مهرجان الأفلام القصيرة في “سين سان دوني”
صلاح سرميني ـ باريس
تتلاحق المهرجانات السينمائية في باريس (وفرنسا عموماً)، ما أن ينتهي أحدها حتى يبدأ آخرٌ، وآخرٌ مع فارق بعض الأيام بينها، أو تتداخل أحياناً، ولا أحد من الفرنسيين يعترض، أو يتحدث عن منافساتٍ غير موجودة أصلاً، حيث يعكس هذا الزخم، والتنوّع مظاهر عافية للمناخ الثقافيّ العامّ.
وفي هذه الحالة الإيجابية تماماً، يتحتمّ على المُحترفين، والجمهور على السواء الإختيار بين المهرجان الأقرب إلى إهتماماتهم.
خلال الفترة من 5 وحتى 15 يونيو 2013 شهدت “سين ـ سان ـ دوني” الدورة الثانية والعشرين لمهرجان الأفلام القصيرة، وخلال الفترة من 12 وحتى 18 يونيو، وفي الطرف الآخر من باريس، إنطلقت الدورة الثانية لمهرجان الشانزإيليزيه السينمائي (أو مهرجان السينما في الشانزإيليزيه).
يعود تاريخ الأول إلى 22 عاماً مضت، وبدأ يعاني من أزماتٍ تمويلية، ويحتفي الثاني بعامه الثاني بإبتهاج مريح.

وبينما ينعقد الأول في الضواحي الشمالية/الشرقية المُحاذية تماماً للعاصمة باريس، تتمركز عروض الثاني في شارع واحد (8 صالات)، وعلى حين إختار الأول خطةً برمجيةً تناسب جمهوراً معيناً، إعتمد الثاني على أفلامٍ أكثر جماهيريةً.
بالنسبة لناقدٍ سينمائيّ يتابع الأفلام القصيرة بكثافة، ويميل إلى الإتجاهات الطليعية، التجريبية، والمُختلفة، سوف يختار حتماً المهرجان الأول، حيث لن يتسنى مشاهدة أفلامه إلاّ في هذه المناسبة بالتحديد، بينما سوف تُعرض الأفلام الروائية الطويلة للمهرجان الثاني واحداً بعد الآخر في الصالات التجارية.
هذه قراءةٌ عامةٌ حول المهرجانيّن(أبدأها بمهرجان الأفلام القصيرة في “سين ـ سان ـ دوني”)، وهي لا تدّعي بأنها تتوّغل في تفاصيلهما، بإنتظار واحدةً أخرى، سوف تثير الفضول حتماً.
***
(Seine-Saint-Denis) ليست مدينة، هي منطقةٌ إدارية، تُشكلّ الضواحي المُحاذية للعاصمة باريس من جهة الشمال/الشرقيّ، ومنذ 22 عاماً ينعقد فيها أحد المهرجانات الرئيسية المُتخصصة بالأفلام القصيرة (وضمنياً المُتوسطة الطول) بإدارة الخبير السينمائيّ “جاكي إيفرار”، وتتمركز كلّ نشاطاته، وعروضه في قاعة (Ciné 104) في مدينة “بانتان”، وتتوزّع بعضها في الصالات البلدية للمُدن المُجاورة التي تتكوّن منها هذه المنطقة الإدارية.
وحتى دورته في العام الماضي 2012، كان يمضي المهرجان بدون الحديث عن عقباتٍ مالية، ولكن، مع دورته الأخيرة، الثانية، والعشرين التي إنعقدت خلال الفترة من 5 وحتى 15 يونيو 2013، بدأت تظهر على السطح آثار العقبات التمويلية التي يتعرض لها، ويبدو بأنها وصلت إلى درجةٍ من القسوة بحيث أجبرت إدارة المهرجان على كشفها من خلال البيان الصحفي، والحديث عنها مباشرةً مع الجمهور من بعض ممثلي الجهات المحلية الداعمة، وتبريرها بالأزمة الإقتصادية العامة التي تجتاح فرنسا منذ سنوات، وبالآن ذاته، تشجيع إدارة المهرجان على ضرورة إمتصاص هذا النقص الحاصل في الميزانية عن طريق إيجاد مصادر تمويلية أخرى، ومنها ـ على سبيل المثال ـ مبيعات التذاكر، وإنفتاح الجمعية المُنظمّة على أعضاء من المُحترفين، والجمهور على حدٍّ سواء، والإعتماد على إشتراكاتهم السنوية، وحتى قبول التبرعات الصغيرة، والكبيرة من متابعي المهرجان، وعشاق السينما، وفاعلي الخير.
بدون ذلك البيان الصحفيّ، والكلمات المُقتضبة التي سمعناها في ليلة الإفتتاح ـ الخالية تماماً من أيّ مظاهر إحتفالية ـ ما كنا عرفنا أيّ شيئٍ عن هذه الأزمة التمويلية التي يمرّ بها المهرجان، ورُبما أيضاً ما كان أحدٌ منا لاحظ بأنّ “الدليل الرسمي” المُعتاد قد تحول إلى “نشرةٍ ورقية” تشبه تلك التي كانت تصلنا قبل أسابيع من إنعقاد المهرجان (وتمّ إستبدالها برسالةٍ إلكترونية توفيراً للنفقات).

هذه الخطابات المُشتكيّة التي بدأنا نتعوّد على سماعها في العروض الإفتتاحية، والختامية للكثير من المهرجانات الفرنسية (لا يوجد مظاهر إحتفالية أبداً)، رُبما ماعدا مهرجان كان الوحيد الذي لا يُعاني منها، أو لا يكشفها، وهو قادرٌ ـ بإعتقادي ـ على إيجاد مصادر تمويلية مُكمّلة من فرنسا، أو من خارج حدودها، بدون أن يُصاب أحدنا بالإحباط، وتنتابه أفكاراً هوسية بأنّ هذا المهرجان، أو ذاك سوف يتوقف عن نشاطاته، حيث، وعلى الرغم من كلّ هذه الصعوبات التي تعترض المهرجانات السينمائية (والمشهد الثقافي بشكلٍ عام)، نجدها مستمرةً، وصامدة، والمُثير للدهشة، تُفاجئنا فرنسا بمهرجاناتٍ جديدة تنطلق من هذه المدينة، أو تلك، مع أنّ ميزانياتها تعتمد بشكلٍ أساسيّ على نفس مصادر الدعم المحليّ، الإقليميّ، والوطنيّ، رُبما أصبحت آليات إقتصادية تمويلية جديدة تهدف إلى ترشيد النفقات، أيّ تقليص ميزانية مهرجانٍ ما كي يبدأ بالإعتماد على نفسه، ومنحها إلى واحدٍ آخر جديد.
ومع ذلك، خلال هذه المهرجانات التي تتقلصّ ميزانياتها، يصعب أن نلاحظ تأثيراتها، وعلى سبيل المثال، منذ سنواتٍ وإدارة المهرجان الدولي للأفلام القصيرة في “كليرمون فيران” تتحدث علناً عن أزمةٍ تمويلية، ولكن، من أخلص لهذا المهرجان منذ بداياته حتى اليوم، لن يلاحظ تغييرات واضحة في الجوانب الفنية، وهي، على العكس، تتطوّر سنةً بعد أخرى، ومازال المهرجان يتمتع بسمعةٍ فريدة كواحدٍ من أهمّ مهرجانات الأفلام القصيرة في العالم (كان الفيلم القصير كما يُقال عنه).
وهذا ما أدركناه أيضاً خلال متابعة مكثفة، ومفيدة لمهرجان الأفلام القصيرة في “سين ـ سان ـ دوني”، وبرامج الدورة الثانية، والعشرين تشهد على ذلك.
منذ بداياته، تخيّر “جاكي إيفرار” أن يكون المهرجان مختلفاً عن كلّ المهرجانات الفرنسية المُتخصصة بالأفلام القصيرة (وحتى أكبرها، وأشهرها في “كليرمون فيران”).
إنه مهرجانٌ فرنسيّ في مسابقاته، طليعيّ في توجهاته، وبرمجته، ينبش في تاريخ السينما الفرنسية(وأحياناً العالمية)، ويكشف عن حاضرها، يكفي بأن يقدم في عرض الإفتتاح أربعة أفلام من مقتنيات “السينماتك الفرنسية” لن يتسنى للمتفرج مشاهدتها بسهولةٍ إلاّ في مناسباتٍ عظيمة كهذه.
أربعة أفلام نادرة هي البدايات الأولى لمخرجيها الكبار:

ـ “من أجل عيونك الجميلة”، فيلم بلجيكيّ صامت بمدة 8 دقائق، أبيض، وأسود، إنتاج عام 1929 وإخراج “هنري ستورك”.
ـ “جنون دكتور توب”، فيلمٌ فرنسيّ قصير بمدة 12 دقيقة، أبيض، وأسود، صامت، من إنتاج عام 1915، وإخراج “آبل غانس”.
ـ “لمبة”، فيلمٌ بولونيّ قصير بمدة أربع دقائق، و30 ثانية، من إنتاج عام 1959، وإخراج “رومان بولانسكي”.
ـ “هاملت”، فيلم بولونيّ قصير بمدة أربع دقائق، و30 ثانية، من إنتاج عام 1960، وإخراج “يرزي سكوليموفسكي”.
في الأيام التالية، كانت الأفلام المُدرجة في “البانوراما” لا تقلّ أهميةً عن أفلام المسابقتيّن(الروائية، والتجريبية)، ولهذا، كان “جاكي إيفرار” وفي كلّ مرة يقدم أحد برامجها، يُذكرنا بأنّ إدارة المهرجان تلقت حوالي 1500 فيلماً إختارت منها 25 لمُسابقة الأفلام الروائية، ومثيلها عدداً لمُسابقة الأفلام التجريبية (وأفلام التجربة، والفيديو آرت).
ونظراً لأهمية الكثير من الأفلام المُتقدمة، فقد إختار فريق المهرجان عدداً وافراً منها توزّعت في 13 برنامج، بمجموع حوالي 46 فيلماً جمعت أفلاماً قصيرة، ومتوسطة الطول من كلّ الأنواع : روائية، تسجيلية، تجريبية، وتحريكية.
وبالتوازي مع المُسابقتين، والبانوراما، نضح المهرجان ببرامج ثرية، تخيرتُ متابعتها حرصاً على مشاهدة دراسية منهجية.
هنا العناوين العامة لهذه البرامج، بإنتظار قراءة أكثر تفصيلاً، وتحليلاً :
ـ “لويّ غاريل” هاويّ.
ـ الأفلام الأخيرة للمخرج “جان لوك غودار”.
ـ ثلاثة أفلام للفيلسوف الوضعي “غي ديبور”
ـ عروض إستعادية لأفلام المخرج “بيير كروتون”.
ـ شاشاتٌ حرة : فيلم لكلّ من المخرجين : فيليب غراندريو، فيم فانديكيبوس، فريدريك دانوس.
ـ إضاءة على المخرج الفرنسي “جاك بيركونت”.
ـ تكريم المخرج الفرنسي “مارسيل حنون”.
ـ فنان ضيف : المخرجة الفرنسية “دانييل فاليه كلاينر”.
ـ عروض للأطفال.
وبرامج أخرى برمجتها مؤسّسات مختلفة، وإستضافها المهرجان، والأهمّ، طاولة مستديرة بعنوان : السينما، فنٌّ معاصر.