست كبيرة في نهاية المطاف بالنسبة لجمهور يتألّـف اليوم من غالبية دون الثلاثين. لكنها في أن الواحد من هؤلاء يبدو وحيداً في عمله إذا لم يؤازره تاريخ هذا العمل. بكلمات أخرى، حين قرر شوارتزنيغر بطولة فيلمه، اختار تقديم قصّـة جديدة لا سابق لها، وكذلك فعل ستالون في حين أن بروس ويليس وجد سنداً تجارياً كبيراً في العودة إلى سلسلة «داي هارد» التي إنطلقت سنة 1988 ولو كان إختيار شوارتزنيغر إعادة إنطلاقه عبر جزء جديد من «تيرميناتور» (الذي لا يزال جزأه الأول 1984 من بين أكثر أفلامه نجاحاً إلى اليوم) ربما لحصد «الوقفة الأخيرة» علامات فارقة بين جمهور اليوم.

وهناك شيء آخر مهم في تفاصيل الشخصيات. «داي هارد» الأول [أخرجه جون مكتيرنن الذي يحاول الآن تحاشي الدخول إلى السجن بتهمة الإدلاء بإفادة كاذبة في قضية كان شاهداً فيها] قدّم التحري النيويوركي جون ماكلين الذي حط في لوس أنجيليس ليزور زوجته العاملة في إحدى المؤسسات الكامنة في واحدة من ناطحات السحاب. هذا في الوقت الذي داهمت فيه عصابة قوامها أشرار غربيون المبنى لإحتجاز كل من فيه (بعد ساعات الدوام) دون أن تنتبه إلى وجود ذلك التحري داخل المبنى. العلاقة بين البطل وزوجته (بوني بادليا التي لا تظهر في الفيلم الجديد) لا تطغى على الأحداث ولا تفرض نفسها على المشاهد، لكنها موجودة ولها عنصر عاطفي لا بأس بحجمه ضمن الحكاية ككل.
لكن بطلا «الوقفة الأخيرة» و«رصاصة إلى الرأس» هما “ذئبان وحيدان”، كما القول الشائع الواصف لبطل لا عائلة له أو أقارب يلعبون أي دور في الحكاية. نعم لدى سلفستر ستالون إبنة، لكنها لا تمثّـل الكيان العائلي بحد ذاته، بل إمتداد لا تأثير له على الأحداث. في الجزء الخامس والجديد من سلسلة بروس ويليس هذا العنصر يعود. جون ماكلاين ينتقل إلى موسكو ليساعد إبنه من ورطة هو فيها. بذلك يضع الفيلم مشاهديه مرّة أخرى في كيان العلاقة الأسروية. طبعاً على هذه العلاقة، تبعاً للكليشيهات، أن تستند إلى خلفية غير مشجعة، فالعلاقة بين الإثنين عملياً مقطوعة ومضطربة، لكن الذي سيكتشفه جون هو أن إبنه (جاي كورتني) عميل للمخابرات الأميركية تم إرساله في مهمّـة القضاء على خطّـة يقوم بها تجار أسلحة ليبيعوا بلداً ما أسلحة نووية. هنا، وأيضاً، ضمن الكليشيهات المحفوظة، يتم إظهار ذلك التعاون الشديد بين الأب والإبن للدفاع عن المصالح الأميركية.
مثل هذه المواقف لم تكن سابقاً بمثل هذه الحدّة. «داي هارد» تمّت أحداثه في لوس أنجيليس والعصابة الخطرة كانت من أشرار أوروبيين وأميركيين. «داي هارد 2» [إخراج رَنـي هارلن- 1990] تنتقل الأحداث إلى مطار دولز في واشنطن حيث عصابة (غربية أيضاً) تختطف رهائن إحدى الطائرات مهددة إياها بالموت إذا لم يتم الإنصياح لمطالبها. زوجة التحري الصارم كانت من بين الركّـاب. بعد خمس سنوات، تبقى الأحداث داخل أميركا في «مت بتشبّث مع إنتقام» [جون مكتيرنن- 1995] حيث يحاول جون، بمساعدة رجل عادي لعبه سامويل ل. جاكسون، إفشال خطّـة إرهابية مقرها هوليوود. مرّة أخرى، الإرهابيون غربيون (يقودهم جيريمي آيرونز).

في الجزء الرابع، «عش حرّاً أو مت متشبّثاً» (جمع نحو 384 مليون دولار من أنحاء العالم وأخرجه سنة 2007 لن وايزمن) تحوّلت اللعبة إلى تقنيات الدجيتال والكومبيوتر وكان من ذكاء الإنتاج تقديم ويليس مع ممثل شاب (تيموثي أوليفانت) لجذب الجمهور الشاب إليه.
والعنصر الأجنبي مهم دائماً في مثل هذه الأفلام، وإذا كانت سلسلة «داي هارد» لعبت على منوال أن الأشرار جميعاً أجانب، فإن «الوقفة الأخيرة» لا يبتعد مطلقاً عن هذا المعنى، فحكايته تتركّـز حول تلك العصابة اللاتينية الهاربة من القانون الأميركي التي يعترض طريقها الشريف الأبيض شوارتزنيغر، وبما أن شوارتزنيغر يتحلّـى بلكنة نمساوية إلى اليوم، فإن السيناريو يضع على لسانه عبارة أثارت السخرية هنا وهي “أجانب مثلكم يمنحون مثلنا صيتاً رديئاً”.
لكن «رصاصة إلى الرأس» لا يلعب لعبة الأجانب الأشرار. على العكس لجانب سلفستر ستالون الممثل الكوري سونغ كانغ. الأول قاتل محترف “محروق” من المجتمع، يسعى للإنتقام من قاتل أبيض (جاسون مومووا) والثاني تحري رسمي يطلب القاتل بنفسه. بذلك تم للمخرج وولتر هيل استبدال بطليه السابقين في «48 ساعة» الأبيض (نك نولتي) والأسود (أيدي مورفي) بواحد أميركي من أصل إيطالي وآخر أميركي من أصل كوري.
مقوّمات النجاح بالنسبة لفيلم «يوم جيّـد لموت متشبث» استندت أساساً على نجاح أجزاء السلسلة السابقة. جمهور المعلّبات ذاتها مع فوارق ضئيلة. فالفيلم الجديد جمع بين الذين يعودون إلى السلسلة وقد باتوا فوق الثلاثين من العمر، لجانب أولئك الذين يرغبون في التعرّف إليها.