سعد الله ونوس بعدسة عمر أميرالاي
ندى الأزهري- باريس
ماذا كان ليقول اليوم لو شهد ما يجري في بلده من صراع شرس؟
سؤال ظل يجول في الخاطر طوال مشاهدة المقابلة مع الكاتب المسرحي السوري الراحل سعد الله ونَوس في فيلم “وهناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء” الذي حققه عام 1997 المخرج السوري الراحل عمر أميرلاي.
المناسبة التي دعت إلى عرض الشريط في معهد العالم العربي في باريس، كانت قرار “لا كوميدي فرانسيز”، المسرح الفرنسي العريق الذي أنشأ عام 1680، تقديم عمل مسرحي مترجم عن العربية للمرة الاولى في تاريخه. المسرحية المختارة ليست سوى “طقوس الإشارات والتحولات” التي كتبها سعد الله ونَوس عام 1994. معهد العالم العربي، الذي ارتبط مؤخرا بشراكة مع هيئة الكوميدي فرانسيز، قرر تقديم حلقة من ثلاث أمسيات حول شخصية واعمال هذا الكاتب الذي يعتبر أحد أكبر المسرحيين في العالم العربي. عرض في الأمسية الأولى فيلم أميرلاي عن ونَوس ” وهناك أشياء كثيرة كان يمكن ان يتحدث عنها المرء”، و الفيلم كان أُنتج بناء على طلب من المحطة الفرنسية- الألمانية آرتي وقد قدمته حينها ضمن أفلام وثائقية أخرى تبين وجهات نظر جيل من المثقفين العرب والإسرائيليين في الصراع- العربي الإسرائيلي.
اعتمد المخرج في”وهناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء”، على مقابلة مطوّلة مع سعد الله ونَوس وكان آنذاك في أوج صراعه مع مرض السرطان. كان هذا الكاتب معروفا بالتزامه ومواقفه السياسية الشجاعة، ويمكن اعتبار الفيلم وثيقة هامة تعبر عن علاقة جيل بأكمله بالقضية الفلسطينية حيث يقابل أميرلاي فيه بين شهادة هذا المسرحي الكبير وبين لقطات من حروب النكبة والنكسة و”حرب تشرين التحريرية”، وزيارة السّادات لإسرائيل، ثم حرب الخليج.
العدسة كانت شديدة الاقتراب من وجه ونوس، ترصد كل انفعالاته. لقد كان في “مزاج جنائزي” لشعوره بالاقتراب من الموت، لكن ذلك لم يقف حائلا أمام تحليله المعمق للصراع العربي الإسرائيلي الذي “سرق السنوات الجميلة” من عمره، ولكنه لم يكتف في ” عدواناته المستمرة” بسرقة اعمار الآخرين فحسب بل “حيواتهم” كذلك. تكلم عن فلسطين “الهم الأكبر” لأبناء جيله الذي ولد في الاربعينات من القرن الماضي، عن النكبة وما زُرع في الأذهان عن “الخيانة والأسلحة الفاسدة” دون أدنى ذكر لضعف الجيوش العربية آنذاك، ثم عن النكسة وحرب 1973 التي رأى فيها “اجهاضا لفوران حصل بعد 67” ومجرد عملية سياسية “لإنطلاق الزعماء العرب في مباشرة السياسات التي كانوا يتهيأون لاختيارها”.

يتابع صاحب”الملك هو الملك” سرده، لا يتوقف إلا لشرب كأس من الماء. تحدث عن فترة صمت قرر عيشها بعد زيارة السادات لإسرائيل، ليكسره فيا بعد بمسرحيته”الاغتصاب” التي حلل فيها بنية النخبة الحاكمة في إسرائيل. وصل ونوس برؤاه النقدية والفكرية إلى حقيقة مفادها أن ” السياسة الإسرائيلية هي تدمير للإنسان اليهودي نفسه”، وهي حقيقة أقرها من أسابيع قليلة فائتة قادة سابقون للشين بيت في الفيلم الوثائقي” حراس البوابة”.
ونوس يسرد في الفيلم ردود الفعل على مسرحيته هذه التي أثارت جدلا في سورية وصل إلى حد اتهامه “بالتعاطف” مع إسرائيل لمجرد تقديمه شخصية إيجابية يهودية! لقد كانوا حسب تعبيره ” يريدون الاستقرار في الكراهية الساكنة التي لا تكلف شيئا”.
فيلم عن إحباط جيل وفشل السياسات العربية من وجهة نظر مثقف وكاتب. كم كانت لغته فصيحة جميلة. وكم بدا، وياللأسف، كلامه عن الارتباط بالقضية الفلسطينية نائيا وكأنه من عصور اندثرت. لقد نسينا القضية وانشغلنا بغيرها… كم أسفنا معه على هذا العمر الذي انقضى تحت ” سلسلة متواصلة من الضربات”، كان آخرها بالنسبة له ضربة حرب الخليج الأولى التي “أجهزت على بقية الآمال لدى العرب”، كما أجهزت، عليه شخصيا كما كان متيقنا وجعلت “خلايا السرطان تتغلغل في جسده”.
لم تبتعد عدسة أميرالاي عن وجه ونَوس إلا حين كان في غرفته في المستشفى منهكا وجسده الضعيف يستقبل قطرات المصل التي كانت تعطيه بعضا من رمق يتيح له متابعة الحوار بتصميم مؤثر، أو لتمرير مشاهد قليلة من الارشيف تتعلق بما كان يقال.
سعد الله ونَوس كان ضد “تسويق التفاؤل الكاذب”، وقد أكد برؤيته التحليلية لقضايا وطنه أن ما حصل سيبقى مستمرا بالحصول حيث ” سيمضي كل جيلنا إلى مثواه الأخير وإسرائيل ستكون باقية “. تلك كانت آخر عباراته في الفيلم الذي ككل أفلام عمر أميرالاي الأخرى لم يعرض في سوريا.
رحل سعد الله ونوس الحالم بالحرية وبالعدالة عام 1997 في نفس يوم ذكرى تقسيم فلسطين في 1947.
ولد سعد الله ونوس في قرية حصين البحر عام 1941 ودرس الصحافة في مصر ثم عمل بعد عودته في وزارة الثقافة السورية وساهم بكتاباته في صحيفتي “الثورة ” السورية”والسفير “اللبنانية” . وفي نهاية الستينات اتجه إلى باريس لدراسة المسرح. وبعد عودته أسندت إليه مهمة تنظيم مهرجان المسرح الأول في دمشق ثم عين مديرا للمسرح التجريبي في مسرح القباني وساهم نهاية السبعينات في تأسيس المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق وفي ظهور مجلة “الحياة المسرحية” . كان ونوس ينحاز إلى المسرح السياسي المرتبط بالهم الاجتماعي. ويبحث دون مهادنة عن العلاقة التي تربط الفرد بالسلطة وقد نقل المسرح السوري إلى مرحلة جديدة من الكتابة والإخراج التجريبيين و يعتبرمن أهم المسرحيين العرب. ( مصادر متعددة)