السينما العربية القادمة من المهجر.. إلى أين ؟؟

في بداية الثمانينيّات، كان الكثير من السينمائيّين العرب ينجزون أفلامهم في إطار “الفرانكوفونيّة”، أو اتفاقيّات التعاون السينمائيّ ما بين فرنسا ـ وأوروبا بشكلٍّ عام ـ والدول العربية، وقتذاك، كُنا نتحدث عن إنتاجٍ مُشترك لسينمائيين يعيشون فترةً مؤقتةً في بلدان الهجرة، أو بالتناوب ما بين إحدى الدول الأوروبية، وبلدانهم الأصلية.

خلال التسعينيّات، وبعد أن كبر أبناء المهاجرين القُدامى، ظهر جيلٌ جديدٌ من السينمائيين الذين وُلدوا في أوروبا، واخترقوا عتبات المشهد السينمائيّ الأوروبيّ بصفتهم مواطنين، وليسوا مهاجرين…ولكن، في نفس الوقت، اكتسبت أفلامهم ـ بدون أن يسعوا إلى ذلك ـ جنسيات البلدان الأصلية لعائلاتهم بعد أن استقطبتها المهرجانات العربية كأمرٍ واقعٍ أمام قلّة الإنتاج السينمائيّ العربيّ.
وبعد مداخلاتٍ نقدية خجولة، ومتباعدة، فرضت تلك الإنتاجات نفسها، حتى بدأنا نتغاضى، أو نتناسى جهة التمويل، ونمنح أفلاماً إسرائيلية ـ أو بمُساهمةٍ إسرائيلية ـ جنسية المخرج الأصلية : إيليّا سليمان، ميشيل خليفي، علي نصار، توفيق أبو وائل،….
ومع أنّ البعض حسم هذا الالتباس منذ زمن، إلا أنني لم أستطع التعايش معه بعد، ومازلتُ مُقتنعاً بجنسية الفيلم انطلاقاً من مصادر تمويله الرسميّة، بغضّ النظر عن الوضع الحاليّ للمخرج، أو أصوله العرقيّة، ويكفي بأن تكون كلّ العقود، والاتفاقيات موجودة بكاملها في بلد الإنتاج الغربيّ، ولن نعثر على وثيقة رسمية واحدة تُثبت مساهمةً ما من البلد الأصليّ للمخرج، أو بلد عائلته، وأجداده،….وتأريخاً، سوف تُدرج تلك الأفلام في قوائم بلد الإنتاج الحقيقيّ.

إيليا سليمان

وبما أنّ الإنتاج السينمائيّ العربيّ يتناقص يوماً بعد يوم، فقد رضيّ السينمائيّون، والنقاد، وصُنّاع السينما العربية ـ عن مضضّ، أو اقتناع ـ بالأمر الواقع .
ولو كان الإنتاج السينمائيّ الوطنيّ في حالة ازدهارٍ مستمر، لما بحث مدراء المهرجانات، ومنظمّوها عن انتاجاتٍ أجنبية لمخرجين من أصولٍ عربية كي يدرجوها في مهرجاناتهم.
ومن خلال هذا الاختطاف والتدوير، والتحوير، فقد منحنا السينما العربية امتيازاتٍ لا تستحقها، وقدمنا لها أفلاماً لم تسعَ أبداً إلى إنتاجها، ولكنها تبنتها بدون أن تكون طرفاً فاعلاً في ظهورها إلى النور.
ويكفي اليوم بأن نفتح دليل أيّ مهرجان عربيّ، ونُحصي عدد الأفلام المُنتجة أوروبيّاً مقارنةً مع تلك القادمة فعلاً من البلدان العربية، كي نكتشف حجم المصيبة التي تُعاني منها السينما العربية، وما سوف تُعانيه مستقبلاً .
إعادة التدوير هذه لصالح السينما العربية، تقدم لنا أكثر من استنتاجٍ، وأكثر من تساؤل :
ـ تعكس صورة جميلة، وخادعة للمشهد السينمائيّ العربيّ.
ـ تحوّل أنظارنا عن واقعه الحقيقيّ. 
ـ تُظهر صورة خادعة عن حجم إنتاجه، ومستواه النوعيّ.
 ـ تمنح بعض الخدر، والاكتفاء.
 ـ تُفقدنا الرغبة بالتمرّد على الأوضاع السائدة.
ـ تُلهينا من الحديث عن واقع السينما العربية.
ـ تُوهمنا بأنها في أوج ازدهارها، ونشاطها.

وعندما نتساءل عن مصادر التمويل، سوف يتكشّف لنا بأنّ السينما العربية الوطنية لا تُنتج نصف العدد الذي تقترحه المهرجانات العربية.
وأمام الإحباط المُتواصل للسينمائييّن العرب في الداخل، تصبح الهجرة السينمائية حلاً مؤقتاً، أو دائماً، وتتوجّه أنظار آخرين نحو أيّ تمويل، وسنةً بعد أخرى، يتسرّب الإبداع السينمائيّ إلى الخارج، وتبدأ المؤسّسات الغربية، الحكومية، والخاصّة، بدعم، ومساندة المشاريع السينمائية المُلائمة فكرياً لتوجهاتها، وسياساتها الثقافية، التعليمية، التربوية، الأخلاقية، والدينية…
صحيحٌ، بأنّ بعضها يفلتُ من شروط الغربلة، ولكنّ الواقع العمليّ يُقدم لنا الكثير من الأفلام المُنجزة وفقاً لسياسةٍ غير مُعلنة، وتتجلى في أبسط صورها، في لجان الاختيار نفسها، والمُكوّنة عادةً من أوروبييّن من الطبيعيّ بأن يختاروا دائماً ما يُناسب أذواقهم، وقناعاتهم الشخصية، فكرياً، وجمالياً، وهي القاعدة الجوهرية لأيّ لجنة اختيار، أو تحكيم .
ولكن، الأكثر خطورةً في آليات إنتاج السينما العربية المُهاجرة، هي عولمتها، فمنذ سنواتٍ، كانت الأفلام، ومازالت، تنتسبُ إلى بلدان إنتاجها، ومصادر تمويلها الحقيقية، واليوم، بدأت تقترب من الأصول العرقية لمخرجيها، وتضاءلت، بشكلّ، أو بآخر، أهمية الانتماء الجغرافيّ، أو أاستبعد، أو تمّ التغاضي عنه، وهي حالة كلّ السينمائيين من أصولٍ عربية، أولئك الذين لم يولدوا في بلدان أجدادهم، ولا يعرفونها أصلاً، ولا يُجيدون حتى لغتها، وبمعنى آخر، اختفت أهمية الهوية الوطنية لصالح أخرى افتراضية، وبدل أن ينخرط، ويندمج الجيل الجديد من السينمائيين ـ أبناء المهاجرين القُدامى ـ  في المجتمعات التي يعيشون فيها، تشدّهم السينما العربية مرةً أخرى إليها، وإلى أوطان وهميةٍ فانتازية…وتُعيد إليهم جنسيات أجدادهم، وكأنهم بلا جنسية، وتجعلهم يتأرجحون من جديدٍ ما بين بلد المولد، والنشأة، والحاضر، وبلد العائلة، والأجداد، والماضي، والأهمّ، لم ينطلق الاستقطاب، والجذب من رغبةٍ حقيقية بربط أبناء المهاجرين مع بلدانهم، وثقافاتهم الأصلية، ولكن، فقط، لأنّ السينما العربية الوطنية غير قادرة على توفير أفلام نوعيّة تكفي لمُسابقةٍ في مهرجانٍ، وبرمجةً إعلاميّة .

فيلم “باماكو” لعبد الرحمان سيساكو

مازالت السينما العربية تتمسّك بأفلام “مرزاق علواش” الفرنسية، وتمنحها الجنسية الجزائرية، أيضا مع أنّ موريتانيا لم تشهد حركة إنتاج سينمائي (ما عدا بعض المُبادرات الخجولة)، إلاّ أنّ السينما العربية تصرّ على موريتانية أفلام “عبد الرحمن سيساكو”، و”محمد عبيد هوندو”، وتتباهى  بـ”دانييل عربيد” كمخرجةٍ لبنانيّة شابّة، بينما هي تُنجز أفلاماً أوروبية الإنتاج.
والأكثر خطورةً، بأنّه لم يعد بالإمكان تجاهل السينمائيين الفلسطينييّن الذين يعيشون الاحتلال، وينجزون أفلامهم بمعوناتٍ إسرائيلية رسمية، وفي الوقت الذي نتفاخر بهم، وبإنجازاتهم، تعبر السينما الإسرائيلية حدودنا، وتُزيّن شاشات صالاتنا، ونحن نصفق، ونمنح الجوائز .
ومن المثير للاهتمام ـ بعد أن أصبح الأمر مألوفاً ـ أصبحت فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، سويسرا، والولايات المتحدة،..تمتلك حصةً معتبرة في معظم الأفلام، وخاصةً تلك التي يُنجزها مخرجون من المغرب العربي، لبنان، وفلسطين، بينما تفرض أفلام أخرى نفسها أنجزها مخرجون، ومخرجات يعيشون خارج أوطانهم، أو ولدوا، وعاشوا في الغرب .
وإذا دققنا في مصادر تمويل بعض الأفلام، سوف نجدها من إنتاج أجنبيّ خالص (بدون أيّ تمويلٍ عربي) مثل الفيلم الروائي القصير “كن هادئاً” لمخرجه الفلسطيني “سامح الزغبي”، أو الفيلم الروائي الطويل “بلديون” لمخرجه الجزائري “رشيد بو شارب”، بينما ينحصر الإنتاج المحلي الخالص في الأفلام القادمة من مصر، البحرين، الإمارات، الكويت.
وبعد أن اعتمدت السينما المغاربية في الثمانينيّات على الإنتاج المشترك، تلتها بعض الأفلام الفلسطينية، واللبنانية، ومن ثم المصرية، وبحسبةٍ بسيطة لمصادر تمويل إنتاج الأفلام المتنافسة في المسابقات العربية، سوف يتضح بأن الأفلام المُمولة بكاملها من بلدانها الأصلية قليلة جداً، إلى الحد الذي يجعلنا نتوقع بأن السينما العربية في سنواتها العشر القادمة، سوف تصبح أجنبية التمويل، يُنجزها سينمائيّون ولدوا في الغرب، أو يعيشون فيها منذ أمد طويل.

ما هي الخطورة من هذا التحول ؟

سوف يتوجه المخرجون إلى الغرب للبحث عن مصادر تمويل لأفلامهم، وسوف يجدون بسهولة، أو بصعوبة إمكانياتٍ ما لتنفيذها، وتدريجياً، سوف يتخلون تماماً عن مصادر التمويل العربية الوطنية، وتصبح أفلامهم أجنبية خالصة، وهو ما خطط له الغرب منذ الثمانينيّات بأن يكون حاضراً في الثقافة العربية، ومنها السينمائية.
وهكذا نجد السلطات السينمائية الفرنسية (وزارة الخارجية الفرنسية، المركز الوطني للسينما، قنوات التلفزيون، مؤسسة يونيفرانس، وشركات الإنتاج الخاصة) تبتهج، وتحتفي باشتراك أفلامها في مسابقات المهرجانات العربية، وحصولها على الجوائز أيضاً، بينما تلك الأفلام أوروبية (وفرنسية بشكل خاصّ)، ومعظمها يمتلك الحصة الكبرى من الإنتاج.
وبحسبةٍ بسيطة أيضاً، سوف نعثر على عدد كبير من المخرجين من أصول عربية، أيّ أولئك الذين ولدوا، وتربوا في الغرب، هؤلاء، وأولئك الذين سوف يكبرون خلال العشر سنوات القادمة سوف تضاف أسماؤهم، وأفلامهم إلى المشهد السينمائي العربي، أو المُستقطب ليكون عربيا، ولن تفخر المهرجانات العربية إلاّ بأصول هؤلاء المخرجين الذين سوف يشقون طريقهم حتماً في البلدان التي ولدوا، وعاشوا فيها : فرنسا، بلجيكا، سويسرا، ألمانيا، السويد، الولايات المتحدة…
وفي منافسة غير عادلة ما بين الإنتاجات العربية الخالصة، وأفلام أولئك الذين يعيشون في الغرب، ويعتمدون على مصادر تمويل سخية، لن تكون المنافسة من صالح أولئك الذين يعيشون في بلدانهم العربية، ويعتمدون على مصادر تمويل شحيحة.
كما سوف تكون هناك فجوة إبداعية واسعة تحول دون المنافسة، أو المقارنة، وفي حال اختيار أفلام لمهرجان سينمائي عربي، لن نجد أفلاماً عربية ملفتة للانتباه، وقابلة للعرض المهرجاناتي وسوف تتجه الأنظار تلقائياً، وبحكم الأمر الواقع، نحو تلك الأفلام الأجنبية المُنجزة من قبل مخرجين من أصول عربية قريبة، وحتى بعيدة تعود أصولها إلى أجيالٍ عدة.


إعلان