“لقاءات بجاية” للسينمائيين الشباب المحترفين

أحمد بوغابة / الجزائر

تقع مدينة بجاية الجزائرية على سلسلة من الجبال ومحاطة بها أيضا فتطل على شاطئ بحر المتوسط من أعلاها بزهو واعتزاز كسكانها. وحين تدخلها، تعلن لك أنها تحتفل بالسينما من خلال ملصقات موزعة في مختلف الشوارع والأزقة وعلى واجهات الأسوار وأمام كل المباني الرسمية ومن يتجمع فيها وحولها المواطنين. كما أن تضاريسها تلك هي في ذاتها تتشكل في تنوع الصور والمشاهد. تحتفل المدينة بتظاهراتها السينمائية السنوية بكل مظاهر الجمال التي تفضل أن تكون تظاهرة سينمائية محضة يلتقي فيها أهل فنون السينما من داخل الجزائر وخارجها طبعا. سَمَّتْ لحظتها هاته ب”اللقاءات السينمائية” وتغيب منها المسابقة وكل أشكال التنافس الذي قد يشوش على جمال السينما بحكم أن الجمعية تركز على الثقافة السينمائية أساسا. يعتمد برنامجها على عرض الأفلام ومناقشتها مباشرة مع الجمهور ثم تخصيص بعض الأفلام الاستثنائية بكتاباتها السينمائية وبحثها الفني أن تكون محورا لنقاشات صباحية ضمن فقرة “مقهى السينما”. فضلا عن ورشات، واحدة في كتابة السيناريو والثانية في التحليل السينمائي يشرف عليهما بعض المتخصصين في مجالها.
وما يمز هذه التظاهرة هو أنه يمكن للجمهور والضيوف والمهتمين والمؤطرين والصحفيين والنقاد بأن تمتد لقاءاتهم مع بعضهم في نفس الأمكنة طيلة اليوم، من الصباح إلى ساعة متأخرة من الليل، لقاءات مباشرة، لقاءات حول الأفلام وكذا حول طاولات الأكل في الغذاء كما في العشاء حيث يستمر النقاش حول السينما ومن أجلها خاصة وأن الضيوف ينتمون إلى جنسيات مختلفة وبالتالي لحساسيات ثقافية وفنية متنوعة في عمقها وأسلوبها. ولا يستثني منها الجمعيات والنوادي التي توجد بالمدينة نفسها أو ضواحيها أو القريبة منها والتي تحمل هي أيضا هم الثقافة السينمائية.

عبدالنور حوشيش مدير المهرجان

يوفر اللقاءات السينمائية لمدينة بجاية علاقات سينمائية مستقلة وحرة وغنية لا تفلح كثير من التظاهرات توفيرها رغم الإمكانيات الضخمة التي يتم رصدها لها. وقد تحدثت عن خصوصيات لقاءات بجاية من قبل في نصوص سابقة وهذا مجرد تأكيد جديد وتحصيل حاصل لأنه في تطور مستمر ونحو الأعلى. ومُخْطئ من يعتقد برؤيته من بعيد أن تظاهرة بجاية “صغيرة” لكون منظميها “صغار السن” بل أنا الذي حضرت بعضا من دوراتها أجد نفسي محاطا بشباب مهني ومسؤول ومُنظم حيث تحتل الفتيات فيه مكانة ثقافية محترمة.

جمهور بجاية … استثنائي

أحسست بسعادة مُفرحة وأنا أتابع العروض بالخزانة السينمائية لمدينة بجاية خلال هذه اللقاءات لأسباب عدة، أذكر منها الأفلام التي تم اختيارها من لدن لجنة الانتقاء وهي أفلام جيدة حقا، ومن جهة أخرى الجمهور نفسه بمستواه الحضاري الرفيع والثقافي المتميز والذي يدل على أنه جمهور له أخلاقا حميدة في المشاهدة. لا يمكنني أن أترك هذه المناسبة تمر دون أن أقدم تحية خاصة وجليلة لهذا الجمهور قل نظيره في العالم العربي فأعتبره استثناء وأدهشني فعلا.
جمهور يحترم الفرجة الجماعية في القاعة السينمائية حيث لا تسمعه يعلق أثناء المشاهدة بل يترك ذلك للحوار المفتوح بعد نهاية الفيلم. لا تسمعه يتحدث في الهاتف خلال العرض. لا يدخل ويخرج من القاعة كل ثانية ودقيقة. لا يأكل بها السندويشات والحلويات أو يشرب المشروبات الغازية. لا يمارس تلك الظواهر المتخلفة التي نجدها في كثير من القاعات السينمائية بعالمنا العربي التي تحولت إلى مطاعم ومقاهي وأمكنة للهو، للأسف. يسود الصمت المطلق في القاعة عند جمهور بجاية. وتبقى قمة تحضر هذا الجمهور الرائع وتميزه في كونه يبقى أيضا جالسا في مكانه إلى نهاية الفيلم بل إلى نهاية الجنريك كله، إلى أن تشتعل الأضواء، وهذا استثناء عند جمهور مدينة بجاية إذ حتى في بعض البلدان المتقدمة ينهض الجمهور فيها ويبدأ في مغادرة كراسيه عند الجنريك في الظلام. او تجد بعض القاعات السينمائية هي بدورها تشعل الأضواء أثناء الحنريك علما أنه يشكل جزء من الفيلم وأحيانا بعض الأفلام تكون لديها مشاهد إضافية بعده.
هذا الجمهور الجميل هو نتاج العمل المكثف، طيلة السنة، للجمعية المنظمة للقاءات في إطار أنشطتها وعروضها على امتداد السنة ولا تكون اللقاءات إلا قمتها في العطاء. وفي هذا الإطار نفسه، فاللقاءات ليست في حاجة لتوظيف رجال شركة خاصة للأمن وفتيات الاستقبال والمساعدين والسائقين إلى آخره وإنما كل شيء مصدره شابات وشباب الجمهور المحلي للمدينة بالعمل التطوعي المجاني بإيمان مدني لإنجاح التظاهرة.
فلا نستغرب إذا علمنا أن الإسم الحقيقي والدال للمدينة هو “شمعة”، فهي شمعة مضيئة في الثقافة السينمائية بالجزائر

الملصق … دلالة النضال والعزيمة

لا يمكن في إطار متابعتنا لهذه اللقاءات، بالروح والجسد والفكر، أن نغفل أهمية ملصق التظاهرة خاصة وأنني أعلم أن كثير من شباب الجمعية هم عباقرة في التشكيل الحديث عبر برامج وأنظمة الكومبيوتر مع روح إبداعية في العمق. إجتهاد يستحق الوقوف عنده لما يحمل من رسائل دلالية تتوجه لمن بريد قراءتها أو التمعن فيها لفهم أصوات الآتية من الجمعية وصمودها باستقلاليتها الفكرية والسينمائية والهيكلية. لا تتلقى اللقاءات دعما من جهات رسمية كولاية بجاية على سبيل المثال لا الحصر تبقى البلدية المصدر الوحيد لها.
ينقسم الملصق إلى ثلاث مستويات أفقية كمراحل تعبيرية للمرور نحو النجاح وما ذكرته سابقا/أعلاه حول محتويات الجمعية واللقاءات. يحمل الملصق الأمل وإصراره على النجاح بتغلبه على كل العراقيل.

نجد في أسفل الملصق – كمستوى أول في الدرجة – سكة قطار واحدة تخترق المجال والأفق وهي في حالة واحدة “الذهاب” وبالتالي فهذه السكة ليست مزدوجة إذ لا تتوفر على “الذهاب” و”الإياب”. وبالتالي فهناك تشبث بالاستمرارية في نفس الخط، نحو الأمام. وفي هذا المستوى الأول مكتوب تاريخ التظاهرة ومدتها كتأكيد على التاريخ الرمزي كمرجعية في الاستمرارية.
وفي وسط الملصق – كمستوى ثاني – مجموعة السحب والغيوم التي تعرقل السير وتحد من رؤية السكة في أفقها، دلالة على اعتراض اللقاءات لمشاكل. لكن هذه الغيوم هي في ذات الوقت منبع ومصدر الخير بحملها، بالبنط العريض، سن الدورة 11 للقاءات السينمائية لبجاية وفقراتها المقررة.
ونصعد إلى المستوى الثالث – الأعلى – الذي تظهر فيه السماء زرقاء صافية ومكتوب عليها أيضا بالبنط العريض كلمة “البرنامج” وهي دلالة قوية بالتأكيد على تحقيق “برنامج” الجمعية وشعارها ذي العين الثاقبة والمُصِرَّة على المواجهة لتحقيق مشروعها كما جاء في إسمها.

منتدى اللقاءات حول الإنتاج

كما هو الشأن بالنسبة للأفلام المختارة للمشاركة في لقاءات بجاية وهي كلها للمخرجين الشباب السينمائيين المحترفين فقد تم تنظيم منتدى حول الإنتاج قدمه ونشطه مدير المهرجان نفسه عبد النور حوشيش حيث تم استدعاء إليه مجموعة كبيرة ومهمة من المنتجين السينمائيين، هم شباب أيضا، يقفون كلهم على رأس شركات إنتاج حديثة جدا لا يتجاوز عمر أقدمها ثلاث سنوات باستثناء شركة واحدة للمنتج/المخرج مؤنس الخمار التي يرجع تاريخ تأسيسها إلى عشر سنوات رغم صغر سنه، وكانت هناك شركات أخرى للمخرجين الشباب التي لم تعش طويلا بحكم مشاكل الإنتاج في الجزائر حسب ما أدلوا به خلال المنتدى. ومنهم أيضا من هم مخرجون أو موزع كشأن الهاشمي زرطال.
عرض كل واحد من المشاركين الذين وصل عددهم إلى 9 مشارك نبذة عن شركته وبعض إنتاجاته والمشاكل التي يتخبطون فيها سواء القانونية غير الواضحة في نظرهم في المجال السينمائي لكونها ينطبق عليها قوانين التجارة العادية ولم يتم أخذ بعين الاعتبار خصوصية السينما كإبداع أو أيضا بسبب البيروقراطية أو بسبب غياب سوق سينمائي مثمر الذي اضمحل نتيجة سنوات العشرية السوداء (سنوات الإرهاب) كما يسمونها هنا في الجزائر فلم يعد وجودا لجمهور سينمائي وبالتالي لإغلاق القاعات وكل مظاهر الفرجة فيها.
مس النقاش في هذا المنتدى الشأن السينمائي برمته بدءا بالإنتاج وصولا إلى القاعات ومرورا طبعا بالتوزيع باعتبارها عناصر مرتبطة ببعضها في سيرورة الحياة السينمائية. فهؤلاء الشباب السينمائيين سواء كمنتجين أو مخرجين أو موزعين قد أسسوا حياتهم الاحترافية في السنين الأخيرة التي شهدت قطيعة بين ماض غني سينمائيا كانت تتحكم في الدولة بشكل مطلق ضمن السياسة الاشتراكية حيث كانت الدولة نفسها توزع 250 فيلم في السنة ويصل عدد حينها إلى أزبد من مائة مليون مشاهد يقول المنتج والموزع الهاشمي زرطال وواقع جديد ليبرالي لكنه مازال يعتمد على الدعم المادي للدولة بعد سنوات من الفراغ الكلي للقوانين والإنتاج.
انطلق النقاش في بدايته من سؤال طرحه مسير المنتدى ومدير المهرجان عبد النور حوشيش: “لماذا يتم إنشاء شركات الإنتاج في بلد ليس به سينما ولا صناعة سينمائية؟” ليتشعب طبعا إلى ما سبق الإشارة إليه وإلى التعريف بمهنة المنتج والمنتج المنتدب والمنتج المنفذ وحقوق المؤلف ومن سيملك حقوق الأفلام حين يتم حل شركات مثلا وهذا قد حصل فعلا. وهناك من حمل المسؤولية المطلقة لوزارة الثقافة باعتبارها المسؤولة المباشرة قانونيا وإداريا وأدبيا ومعنويا على فنون السينما بالجزائر بينما دافع عليها آخرون واعتبروا أن الأخطاء يتحمل فيها المسؤولية الجسم السينمائي نفسه.

منتدى الانتاج في اللقاءات

لقد كان هذا المنتدى، الذي كان مقتصرا على الجزائريين والوضع السينمائي في الجزائر، بمثابة فضاء لتبادل الحوار والنقاش أكثر منه البحث عن الحلول أو خلق أرضية عمل مشتركة للمستقبل أو إعلان هيئة جماعية للاستمرار في ذلك النقاش الذي كان جيدا ومهما في أفق تشكيل خريطة للعمل فبقيت الأسئلة معلقة بدون جواب ونظرة المنتجين السينمائيين الشباب طموحة في انتظار تأسيسها ثم ترجمتها على أرض الواقع حتى لا تبقى مجرد آراء فردية موزعة ومنتشرة بينهم دون إطار فكري وتنظيمي يَلُمُّها لخدمة السينما الجزائرية بجيل جديد في جزائر جديدة.

السينما المغربية في الافتتاح

تعتمد اللقاءات السينمائية لبجاية على أفلام السينمائيين الشباب المحترفين سواء المكرسين منهم عالميا أو الذين يخطون خطواتهم الأولى بأعمال متميزة وعادة ما تكون بجاية منطلقهم نحو مهرجانات أخرى. تبني هذه التظاهرة برنامجها السنوي على سينما المؤلف وهذا ما يجعل التظاهرة تحتل مرتبة محترمة عند كثير من المخرجين خارج الجزائر.
يتم برمجة أفلام تخلق النقاش الفني والفكري على حد سواء لذا يعمل المنظمون على أن تكون تلك الأفلام مرفوقة بأصحابها المخرجين حتى يتحقق الهدف خاصة وأنه لا يعتمد المسابقة والمنافسة.
وفي هذا الإطار تم اختيار فيلم “بيع الموت” للمخرج المغربي فوزي بن السعيدي لافتتاح الدورة 11 للقاءات وهي أول مرة يُعرض فيها فيلم لهذا المخرج في الجزائر حسب ما قال لي مدير المهرجان عبد النور حوشيش. لكن للأسف لم يتمكن من الحضور فترك الجمهور يحمل أسئلة كثيرة وعديدة وجدت بعضها صداها في الصحف المحلية مع قراءات مهمة. وافتتاح اللقاءات السينمائية لمدينة بجاية بفيلم مغربي هو إلتفاتة للسينما المغربية التي تحتل الصدارة حاليا في العالم العربي بتنوع إنتاجاتها ووجودها في كل التظاهرات فتم اختيار المغرب ليكون مفتاح السينما في بجاية يقول مدير المهرجان.
وكان فوزي بن السعيدي حاضر أيضا في اليوم الموالي كممثل رئيسي في فيلم “وداعا المغرب” للمخرج الجزائري المقيم بفرنسا والذي لم يتمكن من الحضور هو كذلك. والمعروف أن فيلم “وداعا المغرب” قد تم تصويره بالكامل في مدينة طنجة وفيلم “بيع الموت” تم تصويره بمدينة تطوان، وكلا المدينتين توجدان في شمال المغرب وتبتعدان عن بعضهما فقط ب 55 كلم. كما حضرت المدرسة العليا للفنون البصرية بمراكش (جنوب المغرب) من خلال فيلم قصير “أرخبيل” للمخرج جمال كركار وهو شاب جزائري يدرس الإخراج السينمائي بتلك المدرسة. وتم عرض فيلم قصير للمخرجة المغربية الشابة محاسين الحشادي بعنوان “بطاقات سياحية”. حضر جمال كركار للنقاش وغابت محاسن الحشادي. وقد تم تنظيم حفل الافتتاح بالخزانة السينمائية وليس بمسرح المدينة كما كان ذلك قبل سنتين.
ويحضر فعاليات هذه الدورة من المغرب أيضا مدير مهرجان سَبو للفيلم القصير بمدينة القنيطرة (وسط المغرب على بحر المحيط الأطلسي) وهو أيضا رئيس النادي السينمائي المنظم للمهرجان ورئيس سابق للجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب. وتجمعه بلقاءات بجاية شراكة ثقافية وسينمائية للتعاون بينهما في هذا الحقل الإبداعي.  


إعلان