“المُحتال”: قصة الجزائري الذي خدع الأمريكيين
أمستردام – محمد موسى
الحَوادث الحقيقية التي يعود إليها الفيلم التسجيلي “المُحتال” غريبة وصادمة لدرجة كبيرة، بل إنه سيكون من الصعب بمكان تصديق كثير من تفاصيل الحكاية التي يقدمها العمل التسجيلي لو إنها جاءت ضمن سياق قصة مُتخيلة في فيلم روائي، حتى يبدو إن التفصيل الدقيق في سَرد الوقائع التي يرويها شُخوص الحكاية الحقيقيين في الفيلم التسجيلي، وكأنها تؤدي أحيانا مهمة تذكيرنا بأن ما نراه قد وقع فعلاً. القصة عن الصبي الأمريكي نيكولاس الذي إختفى في مدينته الصغيرة في ولاية تكساس الأمريكية في بداية عقد التسعينات من القرن الماضي. بعد ثلاث سنوات من إختفاء نيكولاس، والذي لم يتجاوز وقتها الثالثة عشر، ظَهر في أسبانيا شاب في بداية العشرينات من العمر، إدعى بأنه ذلك الصبي المفقود، وإنه إختطف من أمريكيا ليُرغم على العمل في تجارة الجنس في اوربا، وإنه نجح أخيراً في الهرب من خاطفيه، ويوّد الآن العودة لعائلته وبلده.
القصة ستكون عادية، لو لم يكن الشاب الذي إدعى إنه الطفل الأمريكي المفقود، هو بالحقيقة: فريديك بوردين، المولود في فرنسا من زواج مختلط لمهاجر جزائري وإمراة فرنسية، وإنه لا يحمل أبداً ملامح الطفل الأمريكي المفقود، ويتكلم الإنكليزية بلهجة فرنسية ثقيلة. رغم هذه الإختلافات الواضحة، تَصطحب إخت الفتى الأمريكي، والتي حضرت للقاء “آخيها” في أسبانيا، العربي الشاب الى أمريكيا، حتى إن سفارة بلدها في أسبانيا، توافق على تقديم كل المساعدات اللآزمة، بما فيها إصدار جواز سفر خاص له، حتى يُمكنه من السفر الى الولايات المتحدة الأمريكية.

غرابة القصة لا تتوقف عند هذا الحد، فإدعاء الشاب العربي سينطلي على إم الفتى الأمريكي، وعائلته وأصدقائه، وإنه سينام في غرفة نيكولاس، ويتابع الدراسة من النقطة التي توقف عندها نيكولاس، وبدا إنه سيعيش حياته بأكملها متقمصا دور المراهق الأمريكي، قبل أن تبدأ الشكوك تراود الأعلام الأمريكي، والتي ستدفع الشرطة الأمريكية للتدخل، وقادت بالنهاية الى إجراء إختبار الحامض النووي، الذي كشف إن الشاب الجزائري الأصل لا يمت بصله لعائلة نيكولاس الأمريكية، وهو الأمر الذي أدى الى سجن فريديك بوردين عدة أعوام في الولايات المتحدة الأمريكية، وترحيله بعد قضاء فترة السجن لفرنسا، التي يَعيش فيها حالياً.
يَتمكن الفيلم التسجيلي الذي أخرجه البريطاني الشاب بارت لايتون، من الحصول على شهادات أبطال الحكاية، يتصدرهم فريديك بوردين نفسه، وعائلة نيكولاس الأمريكية ( إمه وأخته وبعض معارف العائلة). كما إنه سيعيد تمثيل وقائع الحكاية، من وصول فريديك لمركز إيواء الشباب المُشردين في أسبانيا، والى القبض عليه من قبل الشرطة الأمريكية في الولايات المتحدة الأمريكية. شهادات شخوص القصة ستكون في مجملها هادئة ومُفصلة، فسنوات طويلة صارت تفصلهم عن أحداثها، ويمكنهم الآن التحدث بدون الغضب والعاطفية التي سادت على تصرفاتهم وقتها.
تُعيّن الشهادات التي قدمها الفيلم على تفسير بعضا من أحداث الحكاية الصعبة التصديق، وبالخصوص تلك التي قدمها فريديك بوردين، وكيف إنه كان يتوقع أن ينكشف أمره بعد أول لقاء مع عائلة نيكولاس. لكن بعضا من المصادفات الغريبة، جعلته يستمر في لعب دور الأمريكي، كما إن العائلة الأمريكية إدعت في شهادتها بأن أكاذيب فريديك بوردين إنطلت عليهم، بما فيها إن العصابة التي أختطفته أجبرته على عدم التحدث بالأنكليزية، وهو السبب الذي جعله ينسى لغته ليتكلم بعدها بهذه اللكنة الثقيلة، كما إن العصابة ذاتها قامت بتغيير لون عينيه، وهكذا تقبلت العائلة “صَمت” و”إنعزال” إبنهم، وأعتبروه بأنه يَعود لما لاقاه من أهوال في سنوات إختطافه. موقف العائلة هذا سيهتز كثيرا للمشاهد، بعد أن يمر الفيلم على الإتهامات التي وجِهت للعائلة وقتها، ومازالت تَحوم فوق رؤوسهم لليوم، والتي تَقترح بأن العائلة ربما تَكون “تتستر” على قتل إبنها الآخر (مات قبل سنوات قليلة بسبب جرعة مخدرات زائدة) لأخيه نيكولاس، وإنها أكتشفت منذ البداية إن الجزائري الشاب كان ينتحل شخصية إبنهم، لكنها شَجعته حتى تَخفت تماماً الإشاعات التي تَخص تورطهم في مقتل ” نيكولاس “، بسبب المشاكل التي كان يثيرها مع العائلة، القادمة من طبقة إجتماعية بيضاء فقيرة غائصة بالمتاعب.

شهادة فريديك بوردين ستَحتل على الإهتمام الأكبر في الفيلم. لن يتذاكى الجزائري الذي وصل الى الأربعينات من العمر عندما يسرد قصته مع ” نيكولاس ” ( والذي شاهد إسمه بالصدفة في مُلصق عن إختفائه كان مُعلق في مأوى للمشردين من الشباب في أسبانيا)، ولن يَسخر من العائلة الأمريكية او ممن صدقوه هناك. هناك في المقابل قصة عائلية خاصة له، سنتعرف على جزء منها في الفيلم، فجده الفرنسي العنصري (حسب وصفه) أمعن في إهانته في طفولته وكان يلقبه ب”العربي القذر”، هذا مع غِيّاب الأب المُستمر. هو لم يعرف الحب أبدا، لذلك سيتيه باحثاً عن “حياة” آخرى طوال حياته، الأمر الذي سيقوده الى فعل الأحتيال الذي يقترب من الجنون، فهو سَيدعي إنه الأبن المختفي لعشرات العوائل، وسيُسجن في عدة دول. تكشف الشهادة الطويلة لفريديك بوردين الذكاء والجنون في الآن نفسه للرجل، الذي بدأ ضائعاً لكن خطراً، هو يشرح بلغة الانسان المثقف الرحلة التي قطعها في أمريكا، لكن الفيلم يُوفر مشاهد إرشيفية قاتمة له، تقترح وضعه النفسي المُتردي حينها، كالمشهد المرعب له وهو يرقص في السجن الأمريكي على موسيقى إحدى إغنيات مايكل جاسكون الشهيرة.
الفيلم يَجمع بين المقابلات، المواد الأرشيفية القليلة من زمن الأحداث الفعلية للقصة، ومشاهد أعيد تمثيلها من مسّار الحكاية الفعلي. والأخيرة، وعلى خلاف الحضور لمثيلاتها في أفلام تسجيلية عديدة، بَدّت أكثر إنسجاما مع النفّس التوثيقي للقصة، وليست ناشزة عنها، ربما بسبب التنفيذ المعتم لها، والذي إقترب من الأجواء الكابوسية، وخِلوها من الحوارات، هي إستعادت بعض مفاصل الحكاية الأساسية، كاللقاء الأول لإخت نيكولاس مع فريديك بوردين او إنتظار الأخير في غرف البوليس في أسبانيا وتكساس. كما إن الفيلم لا يُطلق الأحكام او يوجه الإتهامات بشأن الغياب المستمر لليوم لنيكولاس، وينتهي لنفس الخلاصات التي وصلت اليها الشرطة الأمريكية، بأنها لا تعرف حتى الآن ماذا حّل بالمراهق الأمريكي.
رغم إن الفيلم لم يكن من الأفلام المرشحة لجائزة الأوسكار الأخيرة لأفضل فيلم تسجيلي، إلا إن الاهتمام الذي ناله في عروضه العالمية ( مازال يعرض بنجاح في صالات سينمائية مختارة في هولندا وبضعة دول اوربية)، تعدى معظم الأفلام التسجيلية التي عرضت العام الماضي. كما كانت حصته من العروض والجوائز في المهرجانات السينمائية كبيرة، إذ عُرض في مهرجان صنداس السينمائي الأمريكي، وفاز مُخرجه بارت لايتون بجائزة “البافتا” البريطانية المرموقة، في فئة أفضل مخرج بريطاني واعّد.