“الحياة الأمريكية غير الشرعية”.. تيه المهاجر بين الوطن الفقير والمهجر العنيد
البيت هو أي بيت، والزمن هو أي زمن، أما الإنسان ففهمه وإشكالياته تتدحرج وتنمو وتكبر وتتحول إلى فعل، باتجاه مغادرة ذلك البيت أو الوطن أو الأرض، بحثا عن زمن مستقبلي بديل يخفف عنه تلك الوطأة. إنهم هناك أمامنا نراهم يتكدسون، أولئك المهاجرون الذين يلاحق حظوظَهم وأعمارَهم غولُ الفقر والعنف، وتحاصرهم السلطات وهم يدافعون عن أنفسهم بأحلام وأمان بأوطان افتراضية.
إذا شئنا ها هو المثال أمامنا، مجرد 12 مليون إنسان يحكي هذا الفيلم الوثائقي قصتهم، ويحمل عنوان “الحياة الأمريكية غير الشرعية” (This (Illegal) American Life)، إنهم المهاجرون غير الشرعيين الذين يعيشون في صراع مفتوح لا ينتهي مع السلطات، سواء سلطات بلدانهم التي جاؤوا منها، أو سلطات الولايات المتحدة.
هذا ما تبحر فيه المخرجة “ماريانا فان زيلر”، وهي المخرجة التي أمضت شوطا مهما من حياتها في مراقبة شقاء الإنسان ومكابدته، متنقلة من العراق إلى إيران إلى أفغانستان إلى أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية، وقدمت عشرات القصص الوثائقية، منها ما يخوض في جدلية عدم الانتماء التي تعبث بكيان مجاميع بشرية كبيرة تتقلب على نار الهجرة وعذاباتها.
“هذه أرضي، هذه ليست أرضكم”.. صرخة الكراهية
يراقب العالم “ويلبر زيلنسكي” هذه الهجرات البشرية وانعكاساتها الاجتماعية والثقافية، وكيف يتعامل الكائن مع واقعه الثقافي والإنساني والاجتماعي البديل والجديد، فهذا العالم الكبير عُني أشد العناية برسم خريطة الهجرات التي ضربت الولايات المتحدة منذ ظهورها واكتشاف القارة، وصولا إلى مأساة الجيران الفقراء والمعذبين القادمين تسللا من أمريكا الجنوبية، ومن أكثر حاضنات الفقر في المكسيك، فالهجرات الكبرى قادمة من هناك.
“هذه أرضي، هذه ليست أرضكم”، ينطق هذا المعارض الشرس والمبغض للمهاجرين بلسان فصيح تتبعه صيحات استهجان مؤيدة له، وليس ذلك إلا في ولاية أريزونا الأمريكية، فهي أكثر الولايات الأمريكية تشددا تجاه الأجانب والمهاجرين غير الشرعيين.
من لوس أنجلوس إلى كاليفورنيا ثم أريزونا يتابع الفيلم وقائع إلقاء القبض على عشرات المهاجرين غير الشرعيين، ويصرح حاكم إحدى المقاطعات أنه يحتجر قرابة 45 ألف مهاجر غير شرعي هنا، ويشير إلى صندوق مقفل على شكل مبان مسورة وعالية يقبع فيها أولئك المهاجرين غير الشرعيين.
“لا يمكنكم تصوّر حجم الكراهية التي تحيط بنا”
“إلسي” و”فيلمون” ليسا إلا نموذجين تختارهما المخرجة ليمثلا شريحة عريضة من المهاجرين، ويشتركان مع الآخرين في ذلك الشقاء. تتحدث “إلسي” عبر صور فوتوغرافية عن طفولتها، لقد وصلت إلى هنا وهي في عامها الثالث لا تفقه شيئا، وها هي اليوم طالبة جامعية متفوقة، إذ تسمح بعض الولايات لمهاجرين غير شرعيين جاؤوا صغارا أو ولدوا في الولايات المتحدة بالالتحاق بالتعليم العمومي.
وها ذي هي “إلسي” المحاورة اللبقة والنشيطة والشخصية الدمثة تعيش أجمل لحظات حياتها وهي تتخرج مع أفواج من الطلبة الأمريكيين في ولاية كاليفورنيا.
لكن المخرجة تذهب إلى مدير شؤون الهجرة تسأله سؤالا محددا: إنني أعرف فتاة اسمها “إلسي” جاءت إلى هنا بصحبة والديها، وكانت في عامها الثالث، لكنها اندمجت في المجتمع حتى تخرجت من الجامعة، وأصبحت عنصرا إيجابيا في هذا المجتمع، فما حكمها في قوانينكم؟

يرد ذلك المسؤول بدم بارد إنه لا يعرف بالضبط ملابسات قدومها وكيف وصلت إلى هنا، وفي كل الأحوال إذا كانت قد خالفت قوانين الهجرة، وكانت مهاجرة غير شرعية، فيجب أن تخضع للقانون وتحاسب وترحل إلى بلدها.
هذا الرعب تعبر عنه “إلسي” قائلة إنها تعيش في كابوس مرير يجسد عدم انتمائها، لا إلى هنا ولا إلى هناك، فهنا تجد نفسها مهددة بالترحيل ومقطوعة الجذور، وإن رحلوها فستكون في بلد مجهول لا تعرفه، ولم تعش فيه إلا ثلاث سنوات من عمرها.
تمضي المخرجة في تتبع إشكالية عدم الانتماء التي تجتاح مهاجرين مغلوبين على أمرهم، يلتزمون بالقوانين ولا يبتغون سوى توفير القوت لعائلاتهم الفقيرة التي تركوها خلفهم، خاصة في المكسيك. تقول “إلسي” بألم لا حدود له: لا يمكنكم تصوّر حجم الكراهية التي تحيط بنا.
أوكسنارد.. معقل الملثمين الذين يطعمون أمريكا
نحن في مدينة أوكسنارد في كاليفورنيا، حيث تنتشر أكبر مزارع الفراولة في الولايات المتحدة، وحيث يقع معقل المهاجرين غير الشرعيين، والأيدي العاملة الرخيصة القادمة في غالبيتها قادمة من المكسيك، الكل يخفي وجهه ولا يريد التحدث لأحد، ولا أمام الكاميرا خوفا من الترحيل.
إنه مشهد سريالي، كلما عبأت صناديق فراولة أكثر تركض باتجاه مالك الأرض، ليثقب الورقة التي تحملها، وكلما كثرت الثقوب في الورقة فذلك يعني صناديق فراولة أكثر ودخلا أكبر.

ها نحن أولاء وسط تلك الحقول الشاسعة، حيث 80% من إنتاج الفراولة في الولايات المتحدة يخرج من هنا بعائد سنوي مقداره بليونان من الدولار، دون أن يعلم أحد أن وفرة ذلك الإنتاج وتسويقه يعود إلى جيوش من الملثمين الذين يخفون وجوههم (أي المهاجرين غير الشرعيين)، إنها الأيدي العاملة الرخيصة بلا ضمان صحي ولا اجتماعي.
مهرجان الفراولة.. فرح جامح حول أكبر سجون المهاجرين
ننتقل إلى حيث يعيش “فيلمون” المهاجر وعامل الفراولة، إنها منطقة البؤس الحقيقي، حيث عمال يتكدسون في حجرات خشبية ليس لديهم إلا البسيط من مستلزمات الحياة، وهم يتنقلون من مزرعة إلى أخرى.
في الامتداد الذي لا يتناهى لمزارع الفراولة، حيث العمل يدوي خالص، سيفصل طريق سريع بين تلك المزارع وبين أكبر سجن في الولايات المتحدة خاص بالمهاجرين غير الشرعيين، يصرح “جو أربايو” مُفوّض شؤون الهجرة موجها كلامه إلى المخرجة والمحاورة: لا يهمني كم يكون عددهم، أنت تقولين 18 مليون إنسان، لا يهمني، سألقي القبض عليهم جميعا.
ننتقل منه إلى مهرجانات الفرح، إنه مهرجان الفراولة في ولاية كاليفورنيا، حيث كل شيء فراولة، لُعب الأطفال والملابس ومسابقات التهام الفراولة، لكن لا أحد يعلم من أين جاءت الفراولة، وأي أياد مرهقة شقت لتوصلها إلى أولئك المحتفلين الفرحين.
“إنهم يعاملون المهاجرين معاملة النازية”
تفاقُم الإحساس بعدم الانتماء لا يتجسم سلوكا ومعاناة لدى أولئك المهاجرين كما يعرضه الفيلم باستفاضة ملفتة للنظر، بل في ردود أفعال أخرى تسمعها من أناس عاديين، وها هي امرأة تستشيط غضبا أمام الكاميرات، امرأة أمريكية عابرة بالصدفة تقول: ببساطة شديدة إنهم يعاملون المهاجرين غير الشرعيين بمثل طريقة معاملة النازية.

وسط هذا سيكتظ الناس من أجل الدفع باتجاه “قانون الحلم” لتصحيح أوضاع اللاجئين غير الشرعيين، مثل حالة “إلسي” وآلاف غيرها ممن عاشوا طويلا في تلك البلاد، لكن القانون ينازع في سبيل البقاء، منذ العام 2001 وحتى اليوم.
“ماريانا فان زيللر”.. تجربة ثرية للمخرجة الإنسانية
تخوض المخرجة والصحفية البارعة “ماريانا فان زيلر” تجربة ثرية وعميقة من خلال هذا الفيلم، وسلسلة تتناول القصص الإنسانية المؤثرة المماثلة، فبالرغم من طابع اليوميات الذي ترافق من خلاله “ماريانا” شخصياتها في عنائهم، فإن إشكالية عدم الانتماء تجدها صارخة وتجسدها مرة أخرى، لدى توجهها لزيارة قرية مكسيكية تقف مثالا حيا على ذلك الهاجس المرير، قرية هاجر جميع الرجال فيها إلى مزارع الفراولة وأعمال أخرى ليعيلوا عائلاتهم، ولم يبق فيها إلا أربعة رجال فقط.
“ماريانا فان زيلر” كانت قد أثرت الذائقة الوثائقية بعدد من الأفلام المميزة، ومنها أفلام عن صراع العصابات في البرازيل، وتجار المخدرات والمدمنين في ولاية ماساتشوستس، ثم إلى أفريقيا والصراعات العرقية في أوغندا في فيلم “التبشير بالكراهية”، ثم إلى سريلانكا من خلال فيلم “ملاحظات عن الحرب والرعب”، وصولا إلى إيران في صراعها المعلن وغير المعلن مع الولايات المتحدة، وأفلام أخرى.