عودة تسجيلية اولى لحرب العراق

شركة الإنتاج التلفزيوني البريطانية المستقلة “بروك لابينغ”، والتي تقف خلف البرنامج التسجيلي الضخم “حرب العراق”، (انتهت القناة الثانية لهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” من عرض حلقاته الثلاث مؤخراً)، هي شركة الإنتاج ذاتها المسؤولة عن مجموعة من أبرز البرامج التسجيلية التاريخية في العقدين الآخيرين، فهي عادت في تلك الأعمال الى أكثر حقب التاريخ المعاصر تأزماً ودموية لتعيد نبشها والتفحص فيها، فقدمت برامج عن إنهيار الإتحاد السوفيتي، والحرب اليوغسلافية، والصراع العربي الإسرائيلي، وتركة مارغريت تاتشر، إضافة الى مجموعة اخرى من البرامج، التي قدمت شهادات ومقابلات شديدة الأهمية مع أبرز شهود ومعاصري المراحل التاريخية التي تناولتها تلك البرامج. شَيّدت شركة الإنتاج البريطانية سمعة عالمية عريضة عززتها بحصولها على مجموعة مميزة من الجوائز التلفزيونية، جعلت من الصعب بمكان مقاومة إغراء الظهور في برامجها للقادة والسياسيين، والذين أطلوا بكثافة كبيرة في برامج الشركة، والتي عرض أغلبها على شاشات “بي بي سي” .

يصادف توقيت عرض برنامج “حرب العراق”، مع الذكرى العاشرة، للحرب التي قادتها بشكل مباشر الولايات المتحدة الأميركية لإسقاط نظام صدام حسين في عام 2003. لكن البرنامج التلفزيوني سيبدأ بزمنه من عام 2001، ليسجل الجو الهيستيري الذي ساد الولايات المتحدة الأميركية بعد تدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك، ورايات الحرب التي رفعت سريعا هناك، ودعوات إسقاط النظام العراقي التي غلبت على الخطاب الحماسيّ للرئيس جورج بوش وإدارته. ستهتم الحلقة الاولى من البرنامج، والتي حملت عنوان: “تغيير النظام”، بالظروف التي قادت لحرب عام 2003، فيما ستركز الحلقة الثانية منه (مابعد السقوط) على العامين الاوليين من وجود قوات التحالف الغربية في العراق، اما الحلقة الثالثة والاخيرة (إنه الجحيم ياسيدي الرئيس) فستكون عن العنف الذي ضرب العراق منذ 2006، والذي قاده الى شكل من أشكال الحرب الأهلية، والذي لازالت آثاره مستمرة، إذ يختتم البرنامج حلقته الاخيرة بمشاهد حديثة لعنف الأشهر الأخيرة في العراق، والذي عاد بقوة الآن، ليذكر بالفوضى التي سادت المدن العراقية الكبيرة في سنوات الإنفلات الأمني.

نجح البرنامج التسجيلي البريطاني في الحصول على موافقات شخصيات وسياسيين بارزين في الظهور بالبرنامج، أبرزهم رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير ومجموعة من معاونيه، إضافة الى نائب الرئيس الأمريكي ديك شيني، فيما غاب الرئيس جورج بوش، والمبتعد نهائياً عن الإطلالات الإعلامية. أما من الجانب العراقي، فقدم البرنامج شهادات لأبرز سياسيي العراق الحاليين، ومنهم : نوري المالكي والرئيس جلال الطالباني ومسعود البارزاني وأحمد الجلبي إضافة إلى مجموعة من وزراء النظام العراقي السابق ومنهم، رئيس الخارجية ناجي صبري.

حظيت حرب العراق بتغطيات إعلامية غير مسبوقة، إذ خصصت آلاف الساعات التلفزيونية لمتابعتها ساعة بساعة، وأحيانا بشكل مباشر، وحَظر قادة الحرب وسياسيي الحقبة السياسية وبعدها، على شاشات عشرات المحطات التلفزيونية، وساهمت شبكة الإنترنيت في منح وجهات النظر الغير شعبية، مساحة مهمة، شَكلت، وللمرة الإولى في تاريخ الإعلام، مصدراً موازياً للأخبار، وبنفس الدرجة لتلك التي تقدمها القنوات التلفزيونية الرسمية والمختلفة المشارب. فتلك التغطيات التفصيلية التي قدمت بها حرب العراق، عَقدت مهمة البرنامج البريطاني “حرب العراق”، فما الجديد الذي يمكن ان تقدمه الوثيقة التسجيلية هذه ؟ خاصة أن السنوات العشر التي تفصل بين نهاية الحرب وعرض البرنامج، ليست طويلة بالقدر الكافي، لتسجيل شهادات جديدة ومختلفة لأبطال تلك الحرب، تختلف عن تلك التي تحدثوا بها لوسائل إعلامية عديدة. رغم ذلك يقدم البرنامج بعض القصص المثيرة، وربما غير المعروفة للكثيرين، كتلك المتعلقة بخطة الأجهزة الأمنية الأميركية، لإقناع وزير خارجية النظام السابق، ناجي صبري، على التمرد على نظامه، وكشف قدرات النظام العسكرية. إذ كشف موظفون في “سي آي آيه”، بأنهم وصلوا في عام 2002 الى الوزير العراقي عن طريق صحفي عربي معروف يعيش في العاصمة الفرنسية باريس، ومتعاون منذ سنوات مع المخابرات الفرنسية. الخطة الأميركية لن تنجح، رغم أن الصحفي العربي (رفض الظهور في البرنامج التسجيلي البريطاني) قابل الوزير العراقي في نيويورك أثناء اجتماع للأمم المتحدة، وقدم إليه مجموعة من البدلات الرجالية كهدية، والتي كان الصحفي العربي قد حصل عليها من المخابرات الأميركية، ليظهر الموظف السابق في ” سي آي آيه” وهو يضحك في البرنامج، فعلى الأقل لبس وزير الخارجية العراقي بدلة دفعت ثمنها المخابرات الأميركية، كما تحدث منتشياًّ!

تتراوح أهمية المقابلات التي قدمها برنامج “حرب العراق”، فبعضها، كالمقابلة الطويلة لتوني بلير، تتضمن شهادة فيها كثير من الصدق، وندم على بعض الأفعال التي أقدم عليها شخصياً ( كتصريحه الشهير بأن النظام العراقي قادر على إعداد أسلحته المدمرة خلال 24 ساعة فقط)، وساعدت في دفع قطار الحرب الى وجهته بسرعة كبيرة، فيما بدت مقابلات الرئيس الطالباني ومسعود البارزاني، وكأنها مُستّلة من تحقيقات التلفزيون السريعة، وغاب عنها التأني والتفصيل الذي يفترض أن يُميز “شهادات العصر”، والتي سعى اليها الذين يقفون خلف هذه الوثيقة التسجيلية. كثير من المقابلات، تعود على  الأرجح لجهل أصحابها بتاريخ الشركة التلفزيونية المنتجة، والقيمة التاريخية للبرامج التي تقدمها. اللآفت إن شهادات العراقيين الذين يعيشون خارج العراق، بدت أكثر ترتيباً وتفهماً لطبيعة البرنامج التلفزيوني من مثيلاتها لعراقيين في داخل العراق، فالضابط العراقي الكبير من عهد النظام السابق رائد حمداني، قدم  شهادة مثيرة عن الأشهر التي سبقت حرب 2003، وكيف تجرأ على سؤال قصي صدام حسين، إذا كان الجيش العراقي يملك فعلاً أسلحة دمار شامل، كما كان يدعي، الجواب الذي ينقله الضابط السابق، بأن العراق أتلف أسلحته للدمار للشامل قبل سنوات، وإن على الجيش العراقي المنهك وقتها، أن يتصدى  بدونها لجيوش الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.

لا شك أن أي برنامج تلفزيوني يتنقل بسلاسة بين لقاءات حصرية مع توني بلير ونوري المالكي وديك تشيني وناجي صبري وآخرون كما فعل البرنامج البريطاني، سيملك سطوته الخاصة على المشاهد. برنامج “حرب العراق” ربط بين تلك اللقاءات بمشاهد أرشيفية وشروحات علق عليها صوت بريطاني رخيم، بدا وكأنه  صوت الزمن او التاريخ “النهائي” يقودنا عبر تلك الأحداث، وإن الساعات الثلاث للبرنامج، هي توليف سريع لما وقع فعلا على طوال أكثر من 12 عاماً. لكن الذي يثير الشكوك لمتابع من العراق أو المنطقة، إن كثير من الذين تحدثوا في البرنامج، وخاصة  من العراقيين، مازالوا في وسط المشهد السياسي، وإن شهاداتهم التاريخية، لا بد انها مَرّت عبر منظور المصالح الآنية، فبعضهم يقف اليوم، كما كان هو الحال قبل عشر سنوات، على طرفي الصراع المتواصل، الأمر الذي يطرح تساؤلات عن جاهزية الوضع العراقي الحالي لقراءة تاريخية محايدة، وعن زمن العشر السنوات، وهل هي طويلة بالقدر الكافي لعودة تاريخية صادقة؟ 


إعلان