فريديريك دوفو

عن “سينما البحث”، التجريب، والطليعة

تقديم، وترجمة : صلاح سرميني

“فريدريك دوفو” باحثةٌ، وسينمائيةٌ فرنسيةٌ لطيفةٌ جداً مع الكثير من جديةٍ تختلط ببعض  الحدّة (أعرف بأنها لن تغضبَ من هذا التوصيف، وسوف تكون سعيدةً به لو ترجمه لها “غوغل” كما يجب)، ولا أستغرب هذا المزيج، فهي من أصولٍ جزائرية بربرية (والجزائرية من عندي)، ومع السنوات الطويلة من معرفتي بها (مع زوجها الصحفي، والسينمائي “ميشيل آمارجيه” المعروف بميوله للسينمات الأفريقية، والعربية)، بدأتُ أتعود على “طبائعها الإستبدادية”، وبتجاوز النميمة، يجدر الإشارة، والإعتراف أيضاً، بأنها، وبفضل المهرجان الذي أسّسته في منتصف الثمانينيّات تحت عنوان “المهرجان الدولي للطليعة”، فقد منحتني فرصة تذوّق السينما التجريبية حتى تخطيتُ عتبة إدمانها، ووصلتُ إلى حالةٍ سينمائية لا شفاء منها.
منذ بدايات علاقتي معها (الإحترافية طبعاً)، لفتَ إنتباهي نشاطها السينمائي التنظيريّ، والعمليّ، هي التي تُنجز أفلاماً تجريبية بطريقة الحكّ (حكّ الشريط الفيلميّ الحسّاس، وليس الظهر)، والكشط، والخرم، وحتى الحرق، والتدمير، بإستخدام شرائط من مقاساتٍ مختلفة (8، 16، و35 مللي)، حيث تضع الواحد فوق الآخر (في علاقةٍ شهوانية) حتى اللحظة التي طردَتها المُختبرات التقليدية، ورفضت نسخ أفلامها، فهي، بالنسبة لهم، ليست مغرية مادياً، أو فنياً، وبعد سنواتٍ عديدة من تلك “اللاءات المُختبرية”، ظهر واحدٌ بديلٌ إختار أصحابه عنواناً مكروهاً، ومقيتاً (L’Abominable) ـ وبدونه، لما تمكنت هي، أو غيرها من مجانين السينما التجريبية مواصلة بحوثها السينمائية الأقرب إلى تعذيب الأشرطة الحساسة (والمتفرج) بتلك الطرق الجهنمية المُشار إليها أعلاه (الحكّ، الكشط، الخرم، الحرق، …)، بدون أن تتحوّل أفلامها إلى مشاهد رعبٍ قصيرة تُطاردنا في أحلامنا.

وقبل أن أسترسلَ في الكتابة عنها، أتذكر بأنه كان من المُفترض اللقاء معها (وزوجها ميشيل) من أجل ترتيب الجلسة الليلية المُخصصة لها خلال الدورة السادسة لمهرجان الخليج السينمائي في دبي (من 11 وحتى 17 أبريل 2013) للحديث عن أشكال، وأساليب، وممارسات السينما التجريبية، وعن تجربتها الخاصة، والتطرّق ـ إن تركنا ضيوف الجلسة سالمين ـ إلى مُحاولات التجريب في السينما العربية (إن كانت تعرف شيئاً عنها)، ولكن، بعد أن أهدرنا وقتاً مُعتبراً في مناقشة ترتيباتٍ (كان بإمكاننا مناقشتها في المطار، أو الطائرة)، وتحدثنا قليلاً عن مهرجانيّ دبي، والخليج، وعن مخاوفهما من إرتكاب حماقاتٍ سلوكية تُسبب إحراجاً ما (على سبيل المثال : ملابس، عادات، تقاليد، طعام،…تصوير)، حتى تذكرنا بأنا إلتقينا من أجل التحاور، ولكنهما في تلك الدقائق القليلة، تذكرا أيضاً (يا للصدفة) موعد تناول وجبة الغذاء، وهي لحظاتٍ مفصلية عند الفرنسيين لا ينفعَ معها إغراء حوارٍ(ولا الفنانة “إغراء” نفسها أيام شبابها)، ولا ثرثرةً عن “شعوذةٍ تجريبية”، ولهذا، إتفقنا على إلغاء/تأجيل الحوار الخاصّ، والاستعاضة عنه بترجمة حواراتٍ أخرى جاهزة، وبحجة أنني أعرف عنها كلّ شيء، ولن تختلف أسئلتي، وأجوبتها كثيراً عن أسئلةٍ، وأجوبةٍ سابقة، فقد تواعدنا بأن نفتعل مناقشةً لاحقة في دبي، وهكذا، أبدت موافقتها على ترجمتي حواراً اجراه معها ثنائيّ آخر هما :
“ناتالي كوريان” من موقع (objectif-cinema)، و”كولا ريكار” من موقع (cineastes.net).
وبينما كان “ميشيل” يدفع حساب فناجين القهوة التي إحتسيناها على مهلٍ خلال تلك الجلسة، كانت “فريدريك دوفو” تقول لي:
ـ إكتب ما تجده مناسباً، ومفيداً، إنني أثق بكَ يا معلم (Chef).

***
ماهو تعريفكِ للسينما التجريبية ؟
حسناً، في البداية، وبالنسبة لي، أرغب بأن لا أستخدم كلمة “تجريبيّ”، لأنها تتضمّن معنىً أولياً بما يكفي، يُحيلنا مباشرةً إلى “التجريب” في جانبه التبسيطيّ، وأُفضّل القول، بأنّ هناك “سينما بحث”، بمعنى، كانت في البدايات، تأريخياً، تبحث، وغالباً بالعلاقة مع الفنون التشكيلية (فرنان ليجيه، وأقرانه،…)، ولاحقاً، تكتشف مكوّناتها الخاصة، أيّ العناصر التي تتكوّن منها : إطار الصور، الضوء، الإيقاع، إلخ….
بأيّ طريقة يتميّز هذا البحث، هذا أمرٌ يصعب نوعاً ما تفسيره، ولكن، يمكن القول، بأنه في الأساس عملٌ تجريديّ، حيث نختار موتيفاتٍ/أنماطاً ـ تُعادل الموضوع في السينما التجارية ـ ونعمل حولها، ونُعمّقها، ولا نُنهي الفيلم طالما أننا فعلياً لم نلتقط شيئاً ما من الموتيف/النمط الذي إخترناه في البداية، بينما تتوّجه السينما التجارية للبحث في الخارج، تحكي قصصاً تحاول تسليتنا،….
ولهذا فإنّ أفلام البحث هي غالباً قصيرة زمنياً، ويمكن الملاحظة بأنّ معظم السينمائيين التجريبيين يعتمدون على التمويل الذاتي لأفلامهم.
ولأسبابٍ يمكن تحديدها لاحقاً، النظام (المقصود النظام السينمائي) ـ كما حاله اليوم ـ إستحوذ على الكثير من إبتكارات السينما التجريبية، ولكنه يرفض إدماجها فيه، وهذا أمرٌ نسبيّ، ولكنه من جانبٍ ما، يُجسّد نوعاً من الرفض، ولهذا يعتمد السينمائيون التجريبيون على التمويل الذاتي.
ولكن، إذا توقفتُ عند وجهة نظري، وتعريفي، فإنني أرفض قطعياً إعتبارها بديهية، حيث يقول البعض :

“التجريبيّ، كلّ ما هو تمويل ذاتيّ”.
بالنسبة لي، لا، التمويل الذاتي أمرٌ واقعٌ، وأريد حقاً بأن يتغير، أرغب بأن نتمكن يوماً من القول:
“حسناً، أنجزتُ فيلماً تجريبياً، هذا المتحف، أو تلك المؤسّسة الكبرى تنتج أفلامي”.
التصنيف الوحيد الذي يمكن أن أعطيه، هو ذلك الذي أقدمه دائماً لطلبتي منذ المحاضرة الأولى :
إنّ الإقدام على إنجاز أفلاماً تجريبية، هو بمثابة إختيار نمط حياة، بينما عمل سينما أكثر تجاريةً، هو في الغالب، إختيار مهنة، بالنسبة لي، فقد أقدمتُ على إختيار نمط حياة، والسينما التجريبية هي فلسفة حياة، في الواقع، وعلى الرغم مني، يتوجه إعجابي دائماً نحو أولئك الذين يُوفقون هذه الجمالية مع نمط حياتهم، وبالعكس، أولئك الذين لا يخونون في ممارساتهم، وحياتهم (وأجرؤ على القول : “أولئك الذين لا يبيعون أنفسهم”، مهما يكن الإقتراح الذي نقدمه لهم إذا لم يتماشَ مع قناعاتهم المبدئية مهما كلف الأمر).

من المُفترض الحصول على دعمٍ بدون مقابل ؟
نعم، بالتأكيد، هذا واضح، أعني الحصول على دعمٍ بدون مقابل، علينا أن ننجز ما نريد، وبطريقةٍ صحيحة، ولكن، “بدون أيّ مقابل” لا تعني، بالنسبة لي، بدون نصائح، السينمائيّ، أكان تجريبياً، ـ أو تجارياً، ـ أقصد يُقال عنه “تجاريّ”، لأنني لا أحب كثيراً هذا التعارض ـ فإنه، في بعض المرات، يحتاج إلى نصائح، ومتابعة إنتاجية.
أن نُنجز أشياء، وبطريقةٍ جيدة، أو لا نُنجزها كما نريد تماماً، إذاً، يمكن أن نحتاج إلى المشورة، ولكن، هناك فكرةٌ أخرى، عندما يوجهنا أحدهم إلى عمل هذا الشيئ، أو ذاك، وهنا ندخل في آليات إنتاج الأفلام المُؤسّساتية، في حين يمكن للسينمائي أن يمتلك الحقّ بإنجاز أفلاماً بطلبٍ من مؤسسةٍ ما، ولكن، هذه إشكالية أخرى، صحيحٌ بأنه إذا إقتصرعلى بحثه، يتوّجب على من يريد تمويله إحترام خطواته، ومن ثمّ، الجانب الثالث، وهو أمرٌ يجب أن يُوضع في المقدمة، لأنني أريده أن يتغير، هو موضوع التوزيع، وهنا، أكشف عن حزني عندما نلاحظ بأنّ توزيع السينما التجريبية لا يمكن مقارنته مع السينما التجارية، أو بالأحرى لا يمكن إعتباره مهماً على النحو الذي تتمتع به السينما التجارية، بينما أجد بأنه عندما نعرض فيلماً للمخرجين لولوش، بريسون، رينه ـ أو أيّ مخرج آخر لا فرق ـ علينا أن نقدم في بداية العرض فيلماً تجريبياً، أو تسجيلياً، وبالطبع لا أتناسى السينمات الأخرى، أيّ أن نقبل بعرضها بطريقةٍ عادية، وحتى نتوقف عن طرح السؤال :

ماهي السينما التجريبية، أو “سينما البحث” ؟
وهكذا سوف يصبح الأمر شائعاً، ومألوفاً، ولن يكون هناك أيّ نوعٍ من الفصل، بينما يؤلمني هذا العزل المُستمر فيما يتعلق بالإنتاج، والتوزيع، إنهما نقطتان أرغب النضال من أجل تغييرهما، وقد حاولت كثيراً، عندما أسّست (مع ميشيل) مهرجاناً للسينما، وكنا نبرمج قليلاً من كلّ شيئ، كما حاولنا أيضاً بذل جهوداً كبيرة فيما يتعلق بالإنتاج، ولكن، لا يمكن النضال وحدنا ضدّ التيار.

ماهو رأيكِ بمُصطلح الطليعة ؟

يبدو لي بأنّ “البحث” لا يرتبط بزمنٍ محدد، بينما يكشف مصطلح “الطليعة” بأنه أكثر طنيناً، ويرتبط بالفنّ التشكيلي، إذاً، لا يعبر عن خصوصيته.
في الحقيقة لا يوجد مصطلحاً مناسباً، في السبعينيّات وجدنا مصطلح “سينما مختلفة”، ولكنه لا يناسبني، لأنه يتضمّن مقارنةً مع شيئٍٍ آخر، مع التجاريّ، يعني مختلفٌ عن …السينما التجارية.

هل العزل الذي تتعرض له السينما التجريبية عادة فرنسية ؟
بإمكاني القول في نفس الوقت  : نعم، ولا.
نعم، لأنّ “سينما البحث” التي يُقال عنها “طليعية” كانت مرتبطةً بالفنون التشكيلية : رينيه كلير، شوميت، ليجيه،….
لا، في هذا المعنى، يجب عدم نسيان ولادة تعاونياتٍ في فرنسا فترة السبعينيّات، وقد تمّ جلبها من ما وراء الإطلنطي، حيث بدأت في أمريكا، وأخذت فرنسا فكرة التعاونية، وهنا أيضاً أعتقد بأنها (المقصود فرنسا) خسرت موعداً مع تاريخها الخاصّ، لأنها كانت رائدة، وتمتلك كلّ البطاقات بين أصابعها، وبمُساعدة الحرب، لم تتمكن من متابعة تاريخها، وبالنسبة لي، أعتبر هذا الأمر فرصةً ضائعة، ولكن، أياً كان، الأهم بأن ذاك النموذج عبر الإطلنطي حتى وصل إلى أوروبا.
إذاً، الأمر ليس خصوصية فرنسية تحديداً، هناك تعاونية في لندن، وفي الولايات المتحدة، ما سوف يصبح خصوصية فرنسية، هي تأسيس مهرجاناتٍ مخصصة حصراً للتجريبيّ، وهو أمرٌ مفيدُ جداً، لأننا خلال أسبوع تقريباً نشاهد أفلاماً تجريبية.
(ملاحظة : من المفيد الإستفسار لاحقاً من “فريدريك دوفو” عن المهرجان الدولي للسينما التجريبية الذي تأسّس، وإنعقد في “كنوك لو زوت”/بلجيكا عام 1949، وإستمر لمدة خمس دوراتٍ : 1949، 1958، 1963، 1967، 1974).

للقراءة أيضاً :

كيف وقعت “فريديريك دوفو” في مرجل السينما التجريبية
http://doc.aljazeera.net/followup/2013/03/20133209239721429.html

دوفو، وميشيل أمارجيه يكشفان عن سينماتٍ مختصرة


إعلان