معسكرات اعتقال الغجر: تاريخ منسي يُعاد وثائقيا
قيس قاسم
من منا لا يعرف ما تعرض له اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية من اضطهاد على أيدي النازيين؟ ومن منا لم يسمع بمعسكرات اعتقالهم وما لاقوه من امتهان في “أوشفيتز”، المعسكر، الذي لكثرة ما تردد في كتب التاريخ وما نقلته الفنون وبشكل خاص السينما من قصص مروعة جرت فيه، اقترن اسمه مباشرة بالهولوكوست اليهودي، بل وصار رمزاً لبشاعة النازية وقسوتها ضدهم. هذا كله جزء من تاريخ كان لابد من أن يُحكى، ليتذكره العالم، من أجل منع تكراره ثانية، لكن المفارقة الكبرى ان التاريخ لا ينصف الضحايا دوماً، بل ينسى في مرات كثيرة تراجيديات بشرية، فينساها العالم بدوره، ان لم يكن هذا العالم يريد طمسها من ذاكرته بتعمد، كما هو حال الغجر في أوربا آبان الحرب العالمية الثانية، الذين أراد الفرنسي الكسندر فرونتي انصافهم واعادة كتابة جزء من تاريخ اضطهادهم بصرياً في وثائقي حمل عنوان “مونتريل ـ بيلاي معسكر اعتقال الغجر المنسي” وعاد فيه الى سنوات اعتقالهم في المعسكرات النازية عام 1940 وراجع أوضاعهم قبلها عبر عملية “اعادة خلق” كتبت بالأبعاد الثلاثية وجسدت، تعويضاً عن الخامة الوثائقية، صورة الأمكنة التي اعتقلوا فيها وبشكل خاص معسكر “مونتريل ـ بيلاي” القريب من قرية ساومور الفرنسية، والذي لم يبقى منه أثر بعد هدمه بسنوات قليلة على انتهاء الحرب.

لابد من الاشارة، بدءاً، الى أن مرجعية الكسندر فرونتي في وثائقيه الجديد تعود الى منجزات المخرج الفرنسي الغجري توني غاتليف صاحب مجموعة أفلام عدة عن أبناء جلدته من بينها رائعته؛ “غاديو ديلو ـ الغريب” و”الحرية”، الذي استعان فرونتي بما تضمنه من تفاصيل عن حياة الغجر في معسكرات الإعتقال النازية وضمها الى وثائقيه، دون أن يقلل ذلك من طليعيته كونه من القلة التي عالجت سينمائياً موضوعاً حساساً يخص مجموعة بشرية لم يعالجها وثائقي على غرار ما عالجه “مونتريل ـ بيلاي معسكر اعتقال الغجر المنسي”، بمنظور تاريخي اجتماعي يحيط بمرحلة طويلة تتجاوز كثافة فيلم “الحرية” وبتناول مختلف فرضته طبيعة النوع الذي اشتغل عليه، مضافاً اليه تعامله مع المخرج غاتليف نفسه كواحد من شخصيات وثائقيه الرئيسة ومن لهم الفضل في تعريف المجتمع الفرنسي بما عاناه الغجر على أيدي النازيين، وكأنه بهذا يزاوج بين الروائي والوثائقي أخلاصاً لمنجزه وأمانة له.
التمييز العنصري ضد الغجر في فرنسا سبق اعتقال النازية لهم في معسكرات بعقود، ولهذا وحين طلب المحتل من السلطات المحلية الفرنسية تولي عمليات سجنهم داخل مناطق سيطرتهم، تلقوها بترحاب وقاموا بمهتهم خير قيام. خلال مراجعته التاريخية لأحوالهم يتبيَّن حقيقة الموقف منهم، على المستويين الشعبي والرسمي. ففي عام 1912 أصدرت السلطات الفرنسية قراراً أجبرت فيه الغجر أو “الرُحل” كما كانوا يسمونهم، على حمل جواز عبور غرباء، يبرزونه للسلطات ورجال الشرطة كلما أرادوا عبور منطقة ما الى أخرى. كان هذا قبل اصدار الهويات الشخصية وبعد عقدين من الزمن أصدرت فرنسا أمراً جديداً منعوهم بموجبه من السفر بين الدول وتوجته في عام 1940، خلال الحرب العالمية الثانية، بقرار اقامتهم الاجبارية في مخيماتهم تحت ذريعة “خيانتهم” للوطن وأن تحركاتهم وانتقالاتهم المستمرة يشكلان خطراً على الأمن القومي، ولذلك حين جاء الألمان والزموهم معسكرات اعتقالهم لم يتغير الأمر عليهم كثيراً إلا مقدار الصعوبات الجديدة التي أضافوها لهم، وأشدها تطويقهم خلف أسوار عالية. لقد طوقوا “شعب الريح”! تصوروا كيف للريح أن تحجز.
أكثر ما كان يغيض الغجر اتهامهم بالخيانة، وشهادات من التقى بهم الوثائقي تصرخ بالغضب، لكونهم عُرفوا ولقرون بأنهم لم يتدخلوا في السياسة وأنهم لم يبيعوا أحداً، وانهم فرنسيون لم يخونوا بلدهم فلماذا يتهمهم “أخوانهم” بالخياة. سيدرك لاحقاً الغجر الفرنسيون بأن ادعاء سلطاتهم كان ملفقاً وانهم استغلوا طلب الألمان ليوغلوا في كراهيتهم لهم، وان ادراتهم لمعسكرات اعتقالهم كانت مبعث سعادة لهم، بل أن فعل الاعتقال كان يعبر عن مكنوناتهم ويفضح موقفهم الاجتماعي منهم. حتى الناس كانوا ينظرون اليهم عبر أسلاك المعسرات وكأنهم مخلوقات ناقصة ويشيرون اليهم همساً وكان بعضهم بصوت مسموع “تعالوا وأنظروا اليهم لم يعد بمستطاعتهم سرقة دجاجاتنا بعد اليوم!. كان سجنهم في المعسكرات يعني موتهم مرتين. أولاً لجهلهم سبب اعتقالهم فيها، وهم الذين لم يرتكبوا جرماً ما ليعاقبوا عليه؟. كان السؤال هذا يؤلمهم بل ويُدفنهم وهم أحياء، فحجز “الرُحَل” كان يعني موتهم ثانية، موت ثقافتهم المتأصلة على الرحيل. لقد تجسد الموت لبعضهم لحظة خروجوهم من المعسكرات وصطدمتهم بالفراغ. فراغ مخيف شعروا به حين لم يجدوا لا عرباتهم ولا خيولهم في انتظارهم. لقد فقدوا معنى حريتهم الحقيقة في المعتقل وخارجه، وعن هذا عبر أحد شهود تراجيدتهم “المنسية” حين سألوه لماذا يعيش حتى اليوم داخل عربة على أطراف مدينة حديثة، قال “ولدت في عربة وسأموت داخل عربة!”.

شهادات السجناء وبمساعدة الصور المعادة رسمها للمعسكرات نفسها والمأخذوة عن علو بالطائرة، كتبت تاريخاً طويلاً من العسف لم يُدرس في المدارس الفرنسية ولم يوثق في كتب تاريخها، ومن هنا سنفهم لماذا سمح مخرجه بعرضه على طلاب المدارس ولماذا سبقه توني غاتليف بطلب مشابه من منتجه للسماح له بعرض فيلم “الحرية” مجاناً للغجر، حتى يطلعوا على جزء من تاريخهم المنسي أو الذي يريد كُثرٌ تناسيه، كما يرى المؤرخ جاك سيغو المساهم المهم في التعريف بثقافتهم وكشف الموقف السلبي الاجتماعي والسياسي منهم، على غرار وثائقي الكسندر فرونتي الذي جاء كشهادة صارخة ووثيقة سينمائية حية عن معسكرات اعتقال نُسيَّت ظلماً.