كيف نوثّق كرنفالا..

 يبدو المصباح والشجرة جميلين في الفن لماذا لا يكونان جميلين في حياتنا أيضا
ميشال فوكو

“الزين هرب…” قالها أحد المتعطشين للحرية ذات مساء في شارع خال من الناس إلا من الشجر والغضب وذكريات القهر، معلنا سقوط نظام الرئيس التونسي بن علي. ثم بدأت حركة الدومينو تهز العروش. حدثٌ جبار استدعى لحظة مليئة بالجبروت والتجريب العفوي لانطلاقة اللسان الحر في شارع أصبح مكتظا وأمسى حرا. كان ذلك الفيديو الذي انطلقت فيه حنجرة ذلك الحقوقي التونسي وحيدا في شارع الحبيب بورقيبة، مشهدا سينمائيا وثائقيا بلا سيناريو وبلا مخرج.. كان وثيقة فنية صنعتها ذائقة جمالية فردية تستبطن حسا جمعيا متعطشا للصراخ والنشيد. فتماهي المشهد مع.. “إذا الشعب يوما أراد الحياة..” واكتملت القصيدة- الفيلم. مثل هذه الفيديوهات تتالت في تونس ومصر وليبيا.. وأظهرت جماليات الثورة حتى ارتقت التسمية إلى الربيع العربي.
بقطع النظر عن التجاذبات السياسية والإيديولوجية التي عقبت سقوط الأنظمة في سنة 2011 فإن الوثيقة سجّلت ما حدث في أنهج الثورات ولياليها وصباحاتها المليئة بالشهداء، والنديّة بمعاني الصمود، تلك الوثيقة العفوية التقطها هاتف جوال لم يرتجف أمام الرصاص، لأن صاحب الهاتف كان يمضغ حلما دفينا فيه وفي أمة طالما حلمت بدفن جلاديها.. كانت الصورة قاتلة للجلاد مثلما كان الرصاص قاتلا للثوري. يا لها من قسمة ضيزى : صورة تقابلها رصاصة وشهيد يقابله جلاد.. وانتصرت الصورة أو تكاد..
يذهب الكثير من الباحثين إلى أنه لم يشهد العالم نقلا لأحداث اجتماعية بشكل دقيق ومفصل مثلما شهدته الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن.. لقد كان العالم ينظر إلى المعركة بين الثوار والدكتاتور أولا بأول.. وكانت الأفكار تدور والصور تدور والمواقف تدور ويسقط الواقفون على حد الموت ثم يسقط الساقطون على حد السلطة.. ووراء كل تلك الضوضاء والغبار كان هناك معنى جميل يتشكل في النفوس والأذهان. هنا انطلق المبدع يرسم على الجدران والورق، بالصوت والجسد، في كل الفضاءات المستباحة أمام الفن والفنان. لقد شكّل المشهد ما تسميه جوليا كريستيفا الباحثة البلغارية في السيميولوجيا “بالخطاب الكرنفالي”.. وهو خطاب تتعالى فيه كل الأصوات مرة واحدة : صوت الثائر والأم الثكلى والطفل الرضيع والزعيم السياسي وألسنة الحق وأبواق الباطل.. الكل يصرخ أمام الكل.. لأن الدكتاتور سكت لأول مرة.

أمام كل هذا المشهد أين أنت أيها الوثائقي وأين تضع كامرتك ؟؟
أما أين أنت ؟ فسؤال نتلمس قوة إلحاحه في كل الأفلام الوثائقية التي أنتجها أصحابها بعد الثورة وأثناءها. لأنه عندما يتماهى الواقع والصورة وتتماهى الحركة بالمعنى المقصود من ورائها تضيق الصورة على صانع الصورة. أين سيكون الفارق؟؟ خاصة وأن صانع الصورة أحيانا هو جزء من الحراك الشعبي وطرف فيه. فكثيرا ما تضيع منه المسافات الفاصلة بين الفنان وموضوعه. فهل يستطيع الفنان الذي رفع شعارات الثورة في التحرير أن ينتج فيلما وثائقيا هادئا خاليا من الشعارات؟؟. لقد انطلق نسيم الحرية كما لم ينطلق نسيم عربي من قبل. هذه الحرية التي حلم بها الفنان أصبحت عصية على التخيل والتصوّر والتصوير. وجميلة هي الحرية حينما تكون حلما ترسمها كما تشاء ولكنها عندما تصبح واقعا معيشا تصير مادة معرّضة للابتذال. فهل يمكن أن نحلم بما بعد الحرية ؟؟ وهل هناك عالم يقع فيما بعد الحرية ؟؟ ربما..؟؟ لعله عالم جمال الحرية… بعبارة بسيطة : هل استطاع الفيلم الوثائقي العربي الذي خرج بعد الربيع العربي أن يصوّر جماليات الثورة ويجعل منها أيقونة فنية بعدما فرضت نفسها أيقونة سياسية؟؟
أما سؤال :  أين تضع كامرتك ؟؟ فسؤال أزلي يصاحب المبدع في السينما، وثائقية كانت أم روائية. حيث تضع كامرتك أيها الوثائقي تضع اسمك ورصيد فنك وحلمك والناس أجمعين.. إذا أخطأتَ الموضع أخطأك الجمال وأخط��ت الهدف واستوى الزمن الجميل بالتاريخ الخانق. إن موضع الكاميرا والضغط على زرها للتصوير هي تجربة خطيرة طرفاها الحياة والموت. فإما أن ترسم للحياة معلما جديدا خالدا، أو يموت المشهد مع من مات من بشر وحكاياهم الصغيرة. إذن كيف يمكن للفنان الوثائقي في لحظة فارقة في التاريخ، كلحظة الربيع العربي، أن يوثّق دون أن يقتل ما وثقه ويغسله بماء الإعلام ويدفنه في مكتبات الأرشيف.؟ كيف يمكن للكاميرا أن تحيي المشهد الثوري وتقول ما عجزت عنه حركة الشارع التي انقضت بما لها وبما عليها؟؟ كل من في الشارع عادوا إلى تفاصيل حياتهم محملين بقليل أو كثير من أمل في غد أفضل، إلا الفنان جاء قبلهم / معهم / بعدهم ليكنس الشارع بعدسته ثم يختار مما وجده صالحا للذاكرة بعدما يذهب الزبد جفاء… أن تضع كامرتك في موضعها هو أن تأتي في الأوان لا قبله ولا بعده.
يمكن أن نقول إن الربيع العربي يمثل مخبرا ممتازا لتجارب الوثائقيات العربية. فالموضوع ممتلئ بكل معاني التاريخ وكل الكثافات الدلالية الرمزية والنفسية والجمالية والبطولية التي مثّلتها لحظة الثورات. وحيّز الاختيار وحرية التناول أصبحت متاحة للوثائقي العربي أكثر من أي وقت مضى. هذه الخصوصيات التي فرضتها اللحظة الثورية تفرض وقفة متأنية نقدية واستشرافية لمسيرة الوثائقي العربي. وقد حاول الكتاب الرابع للجزيرة الوثائقية أن يفتح النقاش حول هذه القضايا ويكون سباقا في قراءة وثائقيات الربيع العربي وقطار الثورة يمشي. وتظل المهمة هي فتح باب التساؤل والمراجعة والتقييم أكثر منها تقديم الإجابات الجاهزة والمواقف الحاسمة.
والمتأمل في فصول الكتاب ومواده يلحظ هذه النزعة نحو التفكيك والتساؤل وإعادة القراءة دون الجري وراء الجواب السهل والمواقف المطمئنة لما قد سلف. ومردّ ذلك أن الحدث التاريخي الذي جدّ في 2011 لم يكتمل ومازالت هزاته الارتدادية تفاجئنا كل يوم. ومن ناحية أخرى مازالت الأفلام الوثائقية المتناولة لموضوع الثورة تعيد إنتاج نفسها وتنويع الرؤى والتصورات.
حاولنا في هذا الكتاب أن نبني إشكالياتنا بناء تراكميا يصل الماضي بالحاضر نحو المستقبل. فجاء الفصل الأول تقييما لبعض التجارب الوثائقية في العقود الماضية والتي عالجت المواضيع والأفكار التي طرحتها ثورات الربيع العربي. واختار الباحثون نماذج من المشرق إلى المغرب العربي. والملاحظ مدى التشابه في تقاسم الهموم بين بعض المخرجين العرب الجادين الذين اختاروا الاختلاف عن السائد. من ميشيل خليفة ورشيد مشهراوي الفلسطينيين ومحمد ملص وعمر أميرلاي السوريين إلى خيري بشارة وداوود عبد السيد المصريين  والتجارب العراقية الرائدة وصولا إلى التجارب المغاربية الوثائقية، كلها أعمال غنّت لعذابات الإنسان العربي أينما كان واستبطنت كل الشعارات التي رفعتها الجماهير العربية في الميادين في 2011. ويهدف هذا الجرد البسيط إلى إثبات أن المبدع العربي الأصيل لم يلد بعد الربيع العربي وأنه بشّر بمفاهيم ثورية قبل أن يحرق البوعزيزي نفسه. لقد أحرق قبله بعض الوثائقيين العرب خيالهم وعقولهم ليدونوا المعاناة ويبثوا الحلم في أفلامهم.
ويأتي الفصل الثاني لينصف من كانوا في الميادين إنهم أول من صوروا وأخرجوا  ونشروا أحلامهم وبطولاتهم في فيديوهات من الصعب تصنيفها هل هي مجرد مادة إعلامية أم أعمال فنية سينمائية أم ماذا بالضبط ؟؟ في النهاية هي وثائق مصورة وحتما ليست وثائقيات. طرحت هذه الفيديوهات إشكالية سلطة الصورة على الواقع. فبفضل تلك المقاطع استعرت نيران الثورة وبفضل نيران الثورة تطور أداء التصوير لتلك المقاطع. كان الثائر يناضل ويصوّر فيبرهن أن أفضل حامل لمحمول حلمه هي الصورة – الوثيقة. يوثقها قبل أن يكتب وصيته الأخيرة. يرسلها إلى الوسيلة الإعلامية أو عبر الانترنت محملا إياه مواقفه دفعة واحدة. وهنا يكمن سؤال السينما الوثائقية وسبل استغلالها لتلك الأمواج من المشاهد المصورة. التي تحاكي أمواج البشر الهادرة. لقد حاول الباحثون في الكتاب أن يسألوا سؤالا مهما : ما هو نصيب كل من الوثيقة التي صوّرت الواقع كما رآه من ساهم في تغييره (الثائر) من ناحية ولمسة المخرج الوثائقي الذي يقرأ الواقع وهو يوثقه من ناحية أخرى.؟؟ لماذا بعض الوثائقيات التي اشتغلت على الثورات العربية كانت عالة على الوثيقة “البكر” ولم تخرج من منطقها “الشعاراتي” وهو منطق حوّل الثورة في الفيلم إلى جرد قائمة من الشهداء ومن الناس ومن الجنود الباطشين. ؟؟ في حين هناك وثائقيات أخرى نظرت لما خلف الوثيقة “البكر” وحافظت على عنفوانها لتؤبّد اللحظة المرتبطة بها عبر الزمن ؟؟ لقد ماتت الوثيقة ليلد الوثائقي.
الفصل الثالث كان عملية نقدية تقييمية لعدد من الأفلام الوثائقية التي خرجت إلى النور بعد الثورة ومنها ما اشتهر وتحصّل على جوائز أو شاركت في مهرجانات. وقد حاولت هذه القراءات أن ترصد مواطن الطرافة والتجديد في بعضها. والأداء العادي لبعضها الآخر. وعموما، قليلة هي الوثائقيات التي نفذت غلى الدرس الوثائقي من الربيع العربي. ولذلك نتساءل هل كان الربيع العربي ربيعا وثائقيا خرج عن القوالب الجاهزة للفيلم الوثائقي؟؟ وهل يمكن أن يكون ؟؟ هل استطاع المخرج الوثائقي العربي أن يبحث فيما وراء شعارات الثورة أم سقط بعضهم في حشو فيلمه بالشعارات مضحيا بالجماليات؟
ويأتي الفصل الرابع ليستشرف المستقبل استكمالا للعمل التقييمي في الفصل السابق وكانت الفكرة الجامعة هي أن اللحظة الثورية العربية يجب أن تعقبها لحظة جمالية وثورة ثقافية وفنية تعيد وظيفة المبدع التاريخية وهي المساهمة في تنمية ذائقة الناس والتبشير بغد أفضل. فتم ربط تطور الوثائقي بتطور الثقافة العربية والمجتمع العربي بأكمله. هو تطور لم تعد مهمة المبدع والمثقف هي تكرار منجزات الشارع وإنما تحويل تلك المنجزات إلى لحظة وعي فارقة في تاريخ الأمة مثلما أن لحظة الثورة كانت فارقة في التاريخ السياسي والاجتماعي. كان السياسي في الثورات العربي يلهث خلف الجماهير لأنه لم يكن قائد الثورة فهل أن الفنان أيضا قدره أن يكون خلف الجمهور؟؟ لقد فتح الربيع العربي للمشتغل بالوثائقي فرصة لا تعوض لأن يصعد في مصاف التقييم الإبداعي مثله مثل بقية المبدعين وبل وفرصته أن يكون في المقدمة.. فهل أن المبدع عموما والوثائقي بشكل خاص سيصل سريعا إلى بوابة الحلم الذي فتحته الثورة أم سيصل متأخرا ويسبقه آخرون منهم السياسي ورجل المال ورجل الدين.. ؟؟
هل سيصل الفنان حيث يجب أن يصل حلم الأجيال… وهل سيزهر الربيع العربي كعادة الربيع في كل الحقول…؟؟


إعلان