هل وصلت أسابيع الفيلم الأوروبي بالمغرب إلى نهايتها

هل وصلت “أسابيع الفيلم الأوروبي بالمغرب” إلى نهايتها؟… سؤال تردد مؤخرا بين مجموعة من المهتمين بالمشهد الثقافي السينمائي في المغرب خاصة مِن لدُن من كان – وما زال – يُتابع بإخلاص شديد هذه الأسابيع وما تحمله (سنويا) للجمهور المغربي من جديد الأفلام، ومنها تُحف سينمائية من أفضل وأحسن ما تُنتجه الأقطار الأوروبية خلال السنة. وكلما توسعت خريطة أوروبا في إطار “اتحادها السياسي والاقتصادي” بالتحاق أقطار جديدة كلما تمكن الجمهور – هنا في المغرب أو بالأصح في الرباط والدار البيضاء – من توسيع رؤية المشاهدة بأفلام لا تصله إطلاقا عبر السوق التجاري العادي. خاصة وأن تلك الأقطار الجديدة هي من الجهة الشرقية أو الوسطى في القارة العجوز حيث العلاقة معها محدودة جدا في مختلف المجالات، فما بالكم بالسينما حيث تتطلب دائما شرطا مسبقا بأن تكون الأفلام بالترجمة (subtitle ) الفرنسية وبغيابها غير ممكن (حتى تلك الأقطار نفسها لا تجتهد نحونا أيضا).
أفلام كثيرة رائعة إلى حد مهول في جماليتها جاءت من شمال أوروبا فنشاهدها مرة واحدة بهذه المناسبة (أسابيع الفيلم الأوروبي بالمغرب) ولن نتمكن من إعادتها بعد ذلك – خاصة المتخصصين من الباحثين والنقاد – للكتابة عنها بالعمق النقدي. فتُصبح مجرد ذكرى مرت في كياننا عابرة بخلودها وبَصَمَتْهُ بالجمال دون أن نحتفي بها كما يتطلب الواجب المهني الاحترافي.
هل لأن هذه “الأسابيع” الجميلة قد وصلت سن الرشد ب 22 سنة من عُمرها وب 22 دورة وبالتالي قد كبرت ولم تعد مراهقة وما عليها إلا أن تبحث عن حياة جديدة؟
قد يكون السؤال الأخير هو الأصح. ولكن إذا لم يكن الجواب في المستوى المطلوب على الأول فربما تغيب “الأيام” و “الأسابيع”… و”الجمال”. وما زاد لهذه الأسئلة غموضا هي الكلمة التي ألقاها سفير الإتحاد الأوروبي بالمغرب، السيد إنيكو لاندابورو، يوم افتتاح هذه التظاهرة السينمائية بالمسرح الوطني محمد الخامس في الرباط (مساء يوم 4 مارس الجاري) مُعلنا صراحة أن التطور التقني والتكنولوجي الذي تشهده السينما في العالم الغربي، منها أوروبا طبعا، لم يعد يسمح على الإطلاق بوجود أفلام كأشرطة تقليدية بحجم 35 ملم. قائلا: “لحرصنا الدائم على تقديم آخر الأعمال الجيدة وضعتنا هذه الدورة أمام تحد كبير للعثور على أفلام بحجم 35 ملم إذ سيصبح الشكل الرقمي قريبا هو الشكل الوحيد المتوفر في الأفلام. ونتمنى أن نجد قريبا جدا بالمغرب قاعات سينمائية قادرة على عرض الأفلام الرقمية حتى يستمر هذا الحدث السينمائي دون انقطاع في السنة المقبلة” !!! أما المدير الفني، السيد علي حجي فلم يترك لنا مجال الشك والتردد في كلمته الافتتاحية بالكُتًيِّب الذي تضمن البرنامج وبالضبط في الفقرة الثانية حيث جاء فيها بالمكتوب “..ستشاهدون في هذه الدورة المخصصة للسينما الأوروبية آخر العروض السينمائية بقياس 35 ملم..”. وماذا بعد؟؟؟ لا ندري.
إشارة واضحة وصريحة ومباشرة إذن من طرف مسؤول دبلوماسي كبير ومهم (السيد إنيكو لاندابورو) – ومديره الفني ل”الأسابيع” – بإمكانية توقيف “الأسابيع” إلى أجل غير مسمى لأنه من المستحيل تجهيز قاعات عصرية بالأجهزة الرقمية في غضون سنة واحدة. لأنها ليست مجرد آلة يتم تركيبها ثم استخدامها كمصباح في المنزل بل تتطلب العمل في التركيب داخل القاعة للوصول إلى الدقة المتناهية بين الصورة والصوت ببرامج إلكترونية لها مفاتيح مرموزة بدليل مُحدد في التاريخ والساعة وغيرها من العلامات الرقمية ليس مجالنا الآن الخوض فيها في هذا النص (قد سبق لي الإشارة إليها بأحد نصوصي المنشورة في موقع الجزيرة الوثائقية قبل سنتين حين تطرقت، عرضا، لكتاب (Mort de la Pellicule) “موت الشريط” ضمن حديثي عن الفيلم الوثائقي بين الذات والواقع). لا شك إذن أن هذه التظاهرة ستأخذ قسطا من الوقت في انتظار تجهيز القاعات وعصرنتها بالعمل على رقمنتها. متى؟؟؟ لننتظر.
وقريبا جدا – في وقت أكثر مما يتصوره البعض – ستغيب أيضا الأقراص المُدمجة (دي.في. دي.DVD) حيث الأفلام تُرسل الآن عبر الأنترنيت من خلال رابط مُحكم فيه بكلمة سر تنتهي فعاليتها بمجرد العرض أو المشاهدة أو الاتفاق المسبق على عدد العروض. في الساعة والدقيقة والثانية. وأعتقد أن مَنْ له علاقات صداقة ببعض المخرجين وشركات الإنتاج أو التوزيع ربما تصله بعض هذه الأفلام للمشاهدة في زمن محدد ثم تغيب الشفرة وتنتهي صلاحيتها إلى أن تتجدد من جديد بالاتفاق مع صاحب العمل أو المكلف به.
أعيش شخصيا هذه التجربة وبالتالي أدري ما اقول. كما عشت مؤخرا تجربة مع مهرجان السينما الروحية الأوروبية الذي ينعقد بباريس حيث كنت عضوا في لجنة التحكيم فتوصلت ب 48 فيلما بين الطويل والقصير والروائي والوثائقي لمشاهدتها في بيتي على حاسوبي الخاص لمدة ثلاثة أسابيع، وإعادة مشاهدتها إن رغبت في ذلك، وكتابة التقارير عنها وتبادلها – افتراضيا – مع باقي أعضاء اللجنة بتنسيق مع رئيسها قبل الحسم فيها في لقاء جماعي ثم الإعلان عن الجوائز في يوم الحفل النهائي دون أن نكون مضطرين لمشاهدتها في القاعة أمام الجمهور طيلة 10 أيام من الصباح إلى الليل. أو المكوث في المهرجان طيلة مدة انعقاده. وهكذا تم أيضا تجاوز إرسال الأفلام بالبريد وما ينتجه من مشاكل وتأخير أو تعطيل أو تكسير، إلى آخره. ويمكنني أن أسوق أمثلة كثيرة للمشاهدة الافتراضية للأفلام عن بُعد ونحن في عقر بيوتنا. نترك ذلك لمناسبة أخرى وما أكثرها لأن وتيرة تطور السينما بمختلف مكوناتها أصبح أسرع بكثير في الزمن مما كانت عليه قبل عقد فقط. سينما الغد مختلفة جدا.
أما في عالم التسويق للقاعات التجارية فذلك بدأ يتم عبر الأقمار الاصطناعية أو HDD. إن ما يحصل في التوزيع السينمائي حاليا يشبه كثيرا لِمَا نقوم به يوميا مع هواتفنا النقالة وأجهزة الأنترينت لكن بمستوى أرقى تكنولوجيا.

السفير يرفع شعار: “عاشت حرية الإبداع”!

إلغوستو (أو الطَّعم)

ومن اللحظات المثيرة في يوم الافتتاح ل”أسابيع الفيلم الأوروبي بالمغرب”، يوم 4 مارس الجاري، قد تجلت أساسا في ما تضمنته كلمة سفير الاتحاد الأوروبي بالمغرب حين ختمها – أمام حضور مكثف – برفع شعار “عاش الفن وعاشت حرية الإبداع”. وكأنه بذلك يدخل بشكل غير مباشر في النقاش الدائر حاليا في المغرب حول الفن والحرية والإبداع وكأنه من خلال شعاره ذاك يعبر عن موقف واضح أيضا بوقوفه إلى جانب من يطالبون بالحرية في العمل الفني في المغرب. فهذه أول مرة يعرب مسؤول في هذه المؤسسة عن تضامنه بشكل علني وأمام الجمهور مع السينمائيين المغاربة في حريتهم.
وكانت الدورة السابقة من “أسابيع السينما الأوروبية بالمغرب” (الدورة 21 انعقدت قبل ثلاثة شهور فقط في الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر 2012) قد وجد فيها أحد الصحفيين ما يسيء للخصوصية المغربية بسبب أحد الأفلام الذي نعته بأبشع النعوت الأخلاقية دون أن يناقش الجوانب الفنية في الفيلم مكتفيا بما هو سهل في قاموس النعوت.
فهل كان ذلك وراء اختيار أغلب أفلام الدورة الجارية (الدورة 22) اختيارا مقصودا بالتركيز على أفلام الشباب والمراهقين كأفلام ترفيهية، كوميدية، هزلية؟ وابتعدت عن الأفلام ذات الجرأة الفنية في التجديد على المستوى السينمائي تخرج من الإطار الشائع في السينما السهلة السائدة والمُشاعة في السوق؟ والغريب أن جل الأفلام المُبرمجة هذه السنة تحمل علامات “الممنوع” (ممنوع عن أقل من 12 سنة أو 16 سنة) وهي أفلام لا يوجد بها ما يدعي لذلك سواء على مستوى الجنس أو العنف أو السياسة أو ما يمكن اعتباره يخل ب”الخصوصيات المغربية” في زمن البارابول (الدش) والأنترنيت. قد نستثني من اللائحة الفيلم البولوني “إسنشال كلينغ” (essential killing) بسبب مشاهد العنف فيه. أم فعلا لم يتمكن المنظمون من العثور على أفلام في مستوى عال بالشريط التقليدي؟ قد يكون هذا الاحتمال الأخير قائما وأعتبره شخصيا مقنعا.
8 أفلام من أقطار أوروبية مختلفة منها من تشارك سنويا تقريبا كفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وبلجيكا، ونجد هذه السنة إلى جانبها إيرلندا وبولونيا وبلغاريا. اقتصر عرض هذه الأسابيع على مدينتي الرباط والدار البيضاء فقط. جميع الأفلام المُبرمجة هي روائية باستثناء فيلم واحد وثائقي “إلغوستو” للمخرجة صافيناز بوسبيع. ويتم أيضا عرض فيلمين قصيرين مغربيين في إطار تقليد لتكريم السينمائيين المغاربة الشباب وهما “كما يقولون” لهشام عيوش الحاصل على الجائزة الخاصة بلجنة التحكيم من مهرجان الفيلم القصير للسينما حوض المتوسط بطنجة في أكتوبر 2012. وفيلم “..من أجل حياة أفضل” لطارق لحميدي وهو فيلم وثائقي حصل على جائزة “أفلام المدارس” من المهرجان الدولي للفيلم بمراكش في دورته الأخيرة بداية شهر دجنبر 2012. كما نشير إلى أن مداخل العروض يتم توزيعها سنويا على بعض الجمعيات الخيرية المغربية.
يعود تأسيس هذه التظاهرة السينمائية الأوروبية بالمغرب إلى سنة 1991. وكان لي الشرف المساهمة فيها منذ انطلاقها من خلال ترجمة برامجها إلى العربية وملفاتها الصحفية التي كانت حينها ضخمة جدا إذ كانت تتشكل حول كل فيلم من الأفلام المُبرمجة ملفات تتضمن تعريفا مفصلا ودقيقا بكل العاملين في الفيلم، وكذا الحوارات التي أجراها المخرجون ونجومها مع أكثر من منبر إعلامي، وبعض النصوص النقدية، إلى آخره. كان كل صحفي يحمل معه كل التفاصيل الممكنة حول الأفلام المبرمجة وفي ذات الوقت كنت أتحمل مسؤولية الاتصال والتواصل مع الصحفيين المغاربة. كنت أتعاون حينها مع السيدة سيلفي بلعباس (زوجة صديقي الفنان الممثل والمخرج المسرحي الراحل عباس ابراهيم الذي تخرج من مدرسته بعض نجوم السينما المغربية نذكر منهم منى فتو ورشيد الوالي على سبيل المثال لا الحصر). كانت جميع الأقطار تساهم باستدعاء وفود مهمة من نجومها الممثلين و المخرجين، من الوزن الثقيل، حيث تُعقد معهم جلسات النقاش المباشر وندوات صحفية فتتحول تلك الأسابيع السينمائية إلى احتفالية حقيقية بالسينما. ولم تكن تقتصر على مدينتي الرباط والدار البيضاء بل تسافر إلى أغلب المدن المغربية الكبيرة سواء في الشمال أو الجنوب أو الوسط، تمتد الأسابيع إلى شهرين حيث تدور الأفلام فيها وبوفودها. كانت هذه التظاهرة حدث فني سنوي ناجح يهم عشاق السينما في جميع المدن، خاصة وأنه لم يكن في المغرب حينها إلا مهرجانين إثنين فقط يعتبران من المهرجانات النضالية في تاريخ السينما المغربية لأنهما كانا يعتمدان النضال في تنظيمها وهما مهرجان السينما الإفريقية بخريبكة (وسط المغرب – تأسس سنة 1977) ومهرجان سينما الأقطار المتوسطية بمدينة تطوان (شمال المغرب – تأسس سنة 1985). أما المهرجان الوطني للسينما المغربية، الذي انطلق سنة 1982، فكان مازال متشردا بين المدن يبحث عن المأوى هنا وهناك ولا أحد يعرف متى سيُنظم وفي أي مكان.
بدأت تنسحب الأسابيع السينمائية الأوروبية بعد سنوات قليلة من نجاحها من بعض المدن لتصبح في النهاية مُقتصرة على الرباط والدار البيضاء. وغابت تلك الحيوية في علاقتها بأصحاب الأفلام لتتحول إلى تظاهرة لعرض الأفلام فقط. ومهما يكن فهي كانت إلى حدود الأمس مناسبة استثنائية لمشاهدة أفلام يصعب الحصول عليها وهذا لا يمكن إنكاره أبدا.
فهل ستعيد مندوبية الاتحاد الأوروبي بالمغرب النظر في البرمجة والتنظيم والسفر إلى باقي المدن المغربية بنفس الحيوية التي تفكر فيه في البحث عن الأفلام الرقمية؟ سننتظر… وسنكون معها في الموعد دائما.


إعلان