قوة الوثائقي في اكتشاف المختلف

ليلى عساف تعود الى “جزيرة النساء” بعد ربع قرن

قيس قاسم

البحث عن الظواهر الطبيعية والاجتماعية المختلفة وتسجيلها سمة من سمات الفيلم الوثائقي، بوصفه فناً بصرياً استكشافياً تجاوز بسرعة مدهشة اشكالية العلاقة بين المحلي والعالمي منذ ظهوره، بفضل إعتماده تقنيات جديدة لم يعرفها العالم من قبل، تجاوز بها جدلاً نظرياً لطالما غرقت فيه أكاديميات تدريس الأدب والفنون الجميلة وفيلم المخرج الكندي الطليعي روبرت فلاهرتي “نانوك رجل الشمال” عام 1915 مثالاً على الخروج من الحارة الضيقة الى العالم الأوسع، الخارجي، المجهول ما أعطى لهذا النوع عناصر الاكتشاف والمعرفة الى جانب جماليات السرد السينمائي الآخرى.

ظل الحال هكذا قرابة قرن سينمائي كامل وظلت الريادة لمراكز انتاجه الأوربية والأمريكية مع إحتفاظ كل منهما برؤيته الثقافية ما شكل على الدوام مدرستين فكريتين تختلف وسائل تعبيرهما الى حد كبير وتتقلص في مناطق محددة من مجرى النهر السينمائي على وجه التخصص، وباتساع انتاج الفن السينمائي ذاته لم يعد هذا التحديد مطلقاً فقد دخلت على الخط سينمات أمريكية لاتينية، أفريقية، أسيوية، عربية وغيرها وساهمت في البحث عن العوالم المجهولة والمثيرة للأسئلة والتي لها صلة مباشرة بالإنسان وطريقة عيشه أضفت بها ألواناً بهية على الصورة السينمائية التسجيلية واكتشافاتها الجميلة وفي هذا السياق يأتي حديثنا عن المخرجة اللبنانية المقيمة في السويد ليلى عساف وفيلمها الوثائقي الجديد “جزيرة النساء” التي ذهبت من أجله وقبل حوالي ربع قرن الى مجاهل جزر غينيا بيساو الأفريقية لتوثق ظاهرة اجتماعية نادرة خارجة عن سياق مراحل التطور التاريخي الاجتماعي المتعارف عليها أكاديمياً متمثلة بوجود حقيقي لمجتمات تقودها النساء ولهن الصدارة في اتخاذ القرارات الحاسمة في حياة سكانها. عادت ثانية اليها لترصد هذة المرة التغيرات الداخلية التي جرت على تلك التجمعات ومقدار تأثرها المباشر بالتطورات التي يشهدها العالم! .

الذهاب الى “جزيرة النساء” مرتين
تضيف ليلى عساف الى فيلمها الجديد/ التكميلي لقطات سجلتها بكاميرتها عام 1984 لسكان قرية أندينا التابعة لغينيا بيساو غرب أفريقيا وتظهر فيها ملامح تشكل تام لمجتمع “أمومي” يشبه الى حد بعيد تلك المجتمعات التي وصفها أنجلس وبعض علماء تاريخ المجتمعات البشرية لمرحلة ما قبل الهيمنة الذكورية، والتي كثيراً ما توصف بالقصيرة والسريعة الانقراض إلا أن وجود مثيلاً لها في وقتنا وفي جزر معزولة بالقرب من سواحل أفريقيا يؤكدها وربما يمثل استمرارية لها تضمنه فيلم “جزر النساء” دون ادعاء صريح بذلك فهو لم يسع لبحث تاريخي انثروبولجي قدر محاولة رصد ما هو موجود خارج سياق المألوف البشري المعاصر، واكتفت مخرجته بالقول  أثناء سرد تجربتها الوثائقية الأولى بإنها عادت بفيلم يحكي شيء مختلف، حكاية غريبة، عن مجتمع تقوده نساء، المرأة مكانتها فيه أكبر من الرجل وهي التي تختار بنفسها من الرجال من تريده زوجاً لها ولها الحق في طلاقه، فهي عندهم الأكثر حكمة وقدراتها “السحرية” مخيفة يهابها الرجال جميعاً. صورة مجتمعات منطقة كانياباك الأفريقية “النسوية” لم تتغير من حيث الجوهر فالسيادة للمرأة مازالت حاضرة بقوة حضور اسطورة نساء “فانادو” في عقول رجالها الشديدي الايمان بقدرة النساء على التحكم في مصائرهم ووضع حد لحياتهم متى أردن لإختلاف طريقة تفكيرهن في الأساس عن طريقة تفكيرهم ولقوة مفعول كلماتهن على الأرض فحين تقول أحداهن للمرء: مت! فأنه سيموت في الحال.

لعبة المراوغة الأزلية يعرفها الطرفان جيداً لكن الفرق ان المتفوق فيها هنا هي المرأة على عكس ما هو سائد في العالم حيث الرجال هم من يقود ويحرك خيوط اللعبة الثنائية الأزلية والتي تحكمها عناصر التفوق الاقتصادي بالدرجة الأولى ونساء “فانادو” يعرفن هذا جيداً ويتمسكن به ويعبرن عنه في رقصة خاصة بهن لا يحضرها أحد غيرهن يمارسنها بسرية بين أحراش الغابات الكثيفة ولا يعرف الرجال شيئاً عن أسرارها ولهذا يخافون ما ينبثق بعدها من قرارات قد تحسم أمر وجودهم بالكامل، وبدورهن يحافظن النساء على سريتها فمكانتهن مرتبطة بمقدار السيطرة على عقول الرجال واخافتهم بأسرار الفوارق الكبيرة بين الجنسين “ما موجود سري في الرأس يظل سراً ولا يُكشف للناس أبدا” سر طوطمي طالما ظل ولملايين السنين حكراً على الرجال السحرة إلا في هذة الجزر العجيبة حيث الكاهنات من النساء، وأسرارهن الطوطمية حكراً على بنات جنسهن فقط، وابقاء مفاتيح مخازن حفظ الغذاء وغلات الزرع بأيديهن ركن أساس  من أركان الحفاظ على سلطتهن التي لا يتنازلن عنها أبداً.

العالم يتغير
إذا كانت قوة الموروث هي من يحافظ على سلاسة تداول الحكم في “جزر النساء” فأن قوة ما يحدث حولها له في ذات الوقت تأثيرات كبيرة على نمط العيش فيها. فالجزر ذاتها لم تعد كما كانت بحكم الزمن الذي ترك آثاره على جميع من عرفتهم عساف قبل ربع قرن، فأغلبيتهم طوى الموت ذكرهم، وان العولمة  القادمة من خلف البحر قد وصلت الى أراضيهم وغاباتهم وغيرت كثيراً من أشكالها ومعانيها ف”الحضارة” كالعادة وفي كل مكان لعبت لعبتها القوية داخلها، فتوزع آبناؤها بحثاً عن مصادر للعيش غير التي اعتمد أهلهم عليها من قبل وبالتالي ضعفت السلطة المركزية تدريجياً بضعف تماسك رعيتها وهم قلة في الأصل. مَن بحثت عنهم عساف لم تجدهم، نيابة عنهم حضر ممثولون عن الأجيال الجديدة، شباب مختلف كثيراً عن أسلافه وبالذات بمقدار الحزن الشديد الذي يسكن أعماقه. فالجيل الأول كان فطرياً عفوياً يتعايش في تناغم مع محيطة أما هؤلاء فموزعون بين تيارات جديدة وآخرى قديمة يحنون اليها في صمت انفضح حين شاهدوا، وهم في أمكنة بعيدة عن موطنهم الأصلي، أشرطة الفيديو القديمة التي صورتها المخرجة أثناء زياراتها الأولى وكانوا أغلبيتهم وقتها صغاراً فيها. اعادت تلك الأشرطة لهم ذكريات الماضي فبكى الكثيرون منهم عليها حزناً، ولهذا اتسمت العودة الثانية الى الجزر بالآسى والحزن العميقين  على عالم بريء تغير نحو عالم مادي مخيف لا يخفف من قسوته سوى الحفاظ على ما تبقى من ماضي قريب رصده الفيلم الجديد عبر تفاصيل حياة عائلة قيد التكوين عمادها امرأة قوية ورجل خططا للبقاء والعيش على ذات الأرض. وإذا كانت تقاليد الزواج نفسها لم تعد كما كانت فجوهرها لم يتغير كثيراً والبساطة ظلت سمتها الأبرز فجزر النساء ينتمي سكانها الى البساطات الأولى الى العفوية والبراءة لكن تميزها الأعظم يكمن في انها جزر، للنساء فيها السطوة والحكمة، ولهذا فهي لا تشبه بقية جزر البحر ولا تشبه حياة سكانها ما على الأرض كلها من حيوات. 


إعلان