شباب “دفاتر السينما” يعيش “الربيع السينمائي”
أحمد بوغابة / المغرب
في مثل هذا الشهر – أبريل – من سنة 1951، بمعنى قبل 62 سنة، أزيد من ستة عقود. وفقط 5 سنوات بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ظهرت في فرنسا مجلة سينمائية ورقية تحمل عنوان “دفاتر السينما”. هي واحدة من أقدم المجلات في أوروبا والتي صمدت في الصدور إلى يومنا هذا دون توقف أو تعثُّر رغم كل المراحل الصعبة في تاريخ وجودها. وكان قد تنبأ الكثيرون لها بالموت مباشرة بعد ظهورها. ثم قال آخرون بأنها ستغيب حين غابت “الموجة الجديدة” التي خرجت من أحشائها. وانتظر البعض الآخر الأزمة المالية التي زعزعتها أكثر من مرة. لكنها تخرج دائما منتصرة بالبقاء ولو تغير الناشرون ومدرائها ورؤساء تحريرها وحتى هيئاتها التحريرية برمتها. فقد فضل البعض من داخلها الانسحاب أو بيع أسهمهم واستقطاب آخرين برؤى مختلفة على أن تتوقف أو تذوب في السوق أو تموت… فنكران الذات بالنسبة للبعض كي تستمر المجلة يستحقون عليها التحية.
تُعد مجلة “دفاتر السينما” جزء أساسي من تاريخ السينما الفرنسية نفسها لما بعد الحرب العالمية الثانية. وشكلت أيضا مدرسة لها أتباع في كثير من البلدان الفرنكوفونية أو الموجودة في فلكها. كما خلقت تيارات سينمائية في فرنسا سواء في ممارسة النقد في ذاته أو الإبداع السينمائي نفسه. وتَخَرَّجَ من صفحاتها أيضا سينمائيون كُثُر فتحولت إلى مؤسسة سينمائية ضاغطة في مختلف الاتجاهات، الرسمية وغير الرسمية.
وبقدر ما كانت فاعلة بقوة في محيطها تأثرت أيضا به إلى حد أنها إضطرت في كثير من الأحيان من تغير جلدها (خطوط تحريرها وهيئاتها وإخراجها الفني والمطبعي وطبيعة مقالاتها ونقدها وتحاليلها). تتغير مع تغيُّر المجتمع الفرنسي خاصة الثقافي والسياسي والاقتصادي. وبذلك واكبت – أو بعبارة أصح تفاعلت أو استوعبت أو انضمت أو إلتحقت حسب منطق التحليل كل جهة – مع التيارات التي كانت تخترق المجتمع. فمن النقد النضالي العام إلى النقد الملتزم سياسيا نحو اليسار الراديكالي إلى ما سُمِّيَ في مرحلة ما بالنقد الخالص بالحديث عن السينما بالسينما وتجريده من محيطه الإنتاجي. ولكن المجلة لم تصل أبدا إلى مستوى النقد الأكاديمي الذي كانت تنتقده بنفس المستوى والحماس الذي كانت تنتقد فيه النقد الصحفي أو النقد التجاري الدعائي المُمارس في كثير من المجلات حينها حيث هذه الأخيرة تعتمد في عملها على الاستثمار في النجوم. كانت المجلة جدية أكثر من اللازم أحيانا في نظر بعض
المؤرخين.
لم تكن التحولات التي عرفتها مجلة “دفاتر السينما” تأتي اعتباطية أو من فراغ بتغيير مدير نشرها أو رئيس تحريرها. وإنما يصحبها نقاش عميق، في كل مرة، بين جميع أعضاء هيئة تحريرها من جهة وبين باقي رجال ونساء السينما الفرنسية من مخرجين ومنتجين وممثلين وتقنيين من جهة أخرى. وحتى مع جزء كبير من المثقفين والفنانين من اختصاصات مختلفة. وقد يستغرق هذا النقاش سنوات قبل التغيير. أو يتم كُلَّ تغيير نتيجة جدل مثمر ديمقراطي ينعكس على صفحات المجلة من خلال النصوص النقدية حول الأفلام نفسها التي تفرز تلك الآراء عن بعضها. وهذا ما أعطى قوة الصمود للمجلة في استمرارها حيث اعتبرتها الأطراف المتصارعة فنيا وثقافيا وسياسيا حتى بأنها “الوطن” الذي يجمعهم وبالتالي لا ينبغي تدميره بل تقويته. لم تكن السينما في فرنسا منعزلة خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين. ولعبت فيها “دفاتر السينما” دورا كبيرا في إخراج السينما من التصوير الكلاسيكي بالاستيديوهات نحو ديكورات حقيقية وواقعية في الشوارع والمعامل والحقول والمساهمة في تقليص ميزانيتها ضد السينما “الرأسمالية” و”الاستهلاكية”. كما غيرت حتى في استعمال آلات التصوير من كاميرات ضخمة إلى التصوير ب 16 ملم المحمولة على الكتف، دون إغفال الجوانب الإنسانية الأخرى كالعمل الجماعي المشترك في كل تفاصيل السينما كفرقة أصدقاء وشلة واحدة تتبادل الأدوار والمهام السينمائية في ما بينها حيث يتحول الممثل في فيلم ما إلى منتج منفذ في فيلم آخر. والمونتير يعمل أيضا كاسكريبت في جميع الأفلام تقريبا ليتحول السيناريست إلى ممثل عند صديق من الأصدقاء وهكذا دواليك. وهي التجربة التي أقدم عليها عدد من السينمائيين في كثير من الأقطار إذ وجدوها غير مكلفة ومساعدة اقتصاديا للجميع. وهذا الأسلوب في الإنتاج هو روح وعُمق ما سيُعرف في ما بعد ب”الموجة الجديدة” في فرنسا. وكان وراءها عدد من النقاد في “دفاتر السينما” الذين سيتحولون إلى الإخراج السينمائي لتأكيد وجهة نظرهم بربطها بالممارسة وليس نظريا فقط. سينمائيون كثيرون انتقلوا من الكتابة بالقلم/الحبر إلى القلم/الكاميرا حسب ما روجوه أنفسهم من مصطلح سينمائي حينها. نذكر من بينهم على سبيل المثال وليس الحصر: رومير، شابرول، كودار، تريفو…. وهذا الانتقال من النقد إلى الإخراج السينمائي استمر في المجلة على امتداد وجودها إلى حدود هذا التارخ.

لم تستقر المجلة في نصوصها التحريرية وهيئتها منذ تأسيسها في شهر أبريل سنة 1951 إلا إلى حدود سنة 1959 حيث بدأت من ذلك التاريخ تظهر ملامح معالمها النقدية واضحة كهوية ووظيفة ورؤية للعالم. وتميزت عن المجلات الأخرى الموجودة حينها ولها نفس القوة المعرفية والتأثير مثل مجلات “بوزيتيف” و”السينما” و”صورة وصوت” حيث الجدل بينها دفع بالنقد السينمائي إلى صورة متقدمة في العالم وأصبح مرجعا لاعتماده في كثير من الأقطار حتى التي لم تكن تنتج السينما ويكتفي نقادها باستهلاك الإنتاجات العالمية كما كان الحال في المغرب وخاصة في الأندية السينمائية.
لم تكن المجلة تكتفي بالحديث عن الأفلام بشكل مجرد وكفى الله شر المؤمنين بل كانت لها مواقف جريئة من قضايا سينمائية. وتتضامن مع السينمائيين المقموعين في بلدانهم في ما كان يُسمى حينها ب”العالم الثالث” أو المعسكر الاشتراكي وحتى في الأقطار الغربية نفسها. كما كانت ترحب بتجارب جديدة غير تقليدية قادمة من أقطار أخرى غير أوروبية. إنها المجلة التي عاشت في قلب المجتمعات وعلى إيقاع نبضها. محطات تاريخية كثيرة يمكننا الوقوف عندها لتأكيد ما سلف قوله لكن يمكن للقارئ الاطلاع عليها مباشرة في مواقع الأنترنيت، وكثير من الكتب الصادرة عن تجربة هذه المجلة، ولا نعتقد بوجود مجلة سينمائية أخرى حُظيت بالعدد الضخم من الإصدارات كـ”دفاتر السينما”. إنها فعلا ظاهرة في النقد السينمائي بمحتواها ووجودها وصمودها لأكثر من ستة عقود. مجلة طبعت التاريخ السينمائي… والنقدي طبعا ومن يطلع عليها تنقصه تهوية في معارفه.
ففضلا عن سنة التأسيس في أبريل 1951، يمكن اعتبار سنة 1959 محطة بارزة أيضا بتشكيل هويتها السينمائية والأدبية إلى حدود سنة 1964 التي انتهت فيها ما عُرف بسنوات “دفاتر الصفراء” إحالة إلى لون الغلاف الأصفر بمحتوى أدبي نقدي يعتمد على سينما المؤلف ويتبنى إنتاجاتها ويعتبرها السينما “الحقة”!!! وتمت أيضا قطيعة رمزية مع بعض مؤسسيها الذين أصبحوا مخرجين معروفين بمغادرتهم النقد السينمائي نهائيا. تكون أحداث مايو 1968 بدورها محطة ساطعة في المجلة حيث لم تبق حبيسة مكاتبها بل نزلت إلى الشارع مع باقي الشباب المنتفض من المؤسسات التعليمية إلى جانب العمال في أكبر مظاهرات احتجاجية في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية. ونجحت في توقيف مهرجان “كان” وألغت فعالياته صحبة السينمائيين الذين كانوا من مؤسسيها، إلى آخره من الأحداث المواكبة. سيظهر بعد ذلك، داخل المجلة، ما يمكن تسميته بتيار “السياسة والجمالية في النقد السينمائي” الذي سيفرض نفسه علينا في المغرب في مطلع السبعينات. وسيمتد هذا التيار طيلة سنوات السبعينات بكل المناهج في تطبيقها على فنون السينما بدءً بالماركسية مرورا على التحليل النفسي ووقفة عند البنيوية ثم السيميولوجيا. علما أن التوجه العام لهيئة التحرير حينها كان “ماويا” (نسبة لفكر الزعيم الصيني ماو تسي تونغ) كرد فعل على “خيانة” الاتحاد السوفياتي الذي أصبح بدوره إمبرياليا خاصة وأن ذلك واكب انتصار شعوب الهند الصينية على الولايات المتحدة الأمريكية، وسقوط الدكتاتوريات في شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال) وباليونان، وتحرير كثير من الأقطار الإفريقية من الاستعمار. كل هذا سينعكس جليا في “دفاتر السينما” والذي يمكن الرجوع إليه لفهم الإنتاج السينمائي لتلك الفترة من تاريخ البشرية.
طفرة أخرى ستعرفها المجلة مع مطلع سنة 1981 حيث وسعت من أنشطتها لتشرع في إصدار الكتب السينمائية وأعداد محورية حول سينمائيين أو ظواهر سينمائية أو اتجاهات، وكذا السفر إلى سينمات من العالم لتقفز قفزة أخرى مع الألفية الثالثة نحو التكنولوجية بتأسيس موقع إلكتروني وإصدار أفلام في أقراص مدمجة DVD وتنظيم تظاهرات للمجلة خارج فرنسا، وغيرها من الأنشطة السينمائية لا يسمح لنا المجال التعمق فيها بالتفصيل ما دامت متوفرة لمن يرغب الاطلاع عليها وربطها بالأحداث السياسية التي تعرفها البشرية. لقد عرَّفت المجلة بكثير من السينمات في العالم منها السينما الإيرانية والكورية واليابانبة والمستقلة في الولايات المتحدة الأمريكية….
لكن لا ينبغي إغفال دور “دفاتر السينما” في النقاش الذي دار حول “الاستثناء الثقافي” حيث نجحت بقوتها المعهودة في الدفاع عن السينما الفرنسية فتمكنت هذه من البقاء على الوجود بينما ضاعت سينمات وطنية كثيرة في أوروبا أهمها السينما الإيطالية والسينما الألمانية والسينما الإسبانية التي أصبحت تلك الأقطار كلها تحت رحمة هوليوود في قاعاتها.
ثلاث أسماء نقدية أساسية طبعت تاريخ مجلة “دفاتر السينما” والتي تُعد رموزها وإيقونتها على مر السنين وهم: المنظر “أندري بزان” كمؤسس منذ انطلاقها ثم المناضل السياسي اليساري الملتزم “سيرج داني” الذي أخذ المشعل في منتصف الستينات وجعل من السينما في طليعة النضال ليأتي الرجل الناضج والهادئ “سيرج طوبيانا” في الثمانينات حيث أعطى دفعة قوية للمجلة بإنقاذها من الموت وإعطاء مساحة جديدة في النقد السينمائي لجيل تكون أكاديميا للجمع بين السينما والسياسة والتجارة بمفهوم نبيل لها.
قبل سنتين، بدأت إرهاصات التغيير تصل إلى هيئة التحرير لمجلة “دفاتر السينما” (لاحظوا معي بأن التغيير الذي بدأ يدخلها قبل سنتين جاء بالضبط مع الأزمة الاقتصادية العالمية. فهل هي صدفة التاريخ من جديد؟ أم التفاعل السينمائي؟ أم..؟ هل هي رغبة ذاتية؟ أم الواقع الموضوعي يفرض نفسه رغما على الجميع؟).

فقبل سنتين كانت تظهر بعض النصوص تنتقد السينما الفرنسية والسياسة الرسمية تُجاهها (كانت المجلة ضد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي وسياسته في المجال السمعي البصري حيث انتقدته بدون هوادة أو رحمة). وتنتقد أيضا السينمائيين المُهيمنين على الساحة الفرنسية بأفلامهم التي لا تروقهم وتحملهم تدهور الإنتاج الفرنسي في الداخل والخارج. بدأت وتيرة النصوص النقدية تتصاعد في كل عدد، وتحتل حيزا مهما في المجلة، لتصل في هذا الشهر – أبريل 2013 – قمتها حيث خصصت المجلة نصف عددها لملف حول السينما البديلة، التي يحملها الشباب والشابات بمنطق مختلف في شكلها ومضمونها، والأبعاد التي تتوخاها سواء بأفلام قصيرة أو طويلة وبآليات جديدة في التكنولوجية تنعكس جليا في الإنتاج السينمائي. شباب وشابات من حساسيات ثقافية ومنابع معرفية مختلفة وحتى من مراجع فنية متنوعة كالمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية. ملف تضمن حوارات ونصوصا تحليلية، وإعطاء فسحة لهم للتعبير بالكتابة عن منهجهم الجديد. جاء الملف على شكل “بيانات” و”احتجاجات” لجيل جديد من السينمائيين في فرنسا ليس بالضرورة يدخل في نمط ما يمكن أن يسميه البعض ب”صراع الأجيال” بل برؤية سينمائية لها آفاق أخرى في التعامل مع الفن السابع. وهذا ما عبرت عنه افتتاحية العدد بوضوح حيث ربطت هيئة التحرير نفسها بأولئك السينمائيين الشباب وأنها جزء منهم لأنها تريد بدورها أن تتطور لكي تنتج مجلة جديدة اعتمادا على أفلام جيدة.
والجميل أنها ربطت النصوص بإخراج فيه كثير من الاحتجاج حيث اعتمدت على كتابة عناوين النصوص في “لافتات” يحملها أصحابها كأنهم في مسيرة ومظاهرة مطلبية بينما العنوان الرئيسي للملف هو “الهجوم” وهي دعوة صريحة للصراع. وهذه الروح الاحتجاجية والقتالية، في هذا العدد الذي يصادف شهر أبريل تاريخ صدور التأسيس، واضحة في غلاف العدد الذي يبدو فيه الحائط مكتوبا عليه العنوان على طريقة “غرافيتي” في الشوارع كأسلوب الاحتجاج “لم يمت السينمائيون الفرنسيون الشباب” !
إنعراج جديد في سياسة المجلة التي أعلنت “ربيعها السينمائي” مع السينمائيين الشباب وليس هذا غريب إذا علمنا أن 90% من أعضاء هيئة تحرير “دفاتر السينما” حاليا لا يتجاوز عمرهم 30 سنة فيناصرون أقرانهم من السينمائيين كما فعل من قبلهم زملائهم قبل نصف قرن وطيلة مسيرة حياة المجلة. تتأسس سينما جديدة في فرنسا ومع نقد مختلف فيه كثير من الاجتهاد وكثير من الغموض الفكري والجمالي في حق أفلام فرنسية وغيرها. مجلة “دفاتر السينما” فاعلة ومواكبة ومجتهدة وهذا ما ينقصنا في أقطارنا العربية…