الجانب المظلم من الشوكولاته..
الأطفال مازالوا يعملون في حقول الكاكاو وشركات انتاجها تكذب!
قيس قاسم
الى نفس الشركات التي فضحها قبل ثلاث سنوات عاد المخرج الدنمركي ميكي ميستراتي ليسألها عن مدى التزامها بالوعود التي قطعتها على نفسها بعدم تشغيل الأطفال في حقول الكاكاو التي تملكها في غرب أفريقيا وتنفيذها مشاريع تنموية تضمنت بناء مدارس نموذحية ونصب مضخات سحب مياه صالحة للشرب وفتح مراكز صحية قريبة من قراهم التي جهزوها بكل ما يلزم!؟ أراد ميكي ومساعده روبرتو رومانو، في فيلمه الوثائقي “طعم الشوكولاته المر” طمأنتنا من خلال تأكيدات مسؤولي كبرى شركات صناعة الشوكولاته في العالم، والتي كرست، لتغيير الإنطباع السلبي الذي تركه فيلمه الأول عند مشاهديه، ملايين الدولارات، على إننا نأكل الآن شوكولاته نظيفة لا دخل للأطفال الأفارقة، الفقراء، في زراعة شجرة “الكاكاو” فيها وانهم بدلاً من العمل في حقولها يذهبون الى مدارس جديدة بنتها الشركات من مالها الخاص!

النبرة الساخرة واللاأبالية المصطنعة اختارهما ميستراتي اسلوباً تعبيراً بديلاً عن الحدة والمباشرة التي استخدمهما في عمله الأول والتي سترهما وقتها بكاميرا أخفاها تحت ثيابه ومن المستبعد جداً تكرار التجربة ثانية مع من يريد مقابلتهم من مسؤولي الشركات. “الاسلوب الناعم” لم يوصله الى مبتغاه لأن مدير شركة “نستله” في سويسرا والتي تقدر أرباحها السنوية بأكثر من نصف مليار دولار! امتنع عن تسجيل مقابلته معه واكتفى بلقاء “تعارف شخصي” رفض خلاله طلب السماح للصحفي بزيارة مزارعهم في جمهورية ساحل العاج، وبدورها رفضت الأخيرة منحه تأشيرة دخول الى أراضيها بحجة عدم حصوله على دعوة زيارة من الشركة المعنية.
التمهيد المطول نسبياً فرضته الحاجة لفهم وثائقي “تكميلي” تأسس على موضوع يحتاج من متابعه فهم خلفياته، وفي كل الأحوال تعامل صانعه مع موضوعه، تجنباً لإفاضة، على أنه امتداد لقضية آنية تتعلق بمصير ألاف من أطفال أفريقيا الفقيرة يُستغلون بطريقة لا انسانية في انتاج مادة معاملة صناعياً غايتها إشباع الحسيات المترفة، لا يعرف زراعها طعمها الحلو المحسن في الأعم، فهم في الحقيقة لا يعرفون إلا طعهما الأول المُر! تكفي هذة المفارقة المُرة لتوليد كم من الإحساس بالظلم اشتغل عليه الوثائقي الدنمركي بطريقة لبقة متجنباً الشعاراتية فيه، مركزاً بدلاً عنها على تحدي مراكز اقتصادية فعالة، وغاية في القوة، بقوة الكاميرا وحدها وعلى إصرار مدهش تمثل هذة المرة بذهابه الى غانا وتعاونه مع صحفي من ساحل العاج يدعى أنغا أبوا وكلفه في تحري حقيقة ادعاء الشركات تخَليها الكامل عن تشغيل الأطفال في مزارع بلاده.
عناد الشركات الغنية ومنع سفره الى ساحل العاج وسع وثائقيه ليجمع دولتين معاً، دولتين تنتجان سوية أكثر من نصف حاجة السوق العالمي من محصول الكاكاو، وحديث، الشركات الدعائي عن تحسين أحوال مزارعي حقولها ينصب عليهما بشكل خاص وبالتالي فأن ما سيتوصل اليه الفيلم سيُعبر عن واقع كامل لحال تلك الحقول والمشتغلين فيها ما يسمح بإطلاق أحكام ستعجز الشركات عن تكذيبها أو الحديث عن محدوديتها طبعاً في حالة مجيئها في غير صالحهم وهذا ما عملت على تجنبه بشكل قاطع فأوصت كل إداري مكاتبها على الإدلاء بكلام واحد وافادة واحدة تفيد وتفيض بكثرة ما معمول به لصالح المشتغلين عندهم من أبناء البلدين. في زياراتهما الميدانية للحقول ومقابلاتهما لسكان القرى لاحظا تناقضاً صارخاً بيت ما هو معلن للمستهلك وبين الواقع على الأرض: فلا مدارس نموذجية بُنيت ولا أحوال مادية تحسنت وما صُور في القرى يُكذب كل ادعاء، فمعدل الدخول منخفضة جداً وما يحصل عليه مزارع الكاكاو في غانا لا يتجاوز ألف ومئتي دولار سنوياً. راتب لا يكفي لسد حاجات المزارع وأطفاله الضرورية وأقل من هذا الرقم يحصل عليه المزارع في حقول ساحل العاج أما المدرسة النموذجية التي كثر الحديث عنها منذ بداية عام 2009 فإنها لم تكتمل بعد وبين أساساتها ارتفعت الأشواك الى علو قامة انسان لإهمالها الطويل وأن ما هو متوفر من غرف مهترئة مبنية بالطين وتدعى مدارس نموذجية لا تلبي نصف حاجة القرى من صفوف دراسية، والمراكز الصحية بعيدة ومملوكة للخاصة لا يمكن للمزارع مراجعتها لقلة دخله، وما كشفته حادثة اصابة طفل بجروح منجل قطع ثمار الكاكاو في احدى القرى قاد الصحفيان الى ما هو أكبر.

ففي كل مدارس القرى لاحظا وجوداً للمناجل وعند سؤال العاملين فيها وأهالي الطلبة اتضح انها تعود الى أبنائهم الذين كثيراً ما يتركون الدراسة ويذهبون بدلاً عنها للعمل في الحقول لحاجة عوائلهم لمدخول يعينهم على العيش. صوروا المئات منهم وقابلوا الكثيرين والمفاجأة ان غيرهم من أطفال دول الجوار يأتون للعمل في المزارع بطريقة غير شرعية وبإجور أقل من الأجور المتدنية التي يتسلمها أطفال قرى البلدين وبهذا يتضاعف شكل استغلالهم أكثر فأكثر على عكس ما قيل للصحفي في مكاتب الشركات العملاقة وبعضها يدعي إتباعه أساليب زراعة خالية من المبيدات الكيمياوية وتمنع تشغيل الأطفال فيها. أخذ ميستراتي كل مادته الخام وعاد ليعرضها على مدراء الشركات. لقد فتحوا أبواب مكاتبهم له هذة المرة لأنهم عرفوا ان ما عنده يكفي لفضح أكاذيبهم واثارة مشاكل كثيرة لهم، ومع هذا إلتزم الإسلوب الذي اتبعه في شغله منذ البداية؛ لم يعلق كثيراً على تبريراتهم فهي لوحدها كات كافية لتعرية جشعهم واعلان موت ضمائرهم، فاكتفى بما صَوَّر وكان كافياً لفتح حوار جديد ومناشدة ضمير المستهلك الغني لتحريك موقفه من متعة حسية يستمتع بها، بتلك لشروط المعلنة في وثائقي صادق بين يديه، على حساب أطفال فقراء يشبهون أطفاله ومن بشر مثله يعيش الملايين منهم تحت خط الفقر في مزارع تنتج زرعاً يكفي لو باعوه بأنفسهم لأصبحوا أغنياءً مثل غيرهم!.