“طج” لخالد عبد الواحد
رمية في وجه الفعل المضاد
درويش درويش
“طج” عنوان مختصر ومكثف. يقول إيقاعُه معناه. فيلم قصير “جداً” ليس وثائقياً هذه المرة. بل يذكرنا بعنفوان القصة القصيرة، عندما شُبِّهتْ برصاصة “يتيمة” عليها إصابةُ هدفها مباشرةً… وإلا فهوَ الفشل.
في هاتين الدقيقتين لدينا “فعل” يجري في فضائه. فضاؤه: حائط. ستارة تهزها ريح خفيفة. باب منزل شعبي مغلق من الداخل في مواجهتنا. وضوءُ مصباحٍ كهربائيٍّ (لمبة) علةَ وجودِ هذا الفضاء “بصرياً”.
أما الفعل؛ المحتضَنُ في إطار فضائه آنف الذكر و”القائم” عليه، هوَ ببساطة: رمي كرة على الحائط “الظاهر” بتناوب، من مصدر خفي خارج الكادر، بما يحاكي لعب طفل صغير بها.

يحدد “خالد عبد الواحد” إيقاع الفيلم بشكل صارم، “بطجطجة” الكرة على الحائط. مصعّداً بذلك لعبة التحدي والمخاطرة السينمائية إلى أوجها. فرمي الكرة وصوت ارتطامها لا يتركان مجالاً “لتأويلات” إيقاعية “جانبية” كثيرة. بحيث تغدو هذه السكة الخطرة، التي وضع المخرج فيلمه عليها؛ الممرَ الشائك والإجباري، لتحويلها هي ذاتها، وبفعل الطاقة السينمائية وحدها، إلى حامل القوة الرئيسي في الفيلم، ومحور انبثاق الدلالات وزخمها تباعاً، كما سنرى.
يبدأ الفيلم برصد فعلٍ سابق عليه، قذف الكرة بتناوب مونوتوني، مستمر. هو الفعل “الأساس”. المستمر. الذي يخلق الحركة. هو الدلالة الوحيدة على التدفق الزمني، ضمن ما نراه في الكادر.
هذا الفعل “المركَّز” بفضل عزْلِه عن سياق حيثياته الواقعية، دون التخلي عن واقعيته؛ يستمر دون قطع، مرسخاً للمكان والفعل تعريفَيهما شيئاً فشيئاً، عند “مستقبِلات” المتلقي، طيلة الربع الأول من الفيلم. عند لحظة الإشباع بالضبط، وهوَ ما اصطاده المخرج بدقة، وهوَ ما يعبَّر عنه: بامتلاك الإيقاع الداخلي؛ عند هذه اللحظة تحديداً، يبدأ “الفعل المضاد” باقتحام “المشهد”. من خارجه. على إيقاع الفعل الأول، الأساسي والمستمر. أي صوت القصف، ما نبدأ بسماع إحدى انفجاراته لحظة إحدى اصطدامات الكرة بالجدار. هذا الفعل الطارئ لا يبدو ثابتاً ومستمراً، إنه يبدأ ضعيفاً ويقوى، يرتفع صوت القصف مصادراً شيئاً فشيئاً، صوت ارتطام الكرة بالجدار آخذاً مكانه، ومحتلاً حيّزه في الفضاء. هذا “الفعل” المضاد البعيد الذي لا نرى فضاءه الخاص، بل نستطيع تخيله وتخمينه، قياساً ومعايرةً بفضاء الفعل الأول؛ إنما يستحضره و”يستجره” إلى الوجود الفعلُ الأول المستمر و”المواظب”.. لتصبح الحالة وقد ارتفع صوت القصف، الساعي إلى “التناوب”؛ أقرب إلى التضاد المتساوي، وقد اكتمل –بدوره- تمثُّلُ الفعل “المضاد” وفضائه المتخيل عند مستقبلات المتلقي أيضاً. فعلان متضادان. متقابلات. يكادان -في لحظة- يتساويان في قوة الحضور، يتصارعان من أجل احتلال الكادر، الذي هوَ فضاء “الفعل الأول”.
عند اكتمال التمثل الثاني، وفي ذروة “المكاسرة”، يحصل أعنف وأقرب قصف إلى المنزل. يتزلزل المكان يتوقف الفعل الأول. يسود الظلام التام، مع سيادة صوت طنين كالذي يصم الآذان بعد انفجار هائل. هنا تصبح “اللقطة” المظلمة مع صوتها المذكور، أقرب إلى “الذاتية”. لقد أتى “الفعل المضاد”/القصف من بعيد، على إيقاع الكرة وصوت ارتطامها بالحائط. ومطابقاً له… كأن ليخمد هذا الصوت.. وليدمر “قواعد اللعبة” ويطيح بالأسس القائمة عليها “بنيتها التحتية”: الجدار/البناء، الضوء من “التيار الكهربائي”. وليس دون الإطاحة أخيراً بصاحب الفعل عينه، من يقوم برمي الكرة.

هل تدمر البيت؟ انهار الحائط؟ هل ستعود الإضاءة وقد صمَّ الانفجار سمعنا بطنين “حيادي” طامسٍ لكل صوت عداه؟!
يبدو هذا السؤال في لحظات العتمة و”الصمت” تلك، مطابقاً لسؤال: هل سيؤدي كل الفعل المضاد/القصف/ التدمير إلى؛ انعدام “فعلٍ” كالذي رصده الفيلم. أي ضرب الكرة بالحائط؛ بإطلاق المعنى، وتوسيع الرؤية، لتشمل الملايين من الأفعال الصغيرة الأخرى، اللانهائية، التي لا يمكن أن تمثل في مجملها إلا الحياة عينها!
إنَّ الإجابة سرعان ما ستأتي. بعودة الضوء/الكهرباء. المنظر/الفضاء السابق كما هو. عودة رمي الكرة من جديد بإيقاع “الحياة” عينه… “الفعل” المتجدد طالما هناك حياة… “الفعل” المستمر.
لا يختلف فيلم “خالد عبد الواحد” عن عنوانه، ولا عن التوصيف المذكور في بداية المقال. كان المجال الزمني لمناورته في لعبة التحدي تلك، لا يتجاوز الدقيقتين، ليصبح “زمناً” بحكم المطلَق سينمائياً.