.. وانطلق مهرجان السينما الوطنية بمواجهة سياسية

أحمد بوغابة / المغرب
استمرارا لنص الأسبوع الماضي – انظر المرفق – حول فعاليات المهرجان الوطني للسينما المغربية، الذي يُقام حاليا بمدينة طنجة (شمال المغرب)، حيث قدمنا فيه تفاصيل هذه التظاهرة ومكانتها في الفضاء السينمائي الوطني، فإننا نعود إليه اليوم بعد انطلاقه في فاتح فبراير الجاري محترما برنامجه وما أشرنا إليه من حماس وتفاعل بين مختلف الفئات خاصة وأن السماء كانت في رحمة الجمهور بصفاء زرقتها نهارا كأنها امتداد لبحر المدينة الهادئ مع ريح خفيف ليلا.
وبما أن المهرجان كبُرَ وعظُمَ وأصبح له بعدا دوليا فلم يكن بالتالي افتتاحه روتينيا بقدر ما بدأ “ساخنا” فعلا بحكم أن “جهات سياسية”، محدودة أفق الرؤية، أرادت استغلال المناسبة لتخرج من عَطالَتِها حتى تثير النظر إليها، وربما تستدرج العطف على أنها الجهة التي تحمي “مبادئ الوطن وأخلاقياته”. وطبعا فهي تمارس ذلك في حق البسطاء فقط ولا تتجرأ على المستويات الأعلى خوفا على مصالحها الصغيرة والضيقة حيث ينطبق عليها حينها سياسة النعامة التي تخفي رأسها بعدم المواجهة الحقيقية.
قبل يوم من إعلان افتتاح المهرجان تم تنظيم وقفة – وُصِفت على أنها “احتجاجية” – ضد فيلم مغربي بعنوان “تنغير – القدس: أصداء الملاح” للمخرج الشاب كمال هشكار بادعاء أنه فيلم يدعو للتطبيع مع إسرائيل!!! والغريب في الأمر أن “المحتجين” لم يشاهدوه حتى حين عرضته القناة الثانية المغربية وهي قناة في ملك الدولة. كثيرون منهم – الذين ناقشتهم – لا يعلمون شيئا عن الفيلم، منطلقين فقط من “مُسلَّمَةٍ” أن مجرد ذكر إسرائيل تشكل “تهمة” في حد ذاتها. ومنهم مازال يصر على حضور الوقفة “الاحتجاجية” يوم الثلاثاء 5 فبراير. وهو يوم عرض الفيلم.

كمال هشكار

وهذا الحدث دفع بعُمدة مدينة طنجة في كلمته التي ألقاها يوم الافتتاح أمام الحضور الكبير للسينمائيين والفنانين والمدعوين والإعلاميين وغيرهم  بالرد المباشر والعلني على هؤلاء دون أن يختفي وراء الصيغ الدبلوماسية كما تجري العادة في مثل هذه المناسبات. وقد اعتبر الكثيرون أن كلمة العُمدة كانت قوية وشُجاعة. وهكذا بدأ المهرجان فعالياته بالمواجهة السياسية التي كان ضحيتها فيلم سينمائي حَمَّلُوه أكثر مما يحتمل من أبعاد سياسية وإيديولوجية. لكن، لعبوا دورا مهما في التعريف به لدى عامة الناس بهذه الدعاية المجانية له فأصبح الفيلم/الحدث كموضوع للنقاش السينمائي/السياسي/الفني/وحق الاختلاف والتعبير. نقاش لم يتوقف بعد ويبدو أنه سيستمر إلى غاية نهاية المهرجان خاصة وأن المخرج موجود في طنجة.
هذه المواجهة/المواجهات هي جزء من المهرجان الوطني للسينما المغربية في كل دورة بموضوع مختلف أحيانا، ويتكرر في أحيان أخرى، منذ سنة 1991 على إثر فيلم “حب في الدار البيضاء” للمخرج عبد القادر لقطع. فقد أصبح إذن تقليد تعوَّد عليه متتبعوه وهو ما لا يتوفر في مهرجانات أخرى بالمغرب. أصدرت بعض الهيئات السياسية والنقابية، عبر صحفها، بيانات تتبرأ من أعضائها وممثليها بمدينة طنجة الذين شاركوا في “الوقفة” المذكورة. مشددة على أنها ليست ضد الإبداع وتندد بمن يمارس الوصية عليه. وأن مجال الصراع السياسي له أمكنته الخاصة به.
“تنغير – القدس: أصداء الملاح” هو فيلم وثائقي ببعد سوسيولوجي وتاريخي حيث انطلق مخرجه كمال هشكار من مدينة صغيرة أمازيغية بجبال الأطلس حول سكان تلك المدينة التي ازداد بها لكن كبر وترعرع بفرنسا منذ كان عمره 6 شهور على إثر إلتحاق والدته بأبيه الذي كان عاملا مهاجرا هناك. لكن الطفل كمال كبر وأصبح شابا فتذكر أسفاره الطفولية السنوية، خلال عطلة الوالد، إلى البلد فأنجز فيلما حول سكان قريته الصغيرة المنسية ليكتشف أنه كان بها يهود مغاربة أمازغيين يعيشون بسلام مع المسلمين المغاربة الأمازغيين فسافر يبحث عنهم في إسرائيل ذَكَّرَهُم بماضيهم خاصة وأنهم يعانون من العنصرية في إسرائيل عبر عنها كثيرون منهم  بوضوح ونظموا عنها أغان رددوها في نهاية الفيلم.

الدرس السينمائي في وثيقة

لم يعرف افتتاح المهرجان المواجهة السياسية فقط بل أيضا لحظات جميلة تم تكريم فيها أسماء فنية مغربية كبيرة منها من رحلت بعد انعقاد دورة السنة الماضية وكذا الأحياء الذين قدموا الكثير وما زالوا للسينما المغربية رغم ما ساد في تلك الليلة من أحزان. تم تتويج هذه الفقرة التكريمية بعرض مقتطفات من فيلم وثائقي في طور الإنجاز حول الراحلين الزوجين أحمد البوعناني ونعيمة سعودي.
وما ذكره الراحل أحمد البوعناني حول تاريخ السينما المغربية، الذي يتطلب إعادة كتابته، في غاية الأهمية فضلا عن قيمة تحاليله للسينما في حد ذاتها كإنتاج وإبداع وكذا أسلوب عمله واختياراته الجمالية وكيف يبحث فيها من مختلف الزوايا ومكونات الصورة وحيثياتها من ضمنها اختياراته للألوان أو الأبيض والأسود حيث قال بأن كل منهما يغير جذريا الرؤية السينمائية والنظر إليها في آن واحد. تلك المقتطفات كانت بمثابة درس سينمائي ناقشه فيما بعد بعض المهتمين به على هامش العرض.
يكتشف المُشاهد في تلك المقاطع المجزأة من الفيلم الغير المكتمل أن الراحل أحمد البوعناني كانت لديه مشاريع سينمائية كثيرة لم تر النور بسبب ما تعرض له من منع إبان مرحلة إدارة إدريس غنام للمركز السينمائي المغربي وكان يخرج أفلاما ويوقعها آخرين باسمهم حتى تخرج إلى الضوء. وكان يكتب شعرا ورواية ويرسم تشكيلا. كتب سيناريوهات عدة وصحح كثير منها لمخرجين مبتدئين، له كتاب حول تاريخ السينما المغربية لم يصدر بل ضاعت صفحات منه في حريق بمنزله.
عشرون دقيقة التي شاهدناها كانت بمثابة درس سينمائي مصور واضح وصريح وناطق بالحقيقة عن مرحلة خفية من تاريخ السينما المغربية وعن مفهوم السينما نفسه والتعامل معه كفن محلي أوعالمي.
غاب مخرج الفيلم علي الصافي، الذي يوجد حاليا في الولايات المتحدة الأمريكية في إطار عمله المهني، إلا أن إبنة الراحلين الفنانة تودا حضرت التكريم الذي حظي به والديها، وحضر معها خالها المناضل نور الدين سعودي الذي كانت تربطه علاقة خاصة بأخته السينمائية. هذا العرض كان أيضا بمثابة الذكرى الأربعينية على رحيل السينمائية نعيمة سعودي البوعناني الذي صادف فعاليات المهرجان الوطني.       

الحصيلة السنوية… أقوى لحظة في المهرجان

شعار المهرجان

تحولت في السنين الأخيرة الثلاثة إحدى فقرات المهرجان إلى أهم موعد سنوي فيه، ينتظره جميع العاملين في السينما والمهتمين بها بشوق كبير نظرا لقيمته المعنوية والمعرفية والإعلامية وحتى… السياسية إذا أردنا العمق. ولا يجتمع نفس العدد الكبير والضخم من الحضور إلا في هذه الفقرة بالضبط حتى أصبحت أهم من حفل إعلان الجوائز ذاته.
وهذه الفقرة التي أصبحت بدورها قارة في المهرجان، تتم عادة في آخر يوم منه، ساعات قليلة قبل إختتامه، وتكمن أهميتها في أن المدير العام للمركز السينمائي المغربي، الأستاذ نور الدين الصايل، هو الذي يحتل المنصة لإدارتها بالحديث فيها وعنها ومهمة الردود أيضا. فهو يعلن هنا – في هذه الفقرة – بشجاعة المسؤول عن تحمله للمسؤولية كاملة ولا يلصقها بغيره. سلوك مسؤول نادر  لمسؤول في المغرب. يجلس أمام جمهور غفير مُدركا خصوصية اللحظة. غالبا ما تعرف هذه الفقرة تشويقا طيلة أسبوع المهرجان، ويتصاعد تشويقها مع اقتراب موعدها قُبيل حفل توزيع الجوائز. إنها الفقرة التي يقدم فيها الأستاذ نور الدين الصايل الحصيلة السينمائية السنوية بالمغرب حيث يتم حينها توزيع كُتَيِّب (بالعربية والفرنسية) به جميع التفاصيل، محتويا على مختلف الإنجازات في مجالات السينما (إنتاج الأفلام المغربية، الإنتاج المشترك، الأفلام الأجنبية المُصورة في المغرب، مؤسسة المركز السينمائي المغربي، القاعات السينمائية، المهرجانات في الداخل والخارج والجوائز وغيرها من التفاصيل مُعززة بالأرقام). وهي وثيقة سنوية تصلح للدراسات والبحوث الجامعية وغيرها لتأريخ السينما بالمغرب، معطيات رسمية مسؤولة.
لا يتم الاكتفاء بتوزيع تلك الوثيقة على الحضور وكفى شر المؤمنين ليعملوا بها ما شاؤوا من تأويلات، بل يصر المدير العام للمركز السينمائي المغربي على فتح النقاش حولها وتعميقه مع من يسعى لإغنائها أو نقدها أو مساءلتها في ندوة صحفية مفتوحة على الجميع (وبجعل الندوة أيضا مُتاحة للأجانب من خلال الترجمة الفورية). أعتقد أنها قمة الشفافية والديمقراطية والإيمان بالآخر لكي يساهم في دفع السينما المغربية إلى الأمام. يعمل الأستاذ نور الدين الصايل دائما، في هذه الوقفة التأملية والتقييمية السنوية، من رفع مستوى النقاش بمداخلاته القيمة والمنهجية، ورسم معالم الخريطة السينمائية في العالم وكيف ينبغي للمغرب أن يجد مكانا له فيها سواء في منطقة الشمال، التي تحتكر السينما تاريخيا، ومنطقة الجنوب التي ننتمي إليها جغرافيا ونشاركها في نمط الاقتصاد ومختلف المشاكل السينمائية التي نتقاسمها نفسها أحيانا. كما يُحوِّلُ بعض الأسئلة إلى دروس في السينما ذاتها حيث لا يرفض سؤالا مَهْمَا قد يبدو للحضور تافها أو دون معنى. أما هو فكل سؤال له مشروعيته ولا يتعامل معه بسوء النية بقدر ما يجد له مبرراته ومبررات لمن طرحه. أعرف فيه هذه المنهجية منذ سنوات حتى لا يحبط أحدا. وعادة ما يُعطي الكلمة/أو السؤال للذين يعرف هجومهم عليه في الصحافة أو في الهوامش، أو يعارضون سياسته ليناقشهم علنيا وبهدوء العارف، وكمناسبة لإزالة الغموض عندهم وتنويرهم بالوضوح الكافي. وأيضا لكي يتشجع الجميع بطرح ما يدفنه من شكوك سينمائية عَمَلًا بقولة سقراط الشهيرة: “تكلم حتى أراك”، وهو القادم من عوالم الفلسفة وعلومها. يعطي الأستاذ نور الدين الصايل لهذه الفقرة/الجلسة كل الحمولة العلمية في حقل فنون السينما فتكون سخونتها في أعلى درجة بالقاعة. يمكن الحديث عن كل شيء خلالها بدون تحفظ سواء تعلق الأمر بالسينما نفسها أو بالمشاكل النقابية أو بالتكوين والمدارس والمعاهد السينمائية القائمة والرقابة. لا وجود للممنوع في السؤال على الإطلاق فيتلهف الأغلبية للكلام.
إن مَنْ يخلف موعد هذا اللقاء يكون قد ضيَّعَ المهرجان نفسه لأن الأفلام يمكن مشاهدتها عند عرضها التجاري بالقاعات، والجوائز تتداولها الصحافة كلها في نفس اللحظة في غالب الأحيان لذا يبقى لقاء الحصيلة هو الوحيد الذي لا يمكن إعادته في مكان ما بنفس القوة والحيوية والمعرفة. إنه كنه  المهرجان. ويمكن أن يكون ما ورد فيه بمثابة خريطة الطريق للعمل/للمستقبل.

 “الكتاب الأبيض”؟!؟! لم يجد الكاتب..

السينمائيان الزوجان احمد ونعيمة البوعناني

كان من المقرر أن يتم تقديم “الكتاب الأبيض” خلال المهرجان من لدن الوزارة الوصية (وزارة الاتصال) لكن يبدو أنه مازال أبيضا ولم يجد أقلاما في المستوى لصياغته وملأ فراغ صفحاته. كثيرون ينتظروه بعد تأجيل تلو الآخر كأنه مسلسل برازيلي الذي لا ينتهي وبدون أن يكون مشوقا. فهذا “الكتاب” المزعوم مفروض فيه أن يحمل بين طياته نتائج الخلاصات لما سُمي عُنوة وبُهتانا في المغرب ب”مناظرة السينما المغربية” التي انعقدت قبل ثلاثة شهور ونصف (مر عليها 3 أشهر ونصف الشهر) والتي تُعتبر من أفشل المناظرات على الإطلاق. ليس في المغرب فقط وإنما في جميع الأقطار المتخلفة التي تعطي مهامًا لأشخاص ليسوا في مستوى المسؤولية ولا يفقهون فيها شيئا، فهم فاشلون في كل شيء فكيف سيفلحون في ما هو أصعب عليهم بكثير. كيف يمكن لشخص مجرد موظف متملق فشل في الصحافة والنقد السينمائي وجرب الإخراج دون جدوى علما أن الهواة الغير المُدَّعين ينجزون أفلاما أفضل بكثير من “أفلامه”. لينتقل إلى الرواية فيُصاب بنفس المصير. كيف لهذا الشخص الموظف الذي استغل المغادرة الطوعية لكثير من أطر الوزارة التي خلقت الفراغ حتى يتمكن من الصعود بوسائل غير شريفة ليقرر في مصير السينما المغربية وهو الذي لا يعرف كيف يدير جلسة حتى؟
إنه خطأ وزارة الاتصال المغربية التي تجهل المستوى المعرفي لموظفيها وتُسَلِّمُ لهم مهاما قبل امتحانهم فيها لتجد نفسها الآن متورطة مع المجتمع السينمائي المغربي والصحافة المغربية وحتى مع المؤسسات الرسمية للدولة كالبرلمان. ولا أدري شخصيا لماذا كلفت الوزارة شخصا يُراكم الفشل في كل شيء لينظم المناظرة، هي كبيرة عليه وعلى طاقته. علما أنها تشرف على هيئة سينمائية تابعة لها ودورها القانوني هو السينما وسبق لها أن نظمت أهم مناظرة سنة 1991. سؤال عريض للسيد الوزير الذي أعرف إخلاصه.  
مرت ثلاثة شهور على ما سُمي إجحافا في حق السينما المغربية “مناظرة” دون ان تنتج ما وعدت به في الأول وهو “الكتاب الأبيض” (الفارغ) ليكون أرضية عمل للجميع. ولكي تستدرك الوزارة “ورطتها” فقد أسرعت بالإعلان عن لجن العمل واحدة حول القاعات وأخرى حول المهرجانات وذلك قبل صياغة “الكتاب” الذي يبدو هو شؤم في أصله. إن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن عوَّلت عليه الوزارة يجرها إلى الهاوية وكسر كل المكتسبات التي تحققت بنضال شاق في عالم ليس سهلا وهو عالم السينما (نذكر فقط بمعطى تاريخي المهم في عالم السينما حول الاستثناء الثقافي بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا لمن يريد أخذ العبرة بغرض تشطيب مكاتب الوزارة من الرداءة التي تتسللها عيوب أشخاص بعينهم وليس في المؤسسة) .      


إعلان