أشرف بيومي : حوار حول سينما الثورة
من خلال هذا اللقاء الذي جمعنا بالإعلامي و الناقد السينمائي المصري ”أشرف البيومي” سنعود إلى تفاصيل المشهد السينمائي أيام ثورة يوليو 1952 مرورا بأهم الإنتاجات التي أثرت المكتبة السينمائية حينها بفضل محاولات الكتابة والإخراج وصولا إلى واقع الإنتاج السينمائي الوثائقي بعد ثورة 25 يناير 2011 التي أطاحت بنظام الرئيس محمد حسني مبارك وأعلت كلمة الفرد المصري، و حققت المهم والأهم رغم تأثر الإنتاج السينمائي -المنقسم لكتلتين- الذي أعلن عن ميلاد جيل جديد من المخرجين، وفي حديثه للجزيرة الوثائقية أشاد ”البيومي” بالدور الكبير والريادي الذي قامت به الجزيرة و نجاحها في نقل أحداث الثورة و تأريخها فيلميا وتأسيس مرجعية توثيقية لأحداث الربيع العربي وثورة مصر جزء من ذلك.
في البداية كيف انعكست ثورة يناير 2011 على المشهد السينمائي بمصر الذي يتميز بتجاذبات سياسية وإيديولوجية تؤثر على أهل الفن ؟
التأثير السلبي الذي انعكس على السينما المصرية بعد ثورة شباب 25 يناير2011، أدى إلى إغلاق دور السينما مما نتجت عنه خسائر فادحة لشركات الإنتاج السينمائي التي تأثرت أيضا بسبب أحداث كنيسة القديسين في الإسكندرية قبل الثورة مباشرة، و بعدها جاءت ثورة شباب يناير لتزيد من خسائر إيرادات الأفلام، حيث قدرت غرفة صناعة السينما خسائر الفن السابع المصري في هذه الفترة بنحو 20 مليون دولار أمريكي، إلا أن هذه الخسائر التي تكبدتها السينما المصرية لا تقاس أمام المكاسب والنتائج الطيبة المشرفة التي حققتها الثورة، وتفاعل معظم السينمائيين مع أهدافها واشتراكهم الفعلي في تحقيق نتائجها الإيجابية كان أكبر، فلم تنفصل السينما يوما عن ممارسة الحقوق المشروعة للشعب المصري، وتأييد ثورته سواء بالاشتراك الفعلي في حوادثها أو بإنتاج الأفلام التي تدعو إليها، أو تلك التي تبرز أحداثها وتصور وقائعها، ذلك أن القطاع السينمائي هو الجزء المجسد للأحلام الشعبية بصورة مرئية على الشاشة، فثورة يوليو 1952 لم تكن مجرد ثورة فقط ولكنها امتدت بين 1952- 1970 كمرحلة كلاسيكية، وقد شاركت السينما المصرية فيها بأنماط تعبيرية تعكس أوضاع المجتمع المصري في ذلك الوقت.

بعد أن أنجبت ثورة يوليو 1952 خيرة السينمائيين هل سيقود التغير الآني في المجتمع المصري إلى ميلاد جيل جديد من السينمائيين بعدما أرخ السابقون لتلك المرحلة من تاريخ مصر سينمائيا ؟
نعم بالطبع، فقد ولد مع الثورة جيل من السينمائيين بأفلامهم مثل يوسف شاهين، كمال الشيخ، عاطف سالم، حلمي حليم، توفيق صالح و السيد بدير حسين كمال وحسام الدين مصطفي إضافة إلى انضمام مجموعة من الضباط الشبان من قادة حركة الضباط الأحرار إلى صناع السينما مثل عائلة ذو الفقار ويوسف السباعي لتشهد السينما حينها بداية مرحلة الوعي السياسي بأعمال تؤكد حدوث تغييرات في المجتمع المصري حتى في الكوميديا وأهمها أفلام فطين عبد الوهاب، حيث كان الفيلم السياسي وقتها يعتبر المنهج الوحيد للتعبير عن تغيرات المجتمع المصري فظهرت أفلام فتوات الحسينية سنة 1953، وصراع في الميناء 1956 ليوسف شاهين وأرضنا الخضراء 1956 لأحمد ضياء الدين، كما عرفت السينما المصرية بمشاركة كبار الكتاب والمؤلفين المشهورين وعلى رأسهم الراحلان يوسف السباعي وإحسان عبد القدس ونجيب محفوظ إنتاج العديد من الأفلام التي عبرت عن هذه الثورة وقام بإخراجها مخرجون كبار وهنا أذكر فيلم “الله معنا” للمخرج أحمد بدر خان وفيلم رد قلبي1957 للمخرج عز الدين ذو الفقار وفيلم في بيتنا رجل لهنري بركات ويعد من الأعمال المتميزة حول بطولات الشباب المصري المدني في مقاومة الاستعمار، وقد ركزت هذه الأفلام علي فساد الحكم الملكي الذي قامت ضده الثورة، لإيصال عدة رسائل لكل فئات الشعب المصري المختلفة حول مزايا الجمهورية الوليدة .
شهدت تلك المرحلة حركة لنقد كل ما حدث مع نظام الحكم الملكي المصري قبل ثورة يوليو، قبل أن ينقلب أنور السادات سينمائيا ثم ينقب سياسيا على نظام عبد الناصر بعد موته بصورة مباشرة من خلال مجموعة من الأعمال التي أصبحت من علامات السينما المصرية مثل ” الكرنك “1975 للمخرج علي بدرخان، عن قصة لنجيب محفوظ، وسيناريو وحوار ممدوح الليثى، ومن بطولة مجموعة من نجوم الصف الأول كسعاد حسني وكمال الشناوي وفريد شوقي، و أعطي صك النجومية لكل من نور الشريف، ويونس شلبي ومحمد صبحي. ويحكي الفيلم عن حالة الاستبداد السياسي والفكري، والتعتيم الإعلامي الذي انتهجه عبد الناصر، وعلى درب الكرنك كانت هناك أفلام أخرى مثل “احنا بتوع الأتوبيس” 1979، الذي تدور أحداث الفيلم حول التعذيب الذي كان يحدث في مصر خلال حقبة الستينات، وهو عن قصة حقيقية في كتاب “حوار خلف الأسوار” للكاتب الصحفي جلال الدين الحمامصي، وفيلم “وراء الشمس” 1978 الذي يؤرخ لفترة ما بعد الهزيمة العسكرية المروعة في يونيو 1967، ويبدو أنه من السمات الأساسية لسينما الجمهورية المصرية الأولي هو إساءة رؤساء هذه الجمهورية لمن سبقهم حيث يشجع نظام حسني مبارك صناع السينما على الإساءة إلى السادات ونظام الانفتاح الاقتصادي بل والترويج إلي الآثار السلبية لانتصارات مصر في حرب أكتوبر 1973 ومن أبرز هذه الأعمال ” البريء” 1986 الذي يتحدث عن الحرية بمعناها الشامل، وذلك عن طريق إظهار لمحات من الفساد السياسي في مصر بعد سياسة الانفتاح، وبالتحديد خلال الفترة المسماة بانتفاضة 17 و18 يناير 1977، كما أن الفيلم يتحدث عن فكرة تحول الإنسان إلى آلة مبرمجة من أجل خدمة سلطة معينة.
بالانتقال إلى ثورة 25 يناير 2011 ترى أن هذه الأخيرة ليس لها أب واضح حتى الآن هل هذا الرأي راجع إلى الانقسام في الإنتاج السينمائي الوثائقي والعمل التوثيقي ؟
بالفعل هناك انقسام في الأفلام المصنوعة عن ثورة يناير إلى كتلتين أساسيتين، الأولى تضم الأفلام التي أنتجتها شركات إنتاجية سينمائية تُعنى بالأفلام الروائية أو الوثائقية ومؤسسات العالمية على رأسها المحطات التلفزيونية و بعدها تأتي الصحف المعروفة والهيئات الحكومية، و الكتلة الثانية تضم الأفلام “المستقلة” التي أنتجها أفراد سواء كانت فقيرة انتاجيا أو توفر لها تمويل جيد عبر شركات إنتاج سينمائية، و الاختلاف بين هذين الكتلتين لا يقتصر على مدى حجم الانتاج واحترافيته، و هنا يجب المقارنة بين الكتلتين.
فالأفلام الروائية لا يمكن ذكر الكثير عنها لأنها معدودة ومحدودة الطموح حتى الآن فهي حاليا لا تعد على أصابع اليد الواحدة، أبرزها ”18 يوما” وهو عبارة عن 10 أفلام لعشر مخرجين و”بعد الموقعة” والعملين عرضا في مهرجان كان السينمائي الأول في اطار قسم خاص للسينما المصرية والثاني أعاد مصر إلى المسابقة الرسمية للمهرجان بعد غياب أكثر من 20 عاما، كذلك لأول مرة تقريبا يعرض فيلم وثائقي طويل مكون من ثلاثة أفلام قصيرة في دور العرض السينمائي العامة، المخصصة للأفلام الروائية، مع العلم أن دور العرض العامة تشهد أحيانا عرض بعض الأفلام الوثائقية في إطار مهرجان، أو حدث ثقافي ما، ولكن المختلف هنا هو أن الفيلم الذي يحمل عنوان “الطيب والشرس والسياسي” لتامر عزت، أيتن أمين وعمرو سلامة، أنتج خصيصا لهذا الهدف وهو العرض العام، كما أن منتجه محمد حفظي واحد من منتجي الأفلام الروائية المعروفين في الساحة السينمائية المصرية الآن، أما بالنسبة للأفلام التي أنتجتها هيئات حكومية مثل هيئة الاستعلامات أو المركز القومي للسينما في مصر فليس هناك ما يمكن ذكره، فقد أثبتت هذه الهيئات الرسمية خصومتها للثورة وولائها المطلق للنظام المخلوع منذ اليوم الأول لقيامها، وحتى بعد شهور طويلة من سقوط النظام. ومن المذهل أن نعرف أن كلا الهيئتين لم ترسلا كاميراتها إلى الميادين لترصد أهم حدث في تاريخ مصر الحديث!
هذا الكلام يقودنا حتما للحديث عن دور الإعلام، قلت في العديد من اللقاءات والمحاضرات التي ألقيتها أن ”الجزيرة الوثائقية” كانت السباقة و الرائدة في التعامل مع ثورة يوليو أليس كذلك ؟
صحيح و إلى جانب أفلام “الجزيرة الوثائقية”، هناك ”البي بي سي”، والتلفزيون المصري، فالجزيرة كانت أكثر القنوات اهتماما بتغطية الثورة في مصر يوما بيوم، ساعة بساعة، وبالإضافة للمواد التي صورها مراسلوها شارك عدد كبير من المشاهدين بإرسال مواد إلى القناة لبثها، و هذا جعلها تمتلك أرشيفا كبيرا من المواد المصورة التي تؤرخ للأحداث القديمة والمعاصرة، هذه الغزارة من الصور، والقدرة الإنتاجية الكبيرة والطريقة التي تعمل بها قناة “الجزيرة الوثائقية” من شراء ودعم الأفلام التي تنتجها شركات صغيرة مكنها من تنفيذ مشروع شبه متكامل لتغطية الثورة المصرية فيلميا، من خلال تقسيمها إلى موضوعات ووحدات وأفكار هي الأقدر حتى الآن على استيعاب هذا الحدث العظيم، مع العلم أن حدثا بحجم الثورة المصرية لا يمكن لأي فيلم مهما بلغ زمنه أن يستوفي كل جوانبها، ولا حتى عشرات الساعات والأفلام، ومن المعروف أن كل فيلم يحتاج إلى بؤرة مصغرة وخيطا أساسيا تلتف حولهما المشاهد واللقطات، وهي الفضيلة التي غابت في معظم الأفلام التي شاهدتها عن الثورة، خاصة المستقلة، و بالتالي الخبرة والاحترافية التي تتسم بها أول قناة وثائقية ناطقة باللغة العربية ساهمت في إنقاذ الأفلام التي أنتجتها من هذا الفخ، لا يعني ذلك أن كل إنتاجها على نفس المستوى من الجودة الفنية أو التماسك البنائي، لكن على الأقل من ناحية الشكل والبناء العام للأفلام فهي الأكثر تماسكا وجودة، وهنا يجب أن أشير أيضا إلى واحد من أوائل الأفلام التي صنعت عن الثورة، وهو التقرير الفيلمي “الثورة الضاحكة” الذي أنتجته قناة “بي بي سي العربية” بعد أيام من تنحي مبارك، فبالرغم من أنه تقرير إخباري تلفزيوني من الناحية الوظيفية إلا أنه أقرب لطبيعة الفيلم الوثائقي النموذجي أكثر من كثير من الأفلام التي صنعت عن ثورة يناير.

هل هذا يعني أن ”الجزيرة” تعاملت مع الثورة المصرية بالكم والكيف وأوفتها حقها؟
كيف لا و “الجزيرة” أنتجت أزيد من ثلاثين فيلما عن الثورة المصرية منها عشرون فيلما في شكل أجزاء أو حلقات متصلة بعنوان “يوميات الثورة المصرية”، وفيلم من ثلاثة أجزاء بعنوان “الطريق إلى التحرير”، وفيلما من جزئين بعنوان “من سيحكم مصر” عن انتخابات الرئاسة المصرية، و أفلام أخرى تتحدث مثلا عن دور النساء في الثورة أو تأثير الفيس بوك عليها، ومن أهم الأعمال التي يجب ذكرها «الطريق إلى التحرير» للمخرج «محمد ممدوح» و فيلم «يوميات الثورة المصرية» الذي يتوزع على عشرين مخرجا، هي أعمال بمستويات متفاوتة، لكن فيلم «الطيب والشرس والسياسي» من أفضل الأعمال إضافة إلي فيلم «مولود في 25 يناير» لمخرجه «أحمد رشوان» الذي يعد من أفضل الأفلام في هذا المجال أيضا، وهنا أذكر أيضا بعض الأفلام التي أنتجت و عبرت عن ثورات الربيع العربي انطلاقا من «موقف البوعزيزي» في تونس، ولكن الكتب حول هذه الأفلام لم تصدر بعد وصدرت مقالات متعددة نشرت في المواقع والصحف وأحيانا نوقشت هذه المقالات في بعض الندوات والمهرجانات السينمائية، ضمن منشورات مهرجان الإسماعيلية للأفلام الوثائقية والقصيرة في دورته رقم 15 هذا العام، فقد صدر كتاب «أفلام الثورة» للناقد السينمائي «عصام زكريا»، غير أن هذا الكتاب له علاقة ببعض الأفلام التي أنتجت في مصر فقط، لكن تبقى الحاجة ملحة لتعميم مثل هذه المبادرات على المستوى العربي لتشمل أفلام أخرى رغم قلتها، فنتمنى أن تكون هناك في المستقبل كتب أخرى تتطرق إلى أفلام الثورة وتفيها حقها من خلال التعامل مع الأفلام أولا ثم التعامل مع القارئ ثانيا.