مهرجان الأفلام القصيرة في “سن ـ سان ـ دوني”

“بييّر كروتون” مخرجٌ مزارع، “جاك بيركونت” يُفكك الصورة الفيديوية، و”دانييل فاليه كلاينر” تغطي الأماكن بورق الفضة

صلاح سرميني ـ باريس

حالما انتهت فعاليات الدورة السادسة، والثلاثين للمهرجان الدولي للأفلام القصيرة في كليرمون فيران (31 يناير- 8 فبراير2013)، والدورة السادسة، والستين لمهرجان كان (15 -26 مايو 2013)، بدأ البعض من المُحترفين، والجمهور ينتظر الدورة الثانية، والعشرين لمهرجان الأفلام القصيرة في “سن ـ سان ـ دوني” (ضواحي باريس) (5-15 يونيو2013)، وتخيروا متابعته بدلاً من مهرجاناتٍ تنعقد نفس الفترة في باريس، أو مدن فرنسية أخرى، ومنها على سبيل المثال : المهرجان الدولي لأفلام التحريك في آنسي، أو المهرجان الدولي للأفلام التسجيلية في مارسيليا، ورُبما تجنب هؤلاء نفقات السفر إلى هذه المدينة، أو تلك، طالما هناك مهرجان آخر لا يقلّ أهمية عنها، تمضي فعالياته بدون صخبٍ، وضجة، وهكذا كان حال أمسية الافتتاح في القاعة الكبرى التي امتلأت مقاعدها، ولم يسمع الحضور خلالها أكثر من كلماتٍ مُقتضبة ألقاها المُفوّض العام للمهرجان، الخبير السينمائيّ “جاكي إيفرار”، وبعض ممثلي الجهات الرسمية الداعمة، وتمحورت في معظمها حول الأزمة التمويلية التي تعرّض لها في دورته الثانية، والعشرين، وبدون بكاءٍ، ونواحٍ، وحتى طقوس أعراس، أو جنازات، بدأت الأمسية بعرض أربعة أفلام من كلاسيكيات السينما هي الأعمال القصيرة الأولى لمُخرجيها، تبعها وليمة كشفت مأكولاتها، ومشروباتها عن محاولات التقشف العسيرة.

جاكي إيفرار

تخلى المهرجان عن الدليل الرسميّ المُعتاد، واكتفى بنشرةٍ إعلانية عامة، وموقع إلكتروني يوفر معلوماتٍ تفصيلية عن تلك الدورة، وما سبقها في الأعوام الماضية، حتى أننا لم نعرف أسماء أعضاء لجان التحكيم الكثيرة، والتي أدرجت مجتمعةً في الصفحة الأخيرة من النشرة، وجمعت أسماء المحترفين مع الهواة، الصغار مع الكبار، وكانت المُفاجأة (بالنسبة لي على الأقلّ) تخلي البعض من الجمهور عن مقاعد كانت محجوزة خصيصاً لأعضاء لجنة تحكيم شبابية، لاحظنا بأنّ إدارة المهرجان تحتفي بهم أكثر من لجان التحكيم الاحترافية التي لم يذكر “جاكي إيفرار” أسماء أعضائها.
تخلى هذا المهرجان الناضج عن كلّ المظاهر الاحتفالية المُعتادة، واكتفى بمخرجي الأفلام المُشاركة في مسابقاتٍ، وبرامج موازية تمّ اختيارها بخبرةٍ، وكفاءة.
سوف نلاحظ هذا المُستوى النوعيّ المُتشدد في المُسابقتين الروائية، والتجريبية، كما التوجهات الطليعية الحاذقة في اختيارات ـ رُبما ـ لا تُناسب أذواق أصحاب الحساسيات التقليدية، ولكن، سوف تُثبت السنوات، الشهور، والأيام، بأنها تعكس ملامح “سينما مستقبلية” تتميّز بها الإنتاجات الفرنسية بالتحديد، وهو ما يجعل البعض يحذر منها، ويتأفف من ذاتيتها، هذه الأفلام التي تتطلب معرفةً مُعمّقةً بالسينما الفرنسية من أجل القدرة على فهمها، استيعابها، وتذوقها بطريقةٍ مريحة.

تُفاجئنا البرمجة بفيلم يشارك في البانوراما، ونتساءل : لماذا لم يجد له مكاناً في المُسابقتين(بدون أن نعتبرها فضيحة)، وبالمُقابل، نشاهد فيلماً في إحداهما، ونتساءل أيضاً : لماذا لم يتحول إلى البانوراما(بدون أن نعتبرها فضيحة أيضاً)، وبدون التقليل من نوعية أيّ قسم، وأيّ فيلم، هذا يعني، بأنّ الحدود الفاصلة في اختيارات الأفلام المُشاركة في هذا القسم، أو ذاك نحيفة جداً، وهذا يعني أيضاً، بأنها كانت تتمتع بدرجةٍ عالية في نوعيتها.
أما البرامج المُوزاية (ومن الخطأ القول بأنها هامشية)، فهي حكاية الحكايات، أو بالأحرى مفاجآتٌ، واكتشافات.
من بينها العروض الاستبعادية لأفلام السينمائي/المُزارع “بيير كروتون”، نعم، لا يوجد خطأ كتابيّ، أو مطبعيّ، “بيير كروتون” مزارعٌ، ومخرجٌ ينجز أفلاماً تسجيلية شخصية تستعير من هيغل، ومانيه، حتى أنه اعتذر عن حضور العرض الختاميّ المُخصص لأفلامه، وبدلاً عنه تحدث المخرج المُشارك “فانسان باريه”، وأخبر الحضور بأنّ “بيير” لا يستطيع ترك مزرعته، وحيواناته لوحدها.
“بيير كروتون” المولود عام 1966، فنانٌ تشكيليّ، ومخرجٌ سينمائي، بعد أن أنهى دراسته للفنون الجميلة عام 1991 قرر أن يعود للعيش في الريف الروماندي الفرنسي، والعمل في الزراعة، وهكذا أصبح مربي نحل، بستانيّ، عامل فصليّ في حقل لسلطة الهندباء، ومربي مواشي…وكانت خبراته المهنية نقطة البداية لأفلامه.

في برنامج آخر بعنوان “شاشاتٌ حرة” تعرّف الجمهور على أفلام طويلة لمخرجين يتابع المهرجان أفلامهم القصيرة الأولى منذ أن عرضها في سنواتٍ ماضية، في الدورة الأخيرة كان الموعد مع ثلاثةٍ منهم، الفرنسيّان “فيليب غراندريو”، و”فريدربك دانوس”، والبلجيكي “فيم فانديكيبوس”.

بيار كروتون

أما الاكتشاف الحقيقيّ الذي لا يمكن نسيانه، فهو المخرج الفرنسي “جاك بيركونت”، وأعماله المُدهشة، وعنه كتب السينمائيّ، والباحث البلجيكيّ من أصلٍ هنديّ “بيدان جاكوبز” :
“التقنيات المُبرمَجة من قبل الجيش، الصناعة، والمال، قسرية، ومفروضة، ولكنها تستسلم بين الأيدي السخية لـ”جاك بيركونت”، وتكشف عن قدراتٍ إبداعية، كفاءته التقنية تجعله يتجاهل استخداماتها المعهودة، هو يكتشف أقلّ الوظائف الخاصة، وتقلباتها الخفية، ويكثفها وُفق حساسيته البصرية، تتحرر الآليات عن طريق معالجاتٍ متشددة، وتكشف عن عوالم مدهشة تتجاوز حواسنا، وإدراكنا، وفيها كلّ الأشكال، والألوان في حالة اختلافات مكررة، واهتزازات صغيرة، تسمو بنا نحو الطبيعة، الحبّ، والسياسة، البحث عن الجمال اللانهائيّ هي الثورة التي يدعونا إليها”.
في أحد العروض الحيّة، عمد “جاك بيركونت” إلى إنجاز فيلم متخيل أمام الجمهور مباشرةً، وذلك بعرض شريطاً مصوراً بطول حوالي 45 دقيقة هي مدة الفيلم/العرض، مناظر طبيعية التقطها بكاميرا فيديو منزلية، يعرضها، ويقوم مباشرة بتفكيكها رقمياً، ومن ثمّ يرجعها إلى حالتها الطبيعية الأصلية، وبالتوازي، يُصاحب العرض ثلاثة عازفين يعزفون على آلاتهم، وتقنياتهم الاصطناعية موسيقى تصويرية مُرتجلة، وهكذا يتكوّن الفيلم صورةً، وصوتاً أمام الجمهور مباشرةً.
في حالة الأشرطة السينمائية نتحدث عادةً عن الطبقة الحسّاسة، وحبيبات الصورة التي كان السينمائيون التجريبيون يعملون عليها بطرقٍ مختلفة، ويقدمون أفلاماً مدهشة لا يمكن أن تخطر على بال، وفي حالة الصورة الفيديوية، يلجأ “جاك” إلى نفس المبدأ، العمل على جوهر الصورة نفسها، ومكوّناتها، يفككها، ويحوّلها إلى مفرداتٍ جمالية تزدهر في عموم الفيلم نفسه.
وفي الوقت الذي تتوّجه أعمال “جاك بيركونت” نحو تفكيك الصورة الفيديوية، تستخدم “دانييل فاليه كلاينر” الفيديو للكشف عن حنين إلى الشريط الفيلميّ، وذلك من خلال ممارساتٍ تؤديها بنفسها، وتصورها.
“دانييل فالية كلاينر” فنانةٌ تشكيليةٌ، يتمحور نشاطها حول اكتشاف الحقيقيّ، والافتراضي، خريجة الفنون الجميلة عام 1984.
توزعت أعمالها في 4 برامج يكشف كلّ واحد منها عن توجهاتٍ معينة في عملها، في نهاية الثمانينيات، التزمت في خوض سلسلة من النشاط السينمائي المباشر في الأوساط المدينية، واختارت أماكن مهجورة (خطوط سكك حديدية)، مباني تنتظر الهدم، أو مهجورة مؤقتاً (كنيسة، سينما، مسبح)، وتشغل هذه الأمكنة مع بعض أصدقائها، وتبدأ في وضع علاماتها، أو تغطية جزء منها بورق الفضة تذكيراً بنظام تسجيل الصورة التناظريّ، أو الفوتوغرافي، وتحتفظ بهذه اللحظات، الأحداث المؤقتة، بأثرٍ فوتوغرافيّ، وفيلميّ هو أبعد ما يكون عن الوثيقة المُصورة.
وبالمقابل، تُسجل “دانييل” رحلاتها، وهي لا تسعى إلى انحاز مذكراتٍ فيلمية، أو شرائط وثائقية، ولكنها تقدم رؤية جمالية، وفكرية عن الأماكن التي تتوجه نحوها، أو تمرّ منها، وفيها، هي أفلامٌ عن العلاقات بين الأمكنة، والأزمنة المُتشابهة، أو المُتضادة.


إعلان