القناة البريطانية الرابعة تعود الى الجحيم السوري
بعد ان سبقت كل القنوات التلفزيونية العالمية، وقدمت في العام الماضي فيلما تسجيليا من مدينة حمص السورية، كسّر وقتها الطوق الحديدي الذي تفرضه السلطات الرسمية على عمل الأعلام الأجنبي في سورية، عادت القناة البريطانية الرابعة الى هذا البلد العربي، اذ قدمت مؤخرا فيلما جديداً صادماً عن سورية، صُور بعد ما يزيد عن عام من أحداث العنف المستمرة هناك. الفيلم الذي حمل عنوان “سورية : عبور الخطوط” حَمل توقيع المخرج البريطاني اولاي لامبرت.
هناك اختلاف واضح بين الفيلمين، من جهة الظروف الميدانية ومجال الحرية الذي ساهم في إنجازه، ففيلم حمص التلفزيوني، بدأ مشغولا كثيراً بتقديم صورة سريعة عن المدينة المحاصرة، وبدا أن السبق الإعلامي التلفزيوني هو ما يشغل الذين يقفون خلف الفيلم، وانسحب الشأن الفني في الوثيقة التسجيلية الى الخلفية. لكن وبعد عام من المعارك، تغيرت كثيرا الساحة السورية، وأصبح بالإمكان التنقل والتصوير بحرية ومرونة أكبر، السوريون تغيروا أيضا منذ فيلم حمص، فلم يعد يشغلهم أن يخفوا وجوههم عن كاميرات التلفزة ( إختار أغلب الذين ظهروا في الفيلم الأول أن لا تظهر وجوههم في الفيلم)، فالمعارضة لحكم الرئيس بشار الاسد، أضحت متيقنة إن معركتها مع الحكومة ستقود الى نصر قادم.
يسجل فيلم ” سورية: عبور الخطوط ” الحياة على جانبي خطوط النار في جبهات المعارك الممتدة في أغلب الأرض السورية، هو بهذا يختلف عن الفيلم السابق عن حمص، بإشراكه سورية الرسمية والموالين للرئيس السوري في الوثيقة التسجيلية، في إنجاز كبير ولافت لفريق القناة البريطانية الرابعة، فالانتقال عبر “الجبهات” لم يكن بالتأكيد أمراً يسيراً، خاصة على جهة الحكومة السورية، والتي كانت تمنع او تُحدد بشكل كبير عمل فرق التلفزيونات الأجنبية والعربية.
يُركز الفيلم التسجيلي على شخصيتين تمثلان الجبهتين المتحاربتين هما : “أحمد”، الشرطي الذي ترك الخدمة ليلتحق بالجيش السوري الحرّ، وضابط سوري يقود الوحدة العسكرية على خط التماس. أما المنطقة التي صور فيها الفيلم فهي وادي واسع يقع بين مدينتي أدلب وحلب. يقطع هذا الوادي نهر صغير، تحول مع النزاع العسكري الى فاصل طبيعي بين الجبهتين. صُوِّر الفيلم في وقت ما، من شتاء هذه السنة، ورغم أن هناك إشارات في الفيلم عن حلول أحد الأعياد الإسلامية الكبيرة، إلا أن الفيلم لم يشأ ان يفصح بدقة عن الزمن الذي صُوّر فيه.

يتنقل الفيلم بتوازن بين الجبهتين، فيرافق “أحمد” في نشاطه اليومي كأحد مقاتلي المعارضة السورية المسلحة، والتي أصبحت تسيطر على عديد من القرى السورية. لكن أحمد لا يكتفي بدور حماية قريته الصغيرة، هو يرغب أن ينظم الى تنظيم أكبر، يقوده قائد محلي اسمه جمال، يحظى بشعبية كبيرة ( يقود بحسب أحمد مجموعة مسلحة قوامها 10 الاف جندي)، توفر خطة أحمد ورحلته للوصول الى تنظيم ” جمال” مسارا سرديا للفيلم. أحمد والذي بدا أكبر من سنينه العشرين بسبب اللحية التي صارت تغطي وجهه، لم يتغير كثيرا عما كان عليه قبل الثورة، فالضحكة تتسلل الى وجهه في أحيان كثيرة، كما يبدو أنه لا يطيق هذه الجدية التي تميز حياته الجديدة.
هناك “جدية” أكبر على الجانب الآخر من النهر، في القرى التي يعيش فيها “علويون”. فزيارة الى المدرسة الثانوية هناك تتحول سريعا الى مظاهرة صغيرة مؤيدة للرئيس السوري. الخطاب على هذه الجبهة كان في مجمله خطاباً رسمياً صاخباً، إذ اتجهت الحوارات التي أجراها المخرج مع ناس عاديين في المنطقة الى ترديد عبارات جاهزة عن “المؤامرة” و”الوفاء” للوطن. الحوار مع الضابط السوري الشاب على آخر خطوط التماس للجيش السوري، ستكون أكثر نضجا، فلن تغلبها العبارات الوطنية الجوفاء، إذ يبدو ذلك الضابط متأكدا من شرعية ما يقوم به، وإن وحدته الصغيرة تضم كل أفراد الطيف السوري، وإن اللغة الطائفية التي تغلب الصراع الآن هي غريبة عن قاموسه اللغوي وأخلاقه ومعتقداته.
ورغم أن صور العنف السوري أصبحت شائعة كثيراً على الشاشات التلفزيونية، إلا إن ما يقدمه “سورية: عبور الخطوط ” ربما يُعد سبقاً جديداً في تغطيات الأزمة السورية، من جهة معايشتها لما بعد العنف والصدمة ، أي بعدما تقوم بالعادة أغلب الفرق الإخبارية التلفزيونية بمغادرة المكان. فكاميرا الفيلم البريطاني ستتوجه سريعا الى مواقع سقوط القذائف لتسجل عمليات البحث عن ناجين او انتشال القتلى، والتي ستقدم بتفصيلية مروعة.. مثلا ستلاحق الكاميرا صبيا سوريا يستنجد بأبناء قريته للبحث مجددا عن أهله تحت الأنقاض، اذ انهار بيتهم للتو بفعل قذيفة أطلقها الجيش السوري في حملاته العسكرية ضد معارضيه. كما ستكون الكاميرا على ظهر الشاحنة التي ستنقل جرحى قصف آخر لتسجيل دقات القلب الأخيرة لأحدهم.
يوفر الفيلم مشاهد رائعة للحياة اليومية في سورية اليوم، فتصور أحد جنود الجيش السوري الشباب والنعاس يغلب عينيه، واقفا لوحده على التلة الصغيرة مقابل النهر أو تلك الوحدة السورية الصغيرة وهم يتناولون الشاي في غرفتهم الصغيرة. كما سيرافق المخرج اولاي لامبرت مزارعا سوريا يعود الى أرضه التي تقع على خطوط المعارك، يقتلع المزارع الخمسيني محاصيل حقله الميتة، يتحدث الى نفسه، “كل شيء مات، كل شيء انتهى”، قبل ان يبدأ إطلاق النار عليه من كلا الجانبين.