” ياخيل الله” : تراجيديا مهداة لأبناء مدن الصفيح

طاهر علوان
..في عمق الحالة وفي قلب الأزمة سيكون السينمائي امام مسؤوليته وقدره وامانته في صوغ الحقيقة ونقل صورة الواقع ،ذلك الواقع الذي ابت السينما في احد انواعها البازانية “نسبة لأندريه بازان ” المبكرة ان تتعرض للتزيين والتعديل والتغيير حتى وجدت نفسها وهي تتغير وتتجمل ثم يجري استنبات وتحوير  قصصها في مئات بل قل عشرات مئات التجارب السينمائية حول العالم ، ونحن لسنا في معزل عن هذا الجدل والسجال لاسيما وان واقعنا العربي متفجر ومليئ بالقصص بل هو انطولوجيا قصصية لاتنتهي فمابالك ونحن ننحو منحى انتقائيا في نقل صور الواقع فتارة لأسباب تمويلية واستجابة لبيت المال الذي يغذي الفيلم في صيغة منتجين ومنتجين مشاركين وهو السبب الغالب ، فقد درج كثير من المخرجين على تقديم صورة وواقع حياة كثير من البلاد العربية بما يرضي المنتج ويشجعه مباشرة على دعم هذا الفيلم او ذاك ..واحيانا مايكون المخرج معذورا بسبب قلة بل انعدام الداعمين الكبار في العالم العربي الذين بأمكانهم ان يرصدوا عدة ملايين من الدولارات سنويا لدعم السينما ولكن ليس الا القليل ..
مناسبة هذا المدخل هو الحديث عن تجربة المخرج المغربي ” نبيل عيوش ” في فيلمه الأخير الذي اطلق له عنوانا ملفتا للنظر في منظومة المقدس والموروث  الديني الا وهو ” ياخيل الله” ..فأين تراها تلك الخيل  في فيلم عيوش وكيف قرأها وجسدها ؟ حيث علينا ان  نبحث عن حوافرها وصهيلها وفرسانها في احياء  الصفيح والعشوائيات ” لسيدي مؤمن ” في ضواحي الدار البيضاء حيث تقع احداث الفيلم علنا نعثر على مبتغانا .والمناسبة الأخرى هي عرض الفيلم هذه الأيام في الصالات الأوربية بعيد مشاركته في الدورة الأخيرة للمهرجان الدولي لسينما المتوسط في بروكسل.


في المقترب الفكري – العقلاني

في البدء ومادام المخرج قد قرر الخوض في منظومة متكاملة للوعي ، وعي تلك الشخصيات التي تعيش على الهامش ، فأن السؤال يتعلق بالقضية والفكر الذي اراد الفيلم مناقشته من جهة وطرح ماهو مواز له من جهة اخرى . وقبل المضي في قراءة هذا المقترب المهم لابد وان نمر على القراءة التبسيطية التي انتشرت كثير جدا في وسائل الأعلام ابان قبول الفيلم ليعرض ضمن تظاهرة ” نظرة ما ” لمهرجان كان الأخير ، فالكل تقريبا لخص لنا ان هذا الفيلم يعرض للفقر والحرمان والتشرد الذي كان سببا وراء انحراف ثلة من الشباب ليتحولوا الى ” ارهابيين ” وانتحاريين وليقوموا بتفجيرات الدار البيضاء في العام 2003 .لكن المسألة تتعدى ذلك الى كون الفيلم مأخوذ عن رواية ” نجوم سيدي مؤمن ” للكاتب ماحي بنيبين  فيما كتب السيناريو  جمال بلماحي وعلى هذا فنحن امام متن سردي روائي يقابله نظيره السينمائي وهذا مالايحتمل القراءة التبسيطة لبعض ماكتب في الصحافة اليومية العابرة .
لعل المقترب الفكري العقلاني يقودنا الى النظر جديا في ازمة وشلل واحتباس تعيشه شخصيات تنخرط ضمن الهامش المألوف الممثل في الطبقات المسحوقة والمنسية هي كل شخصيات عيوش التي قدمها ،الآن وفي افلام سابقة ،  فشخصيات هذا الفيلم كلها شخصيات نمطية مألوفة تماما ولايتعدى فعلها حدود البديهيات اذ انها صورة نمطية شائعة عربيا لسكان العشوائيات وتجمعات الصفيح ومنهم سكنة ضواحي سيدي مؤمن الشاسعة على فرض انهم هكذا لكنك سرعان ماستسمع صرخات انكار تقول ان هذه ليست هي الحقيقة ، وان اولئك القوم ليسوا بذلك السوء الذي يظهرون عليه عبر وسائل الأعلام والأشاعات ، وعلى هذا وجدنا ان الأساس الذي قام عليه السرد الفلمي هو ان هذه الشخصيات اسيرة واقعها القاتم وستبحث لنفسها عن مخرج وحل وحياة موازية بديلة عن هذه الحياة المشلولة لكن المعالجة الفيلمية تنأى بنفسها لتقدم ولو نموذجا واحدا فيه بصيص امل ، فالحب مثلا مقتول تماما في الفيلم ولا توجد اية صلة طبيعية بين اي  رجل وامرأة من الممكن ان تمثل بديلا لحياة جديدة ، الحب في هذا السرد القلق والرجراج يجد له بديلا ممثلا في الشذوذ الجنسي الذي يقدم بصورة ثقيلة الوطء من خلال مشهد اعتداء صبي ثمل على آخر اشد ثمالة ومواقعته وسط تشجيع الصبيان الآخرين في مشهد مفتعل تماما ومحشور حشرا فرض على اولئك الصبيان ان يحتسوا الخمر ويدخنوا السجائر ويمارس اثنان منهما ذلك الفعل الشاذ دون ان يتكرر مشهد تعاطيهم الخمر مرة اخرى مثلا استنادا لما شهدناه من معاقرة الخمرة كما يتعاطى البالغون هذا اذا اضفنا ان مثل هذه المشاهد ليست بغريبة على  افلام عيوش السابقة .

الأرهابيون وخيل الله


اما اذا انتقلنا الى القصة الثانية بعدما تمت المعالجة الفيلمية وسط تلك البيئة  القاحلة والروح القاحلة ، فهي قصة التطرف والأنخراط في ” الدعوة السلفية الجهادية” وهنا يمنح الفيلم شخصياته مساحة واسعة لتكرار الخطاب المعتاد والمعروف  الى درجة الفجاجة والملل والى درجة الأجترار الذي اعتادت وسائل الأعلام تسويقه من خلال صورة نمطية لهؤلاء الذين انخرطوا في هذا المسار فما هو الجديد في  شخصيات منحرفة وجانحة كلها تقريبا ولايوجد من بينها من تجد  فيه بذرة خير ؟ اذ تجد المخرج وكأنه يعود بنا مجددا الى فيلم سابق له وهو ” علي زاوا   2000″ الذي اساس بناءه وقصته السينمائية اطفال الشوارع وهاهو يبدأ بأطفال الشوارع ايضا في هذا الفيلم ، وتكون كرة القدم اللعبة الأكثر شعبية في هذه الأماكن هي ميدان تتكشف فيه طباع الشخصيات العدوانية وعلى رأسها حميد (عبد الله رشيد) طفلا ومراهقا وشابا فهو قادر على الحاق الهزيمة بخصومه لينتهي به المطاف في السجن وليتم تجنيده هناك للأنخراط في جماعات القتل والتفجير .ورغم ان الفيلم استند الى الشقيقين حميد وطارق الا انك تستطيع ان تتلمس البطولة الجماعية لأبناء تلك الضواحي المبتلاة بظلم اجتماعي فادح  ولايستحقون الأدانة فقط بل اعادة قراءة الواقع المريرالذي يعيشونه .

العنف والعنف المضاد بديلا
كأن لاحل امام الشخصيات سوى اللجوء الى العنف ، حيث يجري دفع الشخصيات دفعا الى هذا القدر الدامي والا مالذي يجعل انسانا مسالما مثل طارق ان ينحو هذا المنحى ، فهو الذي يشعر بميل لاخت صديقه سرعان مايجري تهميش هذا الدافع وطمره تحت ركام الكراهية المستعرة تجاه حياة المدينة ، والملفت هنا ان تلك الفتاة غير متحجبة تماما ولا منقبة بل ان الزينة واضحة على وجهها وليس غير اطراف اصابعها تلامس اطراف اصابع طارق ، اما المدينة فلااحد يريد الأقتراب من ايقاعها او الأستفادة من الحياة فيها ولكن يجري انتقاء النادي الليلي فقط ليجري تفجيره ، طارق يتعرض للأهانة والضرب ولا يرد ، ثم يضطر لقتل الميكانيكي الذي يعمل معه لأنه بدأ بالتحرش الجنسي بصديقه ثم لاحقا يتحول الى انتحاري وكذلك الحال مع شقيقه حميد والآخرون .
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو : اين يكمن صراع ابناء ضواحي الصفيح مع المدينة ؟ اذ الملفت للنظر ان المدينة لاتظهر في الفيلم الا في شكل بنايات عاليه في اثناء المرور العابر للسيارة التي تحمل الأرهابيين ، فأين ياترى اعداؤهم الأفتراضيون الذين اشعلوا في صدورهم كل هذا الحقد ؟ لم يظهر ولا نموذج بشري واحد يذكي ذلك الصراع القائم على الكراهية وكأن صراع ابناء سيدي مؤمن المهمشين كان يجري مع اشباح لا مع كائنات حقيقية هي ند لهم مما يدفعهم الى استهدافهم فيما بعد وليس غير تتابع نمطي لشتائم واساءات يتحدث بها هؤلاء ضد الديانات الأخرى ويسمونهم بالكفار وهو مايتكرر مرارا في منظومة وعي الشخصيات .

البناء الصوري والشخصيات
مما لاشك فيه ان الفيلم استند الى بناء صوري مميز برزت فيه مهارات مدير التصوير (هشام علوي ) سواء على صعيد اختيار اوقات التصوير والزوايا وتوظيف الأضاءة بالأضافة الى حركة الكاميرا التي شكلت اضافة نوعية مميزة اثرت الفيلم جماليا واسست بشكل منطقي ومقنع لجغرافية المكان على مدى 115 دقيقة هي وقت الفيلم ، من خلال اللقطات العامة والبانورامية يضاف الى ذلك مهارة ملحوظة في المونتاج (المونتير المبدع : داميان كييو ) من خلال القطع في اللحظة المناسبة فيما تكون بعض اللقطات قاب قوسين او ادنى من الترهل لاسيما بسبب كثرة الحوارات في الفيلم .من الجانب الآخر يحسب للفيلم حسن اختيار الشخصيات الحقيقية التي جرى تدريبها جيدا وكذلك اختيار وتدريب الأطفال وفي المجمل فأن اغلب الشخصيات ادت اداءا مقنعا ومميزا سواء الأم او الأخ المعاق او افراد الخلية الأرهابية ولكن وبكل تأكيد يطغى على الجميع الأداء المتميز للشقيقين طارق وحميد .
…………
ختاما يقول المخرج في تصريحات صحافية :” ان تفجيرات الدار البيضاء لا تهمني بقدر ما تهمني سيرة هؤلاء الشبان وما قادهم الى ارتكاب فعلهم. اردت ان اعبر الى الجانب الآخر ، ان احكي التاريخ الشخصي لهؤلاء” . فهل تراه عبر حقا الى الجانب الآخر ام بقي مراقبا انتقائيا …؟


إعلان