من اجل الجمهور تُصنع السينما، وتٌقام المهرجانات

رانيا يوسف ـ دبي
السينما، وإن كانت أداة تثقيفية، وترفيهية مهمة تُحدث تأثيراً، وتأثراً في المجتمع إلا انها في النهاية صناعة تخضع لمعايير السوق، والعرض، والطلب، والسينما إن كانت صناعة، أو رسالة في كلّ الاحوال هي موجهه للجمهور بكل قطاعاته، وليست موجهه لصناعها فقط، من أجل الجمهور تصنع الافلام السينمائية، ومن أجل الجمهور، وصناع الافلام تقام مهرجانات السينما، إن نجاح أي مهرجان سينمائي يتوقف علي مدى إرتباط المشاهد به، وهذا ما إستطاع عدد من المهرجانات العربية ترسيخه في السنوات القليلة الماضية، وخصوصاً في المغرب، وفي منطقة الخليج العربي، وهي المنطقة التي عاشت لسنواتٍ محرومة من ممارسة حقها في مشاهدة الافلام السينمائية على الشاشة الكبيرة لعدم وجود دور عرض فيها من ناحية، وبسبب عدم وجود صناعة سينمائية جادة من ناحية أخري، ولكن، مع ثورة التمدن، والإنفتاح على العالم الذي قادها جيل جديد من المستنيرين في هذه البلدان المعزولة سينمائياً فتحوا آفاقاً جديدة للتنمية، وللتواصل مع العالم، وكان الاهتمام بالسينما من اهم الادوات التي تمّ توظيفها في اطلاع العالم على الوضع الجديد الذي اصبحت عليه دول الخليج العربي، والتي بدأت حديثاً في تدشين حضارتها، وادراك الدور التي تلعبه السينما.

الامارات العربية المتحدة تقيم منذ اكثر من عشر سنوات مهرجانات سينمائية اصبح اثنان منها من كبرى المهرجانات في المنطقة، الاول مهرجان دبي الذي اصبح اهم مهرجان دولي بالوطن العربي من حيث التنظيم، واختيار العروض، وغزارتها، وثراء برنامجه، وتنوعه، والأخر مهرجان اقليمي يحتضن تجارب شباب الخليج على مدار عام، ويدعم ما استطاع من هذه التجارب انتاجياً، تجربة اقامة مهرجان اقليمي مثل مهرجان الخليج السينمائي لدول ليس لديها سوي تجارب محدودة في الانتاج السينمائي، يجعلنا نتوقف لنفسر اسباب النجاح، والاقبال الجماهيري الكبير الذي يحققه هذا المهرجان عاماً بعد عام، ونجاح اي مهرجان فني يقاس بمدى اقبال الجمهور عليه، وارتفاع عدد المشاركات في كل دورة يعكس اهم نتائجه، وهي دعم الصناعة، ولو بطريقة معنوية، فالمهرجان اصبح عبر أعوامه الستة وجهه يقصدها الشباب الخليجي الشغوف بصناعة فيلم، حتى اصبح منهم من يصنع فيلمه بشكل خاص ليشارك به في المهرجان، وان كان الانتاج السينمائي في منطقة الخليج لا يوازي نفس النجاح الذي تحققه المهرجانات الا انه يسير على خطى ثابتة وان تأخر عنها بضع خطوات.
وضع الأفلام القصيرة في الوطن العربي خرج عن القاعدة، واصبح معكوس فالسينما التي من المفترض ان تصنع للجمهور أصبحت تصنع للمهرجانات، ومنها تنفذ الى الجمهور، لأنه لا يستطيع ان يشاهدها إلا عبر نافذة سنوية وهي المهرجانات فدور العرض لا تدعم عرض الافلام القصيرة، ولا تتبناها جهات انتاجية محترفة، الا القليل من المنح الانتاجية التي تقدم كجزء من نشاط مهرجانات السينما، والفيلم الطويل وان تفاوت مستواه إلا انه قد ينجح في ايجاد فرصة لعرضه في السينما على عكس الافلام القصيرة، ولكن لكي يستمر انتاج السينما في الخليج كصناعة يجب تدشين كيانات انتاجية ثابتة تدعمها وان كان عن طريق الانتاج المشترك مع دول اخري، والعمل على فتح منافذ اخرى لتوزيع الفيلم الخليجي وترويجه محلياً ثم اقليمياً وعربياً و دولياً، فمعظم الافلام المشاركة في مهرجان الخليج اما انها انتاج مشترك بين احد الدول العربية، والاوروبية ، ام انها افلام انتجت بدعم دولي كامل ومخرجين عرب، ولكن موضوعها يدور في احد دول الخليج مثل فيلم “من تحت لفوق” للمخرج المصري “ياسر هويدي”، وفيلم “رسائل من الكويت” للمخرج الفرنسي من اصل مصري “كريم غوري”، وفيلم “برلين تليجرام” للمخرجة الفرنسية من اصل عراقي “ليلي البياتي”، وتأتي الأفلام الإماراتية والعراقية في مقدمة المشاركات من حيث عدد الأفلام يليها السعودية التي فاجأت الحضور بتطور مستواها الفني وخصوصاً في التمثيل وبساطة الصورة، على عكس ما قدمته بعض الافلام القطرية التي عرضت ضمن برنامج “صنع في قطر” او التي شاركت في مسابقة أفلام الطلبة، بينما استعرضت الافلام المشاركة في برنامج “صنع في قطر” بذخ الانتاج الذي قدم صورة نموذجية للحياة هناك دون ان يقدم مضمون او هدف محدد، حجبت الافلام السعودية بالمقابل هذه الصورة النمطية عن المجتمع الخليجي وجردته من ثرائه لتعرضه في ثوب الانسانية وحدها.
تأخذنا عدد من الافلام التي عرضت ضمن فعاليات الدورة السادسة من مهرجان الخليج السينمائي الى وحدة الموضوع الذي يشغل ذهن الشباب في هذا المجتمع وخصوصاً النساء، وهو وضع المرأة في المجتمعات العربية والمتشدد منها، كان من اكثر التيمات التي تم تداولها بين الافلام المشاركة رغم تنوع اساليب السرد، كان اولهم فيلم الافتتاح السعودي “وجدة” للمخرجة “هيفاء المنصور” والذي حصد جائزة احسن فيلم طويل في مهرجان الخليج الدورة السادسة، حيث قوبل الفيلم بحفاوة كبيرة عند عرضه في مهرجان فينيسيا ودبي والخليج ايضا، ويعكس الصراع القائم بين العادات والتقاليد والموروثات وبين تطلع النساء الي الخروج من عباءة المجتمع الذكوري الذي يقهر انسانيتهم ويقتل انوثتهم بإسم الدين، فالنساء في هذا الفيلم لا تبحث عن المساواة ولا تسعي الي لعب دور القائد الي جانب الرجل، لكنها فقط تحاول فرض وجودها الانساني في المجتمع والتمسك بحقها في الحياة والاختيار، الفيلم يبسط فكرة تحرر المرأة من القوالب الاجتماعية التي تشي بها الى السمع والطاعة والاقصاء حتى وان تعرضت للظلم او الحرمان من حقها في الحياة، من خلال قصة طفلة ترغب في اقتناء دراجة لتسابق جارها الصغير، هذا الحلم الذي يدفعها الى العمل على الفوز في مسابقة لتحفيظ القرآن حتى تحصل على المبلغ اللازم لشراء الدراجة، الا ان المعلمة تحجب عنها الجائزة فور علمها بما تنوي ان تفعله “وجدة” بالمال، وعلى الجانب الاخر يتبدد رفض والدة “وجدة” لاقتناء ابنتها دراجة امام هجران زوجها لها وزواجه من اخرى، فتعطي الام حق الحياة الطبيعية لابنتها وتدفعها الى التمرد على المجتمع العنصري الذي لا تستطيع هي ان تتمرد عليه، وتقوم بشراء الدراجة لها، في محاكاة رمزية الى الامل الذي تحمله الاجيال الجديدة في تغيير نمط الحياة في تلك المجتمعات.
ويأتي الفيلم الروائي القصير “حرمة” ليستكمل ما بدأته “هيفاء” في فيلمها “وجدة” حيث تعرض المخرجة السعودية “عهد” التي تقوم ايضاً بالتمثيل في الفيلم، وضع امرأة توفى زوجها وتركها في بداية حملها،لا تملك المال ولا تستطيع الخروج للعمل، ولا تتلقى سوي التعنيف من اخي زوجها الذي يدفعها دين زوجها له الي ايواء فتي يمني يعمل في تجارة المخدرات لتحصل من خلاله علي المال اللازم لتسديد ديون زوجها، ويعرض الفيلم وجه المجتمع المتناقض الذي يفعل ما يحرمه ولكن في الخفاء، ولا يعطي اي مجال لمناقشة عيوبه قدرما يأتي علي المرأة بالمسئولية والعقاب، حين يكتشف اخو الزوج وجود الفتي داخل منزل زوجة اخيه يساومهما على اخفاء الامر مقابل الحصول على ما يريده من اموال، ويؤكد الفيلم في النهاية ان اي مجتمع متشدد هو مجتمع منقسم علي نفسه، لابد له ان ينفجر مع الوقت.

مخرجة وجدة تفوز بجائزة احسن فيلم

اكثر ما ميز الفيلمان انهما من انضج التجارب السينمائية السعودية التي شاهدتها حتى الآن شكلاً وموضوعاً، بالاضافة الى انهما صنعا علي يد مخرجتان، وهذا في حد ذاته اشارة لكسر كل الحواجز التي تضعها قوانين المجتمع المتشدد أمام تصوير افلام في السعودية، مما يعطي الحماس للمخرجين في مقاومة هذا التيار المتشدد بموهبتهم واصرارهم على انتاج افلام، ومن السعودية ايضا عرض ضمن “برنامج اضواء” الفيلم القصير “نصف دجاجة” وهو يستلهم الكوميديا الساخرة لعرض مشكلة البطالة بين الشباب، وفيلم اخر بعنوان “العهد” يعرض جانب من سيطرة الخرافات والفزاعات على العقول، ومن السعودية ايضاً عرض الفيلم القصير “مجرد صورة” ضمن مسابقة افلام الطلبة، وان كان مخرجه ارجع الفكرة الي توضيح علاقات الصداقة وما تخفيه من احقاد ، يقدم الفيلم قراءة للمجتمع القبلي وارتباطه الذهني بالصحراء من خلال علاقة صديقان يحاول صديقهم الثالث التقاط صورة لهم وهم مدفونين بالرمال، لكنه يتركهم وسط الصحراء ويرحل، بينما ينتظرا ان يأتي عليهم ويخلصهم لكنه لا يأتي ويحاول كل منهم الخلاص من بحر الرمال المدفون داخله، ربط الموضوع بالمكان يدعم خصوصية الفكرة والتي اتسعت عن نطاق علاقة الصداقة لتمتد لتكسر لدي الاذهان صورة الانسان الذي يتخذ من الصحراء موطناً.
المشاركات العراقية هي الاخري كان لها النصيب الاكبر من جوائز هذه الدورة، في مختلف مسابقات المهرجان، وهي التي جاءت موضوعاتها تغلب عليها الذاكرة السوداء لاحتلال العراق والي فترة حكم صدام والي اضطهاد الطوائف المختلفة، فمن خلال الفيلم الروائي الطويل “بيكاس” للمخرج الكردي “كرذان قادر” قدم من خلال طفلان من كردستان نبذ النظام الصدامي لشعب كردستان، وفصلهم المعنوي عن باقي العراق، ومن خلال الفيلم التسجيلي القصير “ابناء النهر” عرض المخرج “عمر فلاح” ايضاً نبذ المجتمع العراقي لطائفة الصابئيين التي تسكن جوار النهر والتي تعتنق منهجاً دينياً معيناً، وفي فيلم “48 ساعة” يقدم المخرج “حيدر جمعة” صورة شاب عراقي يهرب من الموت علي يد المتشددين الي محاولة اللجوء الي المنطقة الخضراء التي يحتلها الامريكان بعد سقوط صدام، ولكنه يفشل في الانتماء الي الجهة الخضراء ويموت في الصحراء، بينما عاني كل شعب العراق من نظام صدام لكنه لم يجد الخلاص بعد سقوط هذا النظام ودخول الاحتلال الامريكي، فالاثنان وجهان لعمله واحدة هي استعباد الانسانية واستباحة دماء الشعوب، وادراجها الي مستوي الحيوانية، هذا ما دعمه فيلم “48 ساعة” في مشهده الأخير، حيث كرس للصورة الحيوانية التي اصابت الانسان العربي بعدما تخلي عنه الوطن، والقي به الي جوف الصحراء مشرداً يبحث عن حياة فما وجد الا ان يموت علي سطح الارض وتبرز عظامه مواجهه للشمس مثل الحيوانات.
الأفلام الاماراتية المشاركة في كل اقسام المهرجان لها حظ اوفر من حيث العدد، لكنها قدمت افكار بسيطة ومختزلة مثل قصص الحب او مشاكل البطالة ولكن في اطار فني مبالغ فيه لا يتناسب وبساطة الطرح، ومنها أفلام عمدت الي اقحام الموسيقي التصويرية والتي كانت معظمها موسيقي غربية لا تناسب الفكرة، وصاحبت الفيلم منذ البداية وحتي النهاية خصوصاً في الافلام التسجيلية.
والملفت للنظر هو اعتماد معظم المخرجين علي انفسهم في كل مراحل صنع الفيلم، منذ بداية كتابة السيناريو وحتي التصوير والتمثيل والاخراج، قد نرجع هذا في بعض الاحيان الي ضغط ميزانية الانتاج ولكن تختلف الاسباب في دول الخليج عنها في مصر، حيث اوضحت لي مخرجة من اليمن انها اضطرت الي كتابة سيناريو فيلمها القصير بنفسها لعدم وجود كتاب سيناريو في اليمن، واوضحت انها الاجدر بتوصيل فكرتها الي المشاهد عن الاستعانة بكاتب سيناريو، السبب نفسه اشارت اليه المخرجة السعودية “هيفاء المنصور”، وهو قيامها بكتابة فكرة فيلمها الروائي “وجدة” بنفسها ايضا لعدم وجود كتاب سيناريو في السعودية، واضافت الي ان معظم الكتاب القلائل يفضلون الكتابة الدرامية عن الكتابة السينمائية.
إن تجربة مهرجان الخليج السينمائي وصعوده عاماً بعد عام والدور الذي يلعبه في دعم صناعة السينما في دول الخليج والعراق واليمن ، يجعلنا نقف لنراجع انفسنا، كيف تصنع المهرجانات السينمائية ولمن توجه وكيف تدار ولماذا تنجح، التنظيم الدقيق الذي يميز هذا المهرجان من اهم اسباب تقدمه ونجاحه علي مدار ست سنوات، بالاضافة الي استقطابه قطاع كبير من الجمهور وتنوع برامجه وتحديثها وفتح ملتقى للتعليم وللتبادل الثقافي بين الشباب من كل جنسيات العالم.


إعلان