“البسطار”:فن التعامل مع “طرائد” الموثقين
درويش درويش
بعد صوت المارش العسكري مرافقاً عنوان الفيلم المكتوب؛ يبدأ “المخرج” “فيلمه” القصير بالعسكر، أرتالاً وأنساقاً من الجنود المنظمين و”النظاميين” مع موسيقى؛ ولكن من نوع مختلف، هي ما اعتاد السوريون سماعه لسنوات بكثرة في الكراجات والمحال التجارية والأسواق، حتى –أخيراً-في الإذاعات والقنوات الإعلامية الرسمية، ما أصبح يدعى بالغناء “الشعبي” وهذه الصفة ليست دقيقة إلا بمقدار دقة بقية الصفات الأخرى المسبغة على المجتمع السوري في ظل حكم النظام عينه.
من اللقطة الأولى يبدأ المخرج “باللعب”، بأن يحرك الجنود قسراً بلعبة “تقنية” على إيقاع أغنية “شعبية”، تلك التي انتشرت مثيلاتها في الأرياف ولكن ليس لأنها ريفية أيضاً، بل لأن هؤلاء، من يرقصون عليها على يد المخرج، لطالما اعتبروها فنهم “العصري” المعبر، عن هويتهم “المحدثة” بتزاوجهم مع “السلطة” أو بامتلاكهم “وهم السلطة”.

لا يبدأ فيلم “البسطار” بالثورة، بل بالعسكر. ولا بالمظاهرات السلمية ومنطلق الاحتجاجات من مكان ما في سورية ولا بالناس و”فرادة” تجمعهم الأسطوري. قد تظن أنه قلَبَ الحكاية، لم يبدأها كما كل “الحكايات” عن الثورة. لكنك سرعان ما ستدرك أنه أيضاً: لا يبدأ الحكاية من نهايتها.
هو لا يتورط أو يورطنا برغبة إثبات أمرٍ ما أو التوجيه لهدفٍ ما، ولا بجدال عن الثورة ومفاهيمها وحقائقها أو الشكوك حولها، سلميتها، إرهابيون أو متظاهرون، بل إن كل ذلك لا يعنيه، نقصد هنا الجدل بصورته التقليدية ما جرنا إليه نقيض الفن، السياسي، واليومي. بل إن المخرج، وهوغالباً المونتير، وبكثافة اللقطات وسرعتها وزخمها، مترافقة مع الموسيقى والغناء “الساخرَين” ومعالجة اللقطات، المأخوذة كلها مما نشر على شبكة الإنترنيت، بتقنيات المونتاج، إنما يبدأ من “فوق” تماماً. ربما من قبل بداية الثورة بزمن طويل، أو في بدايتها، أو ربما الآن. العسكر وحركاتهم المنظمة وآلة الحرب الجاهزة و”المتطورة”. بدأه من فوق وهذه “الفوق” كانت أيضاً الطائرات الحربية التي تحلق عالياً فوق سورية الوادعة وأهلها، كالقضاء. كان هذا عهدها دائماً (الطائرات) كما الجنود المستعرضين مهاراتهم. هي الحالة السابقة والسائدة والثابتة التي لم يعيَّن زمنها هنا، ثم تبدأ هذه الآلة “الهائلة” بالهجوم. على ما كانت مستعدة لمواجهته.
يجنبنا “البسطار” كل النقاش حول الثورة: ضرورتها. حقيقتها. أسبابها. حيثياتها. بل يضعنا في صميم جوهرها بأن يواجهنا باللقطات الحقيقية الفاضحة بقدر ما هي صادمة ومؤثرة. آلة عسكرية متكاملة تقصف مدن بلدها. أحياءها السكنية. أي جدال بعد ذلك، كم يختصر ويختزل ويشرح هذا “المشهد” كل الحكاية ويكشف عن بداهتها الفاجعة! لكنه هذه اللقطات لاتُعرَض كما هي دون معالجة. ربما لأن عرضها كما هي أصبح أمراً مألوفاً بالنسبة إلى عين المعتاد عليها، بل يقدمها هنا بشكل “غريب” يجردها من “عاديتها” ويلصق بها سخرية “غروتسكية” تعيد تذكيرنا و”تحسيسنا” بغرابة هذا الهول ولا معقوليته، ويطرح رأي المخرج به في آن.
ثم سرعان ما ينقلنا إلى المواجهة العسكرية كما “صورها” أولاً بمضادات الطيران. تلك الطائرات التي كانت قبل قليل تلقي الهول على المدن بسكانها، يبدو أنه بالإمكان إسقاطها كالذباب. ثم تفجير الدبابات والمدرعات والقصف المضاد، والدمار ينتشر ويزيد. هي إذاً اللعبة التي يدرك قواعدها ومنتهاها مسبقاً كل من الشعب والنظام.

نجد في تلك العشوائية المنظمة المتبعة في بناء الفيلم، وكثافة وتتابع اللقطات الكثيرة والمتنوعة، ما يذكرنا بمسار وشكل الثورة السورية عينها، أي “موضوع” الفيلم: كثافة وكثرة الأحداث، الفترة الطويلة التي استغرقتها الثورة حتى الآن متجسدةً هنا “بتسريع” اللقطات بالإضافة إلى كثافتها في مدة الفيلم القصيرة التي لا تتجاوز سبع دقائق، تعدد الأطراف المؤثرة في مسار الثورة، وتغيير طابعها، أو الدفع بهذا الاتجاه، الفوضى المترتبة على ذلك، شاهدنا قرب نهاية الفيلم صوراً متتابعة لشخصيات كثيرة منها رئيس النظام، وصوراً أخرى “لرموز” الثورة و”سياسييها”، وصوراً لسياسيين دوليين.
يختصر –ربما- هذا النوع من الرصد “التسجيلي” صفحات كثيرة من الجدال السياسي والتنظيري حول حقيقة خيار التسلح مثلاً، دون أن يتبناه أو يرفضه صراحةً. تبدو الثورة هنا، من منظور صانع الفيلم، ثورة على العسكرة أساساً. هي الثورة في حالاتها القصوى وبحقيقتها الأعمق. أزيلت هنا كل الأغطية. الدبلوماسية والأيديولوجية. التي تغلف أي نقاش عقلي صريح. نحن ببساطة أمام الحقيقة العارية تماماً. زبدة حقيقة المواجهة. “من الآخر” كان هناك جيش و”عسكرة” قاتلة وخانقة ومتربصة للحظة الانقضاض . في البداية كان عسكر النظام “يرقصون” ثم رأينا عناصر من الجيش الحر يرقصون بلباسهم الشعبي الحقيقي هذه المرة في مناخ غمامة من الفوضى وعدم التعيين.
والشعب؟، إذا افترضنا أن الثوار المقاتلين ليسوا منه، نعم سيُرصد أخيراً وقد أصبحت الموسيقا خليطاً عجيباً، مؤسياً ومضحكاً في آن، لكن ليس –أيضاً- كبداية مؤجلة، بل بدا ظهور الناس في طوابير الخبز والمحروقات كشريط من البشر لا ينتهي، وصراخ الأم الثكلى؛ أشبه بحالة الثبات المناظرة لما رأيناه في بداية الفيلم ومعادلاً موضوعياً له أيضاً. ليكون المتن الأساسي للفيلم بين هذين القطبين. كتلة الصراع الرئيسية بكل زخمها بينهما.
“البسطار” من إنتاج مجموعة واو اوصل، عينة سينمائية جديدة من إبداع جديد بدأت أشكاله بالتبلور، من نتاج مدغوم بالثورة والتغيير، يبرهن على ذلك –فقط- عبر حرية وجرأة التعاطي، مع الشكل الفني ومضمونه معاً.