وثائقيات الثورات.. على سبيل التقييم

يعني النقد، فيما يعنيه، تقييم المنتج الإبداعي بعد تحليله والنظر فيه باستعمال الآلة والمنهج التحليليين. ولا يمكن لأي فن، سواء على صعيد المبدع الفرد أو على الصعيد الجمعي، أن يتقدم دون تقييم ونقد. وعندما كتب ميخائيل نعيمة كتابه “الغربال” منذ القرن الماضي كانت رسالته للأديب العربي ابتداء بنفسه، أن يُعمل غربال النقد الموضوعي. ولكن ليس مطلوبا من المبدع أن يتوقف عن الإبداع إلى أن “يغربل” قمح إبداعه. دائما يجب أن يكون هناك “مغربلون” يتابعون ويسيرون جنبا إلى جنب مع منتج القمح والفن.
الثورات العربية قامت على الاستبداد وعلى الصمت. كانت صرخة مدوية في وجه القمع والتهميش والاحتقار .. لقد كانت عملا إبداعيا جماهيريا حيث كسرت السائد وأبدعت الشعوب الثائرة حلمها وخرجت لتحققه. وفي زحمة الجماهير كان المبدع يلتقط أنفاسه كل لحظة ليكتب ويصور ويرسم ويلحن ويغني.. ما تراه عيناه ورؤياه. فأفرزت الثورة كمًّا هائلا من الإبداع دفعة واحدة. على الحيطان وفي الشاشات وعلى الاسطوانات والأوراق وفي عالم الواقع كما في العالم الافتراضي.. كانت ثورة بكل المقاييس. اندفع فيها المبدعون بلا قيد. ومن بين أولئك المبدعين كان المخرج الوثائقي يلاحق الثورة يوما بيوم .. هذا يومه الذي كان موعودا به في حلمه ليصوّر ما يريد.
وانطلق التصوير والمونتاج وكل عمليات الإنتاج، منها ما كان على عجل، ومنها ما كان متأنيا ورصينا. ثم سرعان ما انتشرت تلك الوثائقيات في الأرض وشاركت في المهرجان وتكوّن سريعا كمّ هائل مما يمكن أن نصطلح عليه “بوثائقيات الربيع العربي”. وكان للجزيرة الوثائقية نصيب الأسد من حيث عدد هذه الوثائقيات. وسافرت بعض الأفلام إلى عواصم عالمية ومهرجانات مرموقة كمشاركة فيلم “لا خوف بعد اليوم” (ساهمت الوثائقية في إنتاجه) في مهرجان كان. وطار “نصف ثورة” بين مهرجانات عالمية أخرى. بل إن دورة “كان “2011 كرّمت الثورات العربية بعرض أفلام من مصر وتونس.
الجزيرة الوثائقية لا تكتفي بالإنتاج بل، وفي إطار توجهها المعرفي والثقافي العام، لاحقت القراءات النقدية لتلك الأفلام. لقد حاول الموقع والمجلة الإلكترونيين أن يقدما قراءات نقدية وتقييمية لكثير من تلك الأفلام وعلى رأسها افلام الجزيرة الوثائقية نفسها التي لم تسلم من النقد. وهذا العدد من المجلة خصصناه لتقييم “وثائقيات الربيع العربي” من وجهات نظر موضوعية وفنية وتقنية وأيضا من وجهات نظر إقليمية أي الثورة التونسية والمصرية والليبية.
وقد جاءت هذه الدراسات مكملة للعمل الإبداعي الذي قام به أصحاب الأفلام الوثائقية الخاصة بالثورات العربية في ظروف صعبة نسبيا وفي مدة زمنية قياسية ولكن في جو مفعم من الحرية. وإذا أجملنا مواقف الكتاب سنرى أننا أمام ثلاث ملاحظات تقييمية كبرى.
الملاحظة الأولى، هي أن وثائقيات الثورات واكبت الثورة وكانت نتيجة تراكمات إبداعية سينمائية لطالما حلم بها المبدعون العرب. فلا يمكن النظر إليها على أنها مجرد طفرة كمية وإنما هي لحظة نوعية في تاريخ الوثائقي العربي هي لحظ ة اللاقيد على الصورة بشكل عام. وهذه اللحظة تصعّب مهمة المخرج الوثائقي وتحمله مسؤولية أكبر من مسؤولية المخرجين الذين عانوا زمن القمع.
الملاحظة الثانية أن التسرع غلب على الكثير من الوثائقيات التي حاولت التقاط اللحظة قبل أن تضيع. وهذا الأمر جعل من الكثير من الوثائقيات مجرد تقارير إخبارية مباشرة. فيما تميزت وثائقيات أخرى بعمق النظرة وبعبقرية المبدع في الولوج إلى ما وراء اللحظة الراهنة. محاولة التعبير عن جماليات الثورة لا عن أحداثها اليومية. ولكن رغم قلة الإبداع النوعي أمام كثرة الأفلام المنتجة، تظل عملية إنتاج الوثائقي عن الربيع العربي ضرورية. فالثورات العربية “مخبر” مميز ونادر لتجريب شتى مذاهب الإبداع. وهي فرصة تاريخية لنتعلم الحرية ومنها حرية الإبداع. ولن يكون الإبداع حرا إذا لم يكن مبدعا.
الملاحظة الثالثة التي نستنتجها من هذه الدراسات هي أن على المخرجين أن لا يتوقفا في اللحظة الراهنة المليئة بالشعارات السياسية والاجتماعية، هذه اللحظة “الشعاراتية” ليست مهمة المبدع وإنما مهمته تحويل تلك الشعارات إلى ثقافة حرة وإلى إبداع حر. بمعنى آخر غن عملية التقييم لوثائقيات الريع العربي هي لحظة استشرافية للمستقبل. إنها محاولة للإبقاء على الثورة العربية مشروعا شاملا يتجاوز السياسة وإسقاط الأنظمة.