“الحدود الأخرى ” : يوميات الهجرة السرية للمجهول
طاهر علوان
لعل عالم الهجرة السرية او مايسمى الهجرة غير الشرعية كان ومايزال موضوعا اشكاليا في اية عندما يسلط الضوء عليه في اية بقعة من بقاع الأرض ، والمعضلة دائما هي واحدة ، معضلة الأنسان الباحث عن ” ملاذ آمن ” عن بديل انساني يحقق له جانبا من جوانب الحياة الأنسانية السوية ، وحيث انسان هذا العصر المهدد على الدوام بالعنف والفقر والأستبداد والجريمة ، انسان تطوقه الأنظمة الساسية الفاسدة التي تدفع الأنسان دفعا الى النزوح والأنقطاع عن الجذور وعن الوطن الأم .
ولعل هذه خلاصة مشتركة يلتقي بها مئات الوف المهاجرين من حول العالم لاسيما اذا علمنا ان المعدل العام السنوي للهجرة قبل عشر سنوات من الآن كان في حدود 150 مليون انسان ليصل اليوم الى قرابة 240 مليون بحسب احصاءات منظمة الهجرة العالمية التي تقول باختصار شديد ان واحدا من كل 33 شخصا في العالم هو مهاجر ولنا ان نتخيل العدد الضخم للمهاجرين من حول العالم .لكن السؤال هو كيف تجري وقائع حياة وماذا عن التحديات التي تواجه هؤلاء المهاجرين المنخرطين في مجال الهجرة السرية معرضين انفسهم الى انوع لاحصر لها من المخاطر الجسام .
عينة محددة لهذا الواقع التراجيدي يمكن تلمسه في كثير من البقاع لكن مدينة ونهرا يقعان بالقرب من الحدود المكسكية المتاخمة لغواتيمالا يمنحاننا صورة مجمسة لعالم الهجرة بتداعياته ومشكلاته وتفاصيلة السرية والمخبئة ، هنا على تلك الأرض ثمة حياة اخرى منسية لمئات الوف البشر الذين يستللون ليلا ونهارا عبر منافذ وممرات سرية خطرة لبلوغ احلامهم وهو مايناقشه الفيلم الوثائقي ( المكسيك – الحدود الأخرى ) للمخرجة لاورا ولدنبيرج – فرنجز .
هذه هي مدينة ( تيكونومان ) وهذا هو نهر ( سوشيات ) وكلاهما يفصلان بين غواتيملا عن حدود المكسيك ، نهر يقطعه مئات من سكان هذه البلاد للعبور الى الضفة الأخرى حيث الأراضي المكسيكية وهي الخطوة الأولى للعبور الى العالم الآخر ، اربعة نقاط عبور رسمية على النهر يمكن لمن يمتلك اوراقا رسمية ان يتخذها معبرا آمنا في مقابل اكثر من 300 معبر يمر عبر ادغال وسهوب ومرتفعات هي منافذ الهجرة السرية التي يتخذها اولئك المهاجرون الذين لايتدفقون من غواتيمالا فحسب بل من سائر بلدان امريكا الوسطى مثل ( السلفادور والهوندوراس ونيكاراغوا ) حتى بلغ عدد من تسللوا عبر هذه المنفذ الى قرابة نصف مليون شخص بين الأعوام 2005 و 2009 وبما معدله 100 الف شخص سنويا .
يتابع الفيلم الحياة الواقعية اليومية لأولئك المشردين والفقراء فضلا عن الشباب الطموح وهم يغذون الخطى لأجتياز مدينة جياباس ، آخر نقاط الحدود ومن هناك يبدأ الخوف والترقب.
تلاحق عدسة المصور يوميات هؤلاء العابرين على جناح الخوف ويلتقي رجال شرطة ومنفذي قانون على طرفي الحدود بين العالمين .
ولعل التراجيديا المريرة التي يكشفها الفيلم هي في وقوع اولئك الحالمين بالجنة الموعودة في براثن قطاع الطرق والمهربين وسماسرة الأتجار بالبشر ومحترفي الدعارة المنظمة والأتجار بالمخدرات وهم الذيم يكونون بانتظار هؤلاء المهاجرين السريين بمجرد وصولهم الأراضي المكسيكية .
في وسط هذا الجو المخيف تطل مايعرف بمدينة التضامن وهي مدينة حدودية صغيرة داخل الأراضي المكسيكية واول مدينة بعد الحدود ، هناك تتجسم مايشبه ( محمية طبيعية لكل شيء) ، هنالك المطاعم والبارات والنوادي الليلية والغرف الفندقية البائسة رخيصة الثمن وهناك ايضا تجري فصول ابتزاز اولئك المهجرين بطريقة مزرية ، اخذ اوراقهم بحجة ايجاد عمل لهم او لأية حجة اخرى ثم ابتزازهم فأما ان يدفعوا مايطلب منهم وخاصة من النساء او اجبارهن على ممارسة الدعارة وهو ماتتعرض له اغلب النساء العابرات للحدود واللائي كل هدفهن اللحاق بعائلاتهن في الولايات المتحدة او البحث عن حياة افضل لأطفالهن وحيث سواد كبير منهن يكن مصحوبات بهم وهناك يقعن في مصيدة الأتجار بالبشر والدعارة .
يناقش الفيلم من زوايا متعددة حدود الظاهرة فيلتقي بنساء وجدن انفسهن وسط هذه المحنة وكذلك برجال تحري وقانون ومع اصحاب مقاهي ومطاعم وعلب ليل ويعرض كيف تعيش تلك الكائنات التي وجدت نفسها في هذا المأزق .
ولعل الأوجه الأخرى للمأساة تتمثل في تداخل عناصر كثيرة في محنة هؤلاء المهاجرين السريين ، اجهزة الهجرة المكسكية تطاردهم في السهول والغابات والمناطق الجبلية وفي نفس الوقت وهم يهربون من رجال الشرطة فأنهم يقعون في قبضة عصابات الجريمة المنظمة التي تقوم باختطاف الكثيرين لغرض ابتزازهم واخذ اموالهم او زج النساء الشابات في اعمال الدعارة او اجبارهم للأنخراط في الأتجار بالمخدرات .
ليل مدينة ” هويكستلا” المكسكية مثل نهارها ، هي مدينة تعيش على ايقاع حياة الغرباء القادمين من امريكا الوسطى رجالا ونساء ورحلتهم الشاقة تتدرج قدما لتبلغ نهاياتها .. نهايات هم يحلمون بها وتتدفق من خلالها المعالجة الفيلمية على اكثر من مستوى :
– الأفادات الفردية للمهاجرين السريين وهم يروون قصة احلامهم وطموحاتهم وبحثهم عن حياة بديلة خاصة في الولايات المتحدة بعدما يقطعون الأراضي المسكسة بطولها لبلوغ الأرض الموعودة ، هذا اذا بلغوها .
– يوميات العيش في مدن الهجرة السرية على التتابع : ” ” تيكونومان ” – ” هويكستلا ” – ” تابجولا ” – ” ارياجا ” حيث المكابدات هي نفسها تفصح عن نفسها من خلال يوميات الهجرة السرية ومشاعر الأحباط والرهبة التي تنتاب هؤلاء المهاجرين والمهاجرات خوفا من اعادتهم عنوة الى بلدانهم .
– المعايشة الواقعية التي زخر بها الفيلم لدورة الحياة البشرية التي تدب عبر النهر الفاصبل بين غواتيمالا والمكسيك وصولا الى معايشة يوميات النساء المهمشات المنسيات ، ضحايا الهجرة غير الشرعية وعصابات الجريمة المنظمة .
– التفاصيل اليومية التي قدمها رجال تطبيق القانون والهجرة وهم يكشفون بوضوح كيف يتحول الطموح بأرض بديلة وبلاد اخرى الى مصيدة للطموح ، مصيدة لهؤلاء المهاجرين .
على ان ماهو افدح من كل ذلك هو مابعد دخول الأراضي المكسيكية عندما يكون قطار الشحن والبضائع هو الوسيلة المعتادة لهؤلاء المهاجرين السريين الذي يتسللون اليه ويتدفقون بالمئات الى سطوحه وزواياه لقطع مئات الكيلومترات داخل الأراضي المكسيكية في فصل جديد من فصول العناء والشقاء الذي يتابعه الفيلم بدقة مصاحبا اولئك المهاجرين في رحلتهم المتواصلة .
وخلال وبعد هذه الرحلة سيكون سعيد الحظ من سينجو من فخاخ عصابات الجريمة المنظمة التي تكون بانتظارهم اما لأختطافهم وابتزازهم او تسخيرهم لتجارة المخدرات او استغلال النساء جنسيا…. عرض مأساوي حقا ومنسي في عوالم مجهولة وبعيدة تماما عنا ولكنها تكشف عن واقع مشترك لعذابات ومكابدات من تركوا ديارهم في اطار الهجرة السرية باحثين عن امل وعن حياة اخرى ولكن الأماني شيء وعذابات الرحلة ومخاطرها الجسام شيء آخر.