عن سينمائي متوحش اسمه كوينتين تارانتينو !

أسامة صفار
لا يوجد سبب منطقي واحد لحدث كبير , ثمة أسباب كثيرة تستطيع أن تساهم في تفسير ظاهرة ما ويبقي الأمر اجتهادا أيضا لذلك ليس من المؤكد تماما أن هتلر انتحر حين علم بسقوط ألمانيا علي يد قوات الحلفاء لتنتهي بذلك الحرب العالمية الثانية عام 1945وليس من المؤكد أيضا أنه قد تم اغتياله في احدي دور العرض الفرنسية مع وزير دعايته الدكتور جوبلز وعدد كبير من قيادات الجيش الألماني كما حكي الأمريكي من أصل ايطالي كوينتين تارانتينو…القصتان اذن غير مؤكدتان لكن ملايين القصص الأخري أيضا تظل غير مؤكدة بما فيها الحياة التي نعيشها فثمة احتمالات – طبقا لقوانين الفيزياء – أن هذه الحياة لم تحدث أو حدثت وانتهت أو أنها مجرد حلم !.

هكذا يتعامل المخرج الأمريكي المثير للجدل كوينتين تارانتينو مع الحدث التاريخي في فيلمه ” أوغاد سفلة ” Inglourious Basterds 2009 وهو يدرك – فيما يبدو – أن التاريخ خدعة كبيرة يكتبها المنتصرون كما يريدون لذا قرر تارانتينو أن يخدع الجميع في كل أفلامه فقد أوهمنا أنه يصنع فيلما عن الحرب العالمية الثانية في ذلك الفيلم بينما كان يصنع فيلما وفقط وهو ما فعله في فيلمه الأخير ” جانجو بلا قيود ” Django Unchained حيث قدم أجواء مرحلة تاريخية أمريكية مرتبطة بوجود العبيد في أمريكا ليخطف المشاهد والناقد معا الي المعني المرتبط بتحرير العبيد والي تلك المرحلة بينما كان يصنع فيلما لا علاقة له بوقائع تاريخية محددة فالعالم كما يبدو لتارانتينو في أفلامه بتاريخه وجغرافيته واضاءته وبشره ليس الا مادة لصنع أفلام ممتعة ولكنها عنيفة ومتأملة كثيرا .
وتدفع أفلام تارانتينو الأخيرة الي تأمل قصته الأولي ذلك أن الرجل الذي يكتب أغلب أفلامه بنفسه اقتحم عالم الشهرة والنجاح بفيلم ملتبس مستقل بتكلفة لم تتجاوز مليون ومائتي ألف دولار وهو رقم متواضع بالنسبة للانتاج الأمريكي وجاء موضوع الفيلم عن جريمة لم نشاهدها وقدم حوارا متواصلا بين الأبطال عن أحداث لم نر سوي القليل منها ليطعن السينما في مقتل وهي الفن البصري بلا منازع وفن الحكي بالصورة من الأساس ومع ذلك لا يمكن لمشاهد فيلم ” مستودع الكلاب ” Reservoir Dogs1992 أن يشعر بالملل ولو لحظة واحدة وكما لفت الأنظار بكثرة الدماء وشدة العنف في فيلمه الأول لم يتخل تارانتينو عن هذه الدماء بل زادت حتي وصلت الي درجة قصوي في فيلم ” جانجو بلا قيود ” .. ولكن من أين يأتي العنف في أفلام تارانتينو ؟
للاجابة عن هذا السؤال علينا أن نعود الي ذلك الشخص ذي الأصل الايطالي والذي ولد في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1963وما ان يبلغ سبعة عشر عاما فقط حتي يترك الدراسة ويبدأ في العمل بمحل لتأجير أفلام الفيديو طمعا في مشاهدة تلك الأفلام وهو ما حدث بالفعل , وبجرأة غريبة يقتحم عالم السينما كممثل مبتديء دون أن يدرس مفضلا أن يحتفظ بتلك الذهنية التي تشكلت عبر شوارع مدينته وعبر الأفلام التي شاهدها وكأن الدراسة الأكاديمية للسينما تصنع قوالب في رأس دارسها فلا يخرج عن المألوف الا نادرا بعدها لذا ينطلق تارانتينو لكسر كل القواعد التي تعارف عليها السينمائيون ويقدم عنفا بلا حدود ويقدم عبثا يحمل في داخله منطق ويقدم ما لا يمكن أن يبعث علي الملل لكنه يبعث علي التأمل طارحا في فيلمه ” منتهي الخيال ” Pulp Fiction 1994 نموذج لشخصية تبدو كما لو كانت مفتاحا اخر من مفاتيح ادراك تارانتينو للعالم انه رجل العصابات الزنجي الذي يقتل بعد أن يقرأ نصوصا من الانجيل ومن ثم قبل نهاية الفيلم بقليل يطرح علي نفسه المعني المقصود من النص ليقرر التوقف عن القتل ويبدأ حياة جديدة وهو ما يعني ببساطة أن المقولات العظيمة والحكيمة صالحة تماما للاستخدام في القتل وصالحة أيضا للاستخدام في حياة صالحة ونافعة للبشرية ..ببساطة لا توجد ثوابت لدي تارانتينو ولا توجد قواعد حاكمة ثمة عبثية شبه مطلقة في الحياة والأمر كله يخضع لارادة الانسان في فعل القتل أو فعل الحب .

تارانتينو بأفلامه الثمانية هو الابن المخلص للثقافة الأمريكية والتي تتجلي صورتها في هوليوود انتاجات هوليوود المختلفة كما تتجلي في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وغيره من مناطق العالم اذ تعيد هذه الثقافة صياغة العالم جغرافيا وتاريخ وفقا لما تريد بالعنف تارة وبالحوار تارة وكما تمنح الثقافة الأمريكية نفسها حق اعادة صياغة الواقع ورسم المستقبل فانها تعيد كتابة التاريخ كما تريد ووفقا لأهدافها وهكذا ينصب تارانتينو كصاحب ارادة مطلقة يعيد تشكيل القيم والمعاني السينمائية والانسانية ليكون بذلك صورة كربونية من الثقافة الأمريكية بوحشيتها وتجاوزها وانطلاقها بأنانية تامة كأنه لا يوجد في العالم سواها .
تارانتينو المؤلف والمخرج والمنتج والممثل هو الولايات المتحدة ذاتها فقد ورثت تلك الدولة ثقافتها وبشرها وقيمها من القارة العجوز أوروبا وقامت بتطوير كل ذلك وصبغته بصبغة أمريكية خاصة وهو ما فعله المخرج الأمريكي اذ ورث مواطنه الايطالي ورائد تطوير أفلام الكاوبوي ” سرجيوني ” ليقدم نمطا مختلفا تماما في ” جانجو بلا قيود ” كما ورث من النمسا وألمانيا ممثله المفضل الذي ظهر معه كضابط ألماني في ” أوغاد سفلة ” وحصل علي الأوسكار من هذا الدور بينما لم يكن قبل تارانتينو يتمتع سوي بشهرة محدودة ليقدم معه مرة أخري شخصية الألماني الذي لا يؤمن باستعباد الانسان للانسان ويتبني البطل الأسمر ويعلمه القتل ويساعده علي تحرير زوجته وفي الحالتين ” أوغاد سفلة ” و” جانجو بلا قيود ” يموت الأوروبي بينما يفوز الأمريكي بالحبيبة والحياة .
والذي لا شك فيه أن تارانتينو شخص مهووس تماما بالسينما ولهذه السينما ملامح تبدو وكأنها قادمة من خبراته الشخصية ولعل من أهمها عشقه لظهورالمرأة الفاتنة الغامضة في أغلب أفلامه وقد جعل من كل شخصية مثلت هذا الدور رمزا ذي خصوصية فكانت أوما ثورمان في pulp fiction( منتهي الخيال) , لوسي ليو في kill bill( اقتل بيل ) , ميلاني لوران في inglourious basterds( أوغاد سفلة )  أما حبه الكبير فهوالقاتل المختل الذي يتلذذ بعذابات البشر مثل مايكل مادسن في ( مستودع الكلاب )reservoir dogs , فينج راميس في ( منتهي الخيال )pulp fiction و براد بيت في ( أوغاد سفلة)inglourious basterds .
ومن الطبيعي بعد ذلك ألا نجد أهتماما بالزمن أو ترتيب المشاهد, فكل أفلامه تقريباً تسير بخطوط غير مرتبة زمنياً ومشاهد متداخلة ويتسق تماما مع رجل لا يري في الحياة أي ثوابت سوي السينما .


إعلان