أفغانستان.. الحرب الخاسرة
قيس قاسم
“لم يكن بين كل مهاجمي الحادي عشر من سبتمبر أفغانياً واحداً ولم يكن بينهم أحد ينتمي الى حركة “طالبان””. تلك بعض مفارقات الحرب التراجيدية على أفغانستان كما يسجلها الفرنسي ألبرتو ماركوارت في فيلمه “أفغانستان.. الحرب الخاسرة” ويسردها ضمن سياق عرضه لأسباب الحرب وعن حتمية خسارة الولايات المتحدة الأمريكية لها كونها استندت وبالأساس على حجج واهية وكان دافعها الأول “الانتقام”.
أن يتوصل تسجيلي الى استنتاج نظري كهذا في مسألة سياسية شائكة ومعقدة لا يخلو بدوره من تعقيد على مستوى التنفيذ البصري الصرف، وقد يأتي في النهاية على حسابه وعلى حساب مستوى فنيته، حتى إذا نجح في توصيل فكرته، لصعوبة توفر خامات فلمية توازن بين قوة الفكرة وجودة الصنعة في مثل هذة الحالات، لهذا لجأ ماركوارت الى وسيلة تقليدية تعتمد مقابلة شخصيات لها صلة شديدة بالموضوع ولها قدرة على اضفاء حيوية اليه والى جانبها أضاف اليه صوراً وتسجيلات مؤرشفة لم يعرفها العالم من قبل عبر وسائل الاعلام أو في الأقل لم يطلع عليها بقدر ما اطلع على رد فعل الجانب الثاني من معادلة الحرب، وبهذا حقق عنصراً مهماً في تركيب وثائقيه، ألا وهو: “التحفيز”.
لقاءات سفير حكومة “طالبان” في باكستان والمتحدث الرسمي بإسمها الملا عبد الله سلام مع الصحفيين ومؤتمراته العلنية بعد الهجمات مباشرة، لم يسمعها العالم، لقد طغت خطابات الرئيس الأمريكي بوش على سواها ووحدها كانت الأرض تسمع صداها العالي عبر المحيطات. لم يأبه أحد بمخاوف طالبان ولا قدر الطرف المتضرر دعواتهم للحوار والتفاهم، لقد أصيبوا بعمى “الانتقام” ولم يعد من معنى للطرف الآخر وبما يعرضه من أفكار. في الصورتين المتعارضتين يفهم المرء، ولو متأخراً، جانباً خطيراً من اللعبة المدمرة.

فطالبان شعرت بأن هجمات سبتمبر تحولت الى كابوس يهدد وجودها وان الانتقام منها آت لا ريب فيه لأن عدو أمريكا الأول يقيم بين ظهرانيها وأن ساعة الهجوم قد أزفت بعد خطاب بوش في الكونغرس يوم العشرين من سبتمبر وفيه طالبهم بتسليم رأس بن لادن كأمر غير قابل للنقاش. لم يسمع العالم كلمات السفير “نحن ندين الإرهاب وممارساته.. وندعو العالم كله للمجيء عندنا للتباحث وايجاد حل”. لقد تبخرت كلماته ولم يسمع لها صدى! لم تنقل المحطات التلفزيونية الأوربية والأمريكية ولا وكالاتها الاخبارية العالمية تلك الكلمات ولم تبث صورة الخطاب، كانت معنية أكثر بصور الخراب المريع الذي أصاب المركزين وكانت هي السائدة.
حتى أصوات بعض رجال مخابراتها لم تصغي الإدارة الأمريكية اليها، فالحرب على أفغانستان صارت لهم هدفاً بحد ذاته وصارت “القاعدة” و”طالبان” بالنسبة اليهم ذات الشيء، ومن يبحث عن الفوارق يضع نفسه خارج حدود “العدالة والوطنية الحقة”.
في “أفغانستان.. حرب خاسرة” تلمس مدهش لموقف المخابرات الأمريكية من الحرب ضمن سياق وظيفتها وتعارضها مع مصالح قادة الجيش وصناع الحروب فبالنسبة للعسكر كان الهجوم “الانتقامي” على بلد بعينه أفضل لهم بما لا يقاس من ملاحقة شبكة ارهابية معقدة التنظيم. كانت حجتهم ترتكز على روح الغطرسة القومية والتهيج العاطفي “لقد وفر طالبان مكاناً آمناً للقاعدة التي هاجمتنا في عقر دارنا وقتلت أكثر من ثلاثة ألاف من مواطنينا لذلك لابد من مهاجمتنا لهم أيضاً.. هم شركاء عدونا.. لا بل هم أعداؤنا أيضاً”. وبهذا الصدد يسجل الوثائقي بالتفاصيل الدقيقة خطة الهجوم على أفغانستان وكيف أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تُشْعر حتى قادة الدولة المهاجمة بنيّتها المسبقة متعارضة مع حجتها الرسمية في أن تدخلها يستهدف بالأساس البحث عن قادة القاعدة وتقديمهم للعدالة! في ذات الوقت كانت آلتهم الدعائية تشتغل على مستوى أخر، محاولة فيه تصوير حجم الخراب الذي ألحقه طالبان بالمجتمع الأفغاني وكيف أعادوه الى الوراء قروناً وبخاصة موقفهم الرجعي من المرأة. لقد اقترن التدخل الأمريكي في ذهن المواطن الغربي بتحرير البلاد من طالبان وحرباً على التخلف وأن الأمريكان وحلفاءهم بتدخلهم في تلك البلاد انما يساهمون في تحرير نسائها، لدرجة أصبح في ذهن أغلبية الفرنسيين ان العمل على تخليص الأفغانيات من “البرقع” سبباً كافياً لإقتناعهم بعدالة الخطوة الأمريكية “التحررية”. لقد جرى خلط مدروس للأوراق على المستوى الدعائي لكن على المستوى الفعلي وعلى الأرض جرى العكس تماماً لقد قرب الانتقام الأمريكي بين القاعدة وطالبان والاثنان صوراه بأنه يستهدف المسلمين بالدرجة الأولى وبأنه امتداد للفكر الصليبي، وبذلك كسبا تأييداً أكبر من عامة الناس وأمن ذلك قوة جدية لهما واحتياطياً بشرياً وافراً.

لم ينفع تكتيك الجيش الأمريكي بالتواري عن الأنظار في بداية تدخلهم، كون الميلشيات التي اعتمدوا عليها لمواجهة طالبان والقاعدة بدلاً عنهم كانت مُفسدة وقادتها رجال حروب بإمتياز وتجار مخدرات وفي مقدمتهم أحمد شاه مسعود القادم بدافع الانتقام القبيلي والشره للحصول على السلاح والمال، لايهمه من أين جاء قدر اهتمامه في الإنتقام من طالبان التي أخرجته من كابول وأضعفت سلطته ومصادر ثروته. المفارقة أن الأمريكان قد استعانوا بمن خرب البلاد قبل طالبان. لقد وجدوا أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه فمن جهة اضطروا للمشاركة المباشرة في الحرب ومن جهة أخرى اكتشفوا خطأهم في نوع تحالفاتهم المحلية، وكان هذا سبباً كافياً لذهابهم للأمم المتحدة وطلب مساعدتها في تخليصها من ورطتهم، لكن بعد فوات الآوان فالخسارة بدأت تلوح في الأفق والوعود التي أعلنتها لإخفاء قناع انتقامها لم تسعفها حتى بعد تشكيلهم حكومة “ديمقراطية”، فسرعان ما وصل فساد الأخيرة الى مستويات فاقت التصورات وحجم الفوضى التي عمت البلاد بسببهم لا يمكن وصفها بالنصر في مطلق الأحوال، بل التوصيف الأدق لها يتوافق مع عنوان الوثائقي نفسه: “أفغانستان.. الحرب الخاسرة”.. منذ البداية.