وثائقيات الإسماعيلية بين ذات الصانع وذات التاريخ

قراءة في أفلام الدورة السادسة عشر لمهرجان الأسماعيلية الدولي للفيلم التسجيلي

رامي عبد الرازق

مع اختتام فعاليات الدورة السادسة عشر لمهرجان الأسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة هذا الشهر نستطيع ان ندرج في سياق اهتمامنا بالفيلم الوثائقي عدد من الملامح الأساسية التي شكلت نقاط ارتكاز واضحة في العديد من التجارب التي عرضت ضمن برامج المهرجان, وخاصة مسابقتي الأفلام التسجيلية الطويلة والتي ضمت عشرة افلام والأفلام التسجيلية القصيرة التي احتوت على ثلاثة عشر فيلما.
سوف نركز في ملاحظاتنا على عنصرين اساسين نرى انهما الأبرز في التجارب الوثائقية التي عرضت خلال فعاليات المهرجان, العنصر الأول هو حضور المبدع أو صانع الفيلم ليس فقط من خلال رؤيته الاخراجية او تعليقه الصوتي او اختياره لموضوعه بالأساس ولكن ذلك الحضور الذاتي الذي يقترب من كونه أحد الشخوص الاساسية بالفيلم.
اما العنصر الثاني فهو البناء الزمني الذي يشكل فيه التاريخ –الاحداث السابقة على زمن الفيلم سواء العامة أو الخاصة-اللبنة الرئيسية لموضوع الفيلم وتفاصيله وجوهره الوثائقي.

أنا الفيلم

مدينة الفضاء

تقر بعض نظريات الفيلم الوثائقي بأن وجود صانع الفيلم داخل حيز فيلمه بشكل مادي أو معنوي أثيري، أمر هام وضروري واحيانا لا غنى عنه, بينما ثمة ما يفيد بأن الوجود المادي لصانع الفيلم يضع تلقيه في ميزان حساس سببه ان بعض المخرجين تطغي ذاتيتهم على الموضوع نفسه أو الحدث -وهو ما رأيناه من قبل على سبيل المثال في فيلم مولود في الخامس والعشرين من يناير للمخرج أحمد رشوان- في النهاية فإن ما يجعلنا نجزم بمدى موضوعية وجود ذات المخرج من عدمها هو الموضوع الذي يتناوله أولا والأسلوب الذي يقدم به جدلية الذات والموضوع ثانيا ثم ما تخلص إليه تلك الجدلية في النهاية.
في فيلمهم”مدينة الفضاء”قدم المخرجان الإيطاليان فابريزيو بوني وجيورجيو دي فينيس فكرة خيالية تعتمد على اثنين من اشهر الأعمال السينمائية في التاريخ وهما”متروبوليس” و”رحلة إلى القمر”لجورج ميليس حيث جاءت الفكرة باختصار كنوع من التمرد على المدينة التي لم تعد تحتمل الوافدين إليها بل وصارت تأكل سكانها مما دفع المخرجين إلى أن يُقدِما على فكرة ابتكار صاروخ للصعود إلى القمر وتأسيس مدينة جديدة لاعلاقة لها بالمفاهيم العنصرية أو السياسية او الطبقية التي تفرق ما بين البشر في مدن الألفية الجديدة.
ونتيجة كونهم من علماء الأنثروبولوجيا فقد بدأت الفكرة تتطور تدريجيا وتجد لها صدى واسعا بين فئات المهاجرين الغير شرعيين بل وسكان المدن الأيطالية الذين يعانون من مفرمة الازمة الأقتصادية والكساد العام, هنا يبدو حضور ذات المخرجين في الفيلم اكثر من مجرد كونهم اطلقا تلك الفكرة فقط ولكنهما استمرا في العمل على صناعة الصاروخ مع مجموعة المؤمنين بفكرة اليوتوبيا القمرية التي يمثل الصاروخ اول خطوة نحو تأسيسها, اننا نراهم منذ المشاهد الاولى وهم يرقصون سويا ويتحدثون للكاميرا عن فكرتهم ومشروعهم الخيالي العجيب, وأن كان يعيب فيلمهم بالأساس عدم تقديمهم لمرجعية سينمائية عن الفيلمين اللذين استوحيا منهم فكرة المدينة الفاضلة والرحلة إلى القمر. فليس كل المشاهدين، خاصة الاجيال الجديدة، على دراية بمتروبوليس ورحلة إلى القمر- مع الاخذ في الاعتبار ان متروبوليس لم تكن مدينة فاضلة في الفيلم الشهير بل هي اقرب للمدينة الحالية التي تلتهم ارواح ساكنيها-.
افرد المخرجان، نتيجة خلفيتهم العلمية المكدسة بالنظريات مساحة زمنية واسعة من فيلمهم البالغة مدته 98 دق للتأسيس النظري والفلسفي لفكرتهم كأنهم يحاولان أن يقنعا الجمهور– أو يقنعا أنفسهم ومن حولهم- بجدوى الفكرة وقيمتها النفسية والاجتماعية والسياسية على حد سواء وهو ما أرهق الإيقاع العام للجزء الأول من الفيلم وحشده بالكثير من اللقاءات الجامدة والثقيلة الوطأة على ذهن المتلقي بينما بمجرد أن خلص الجزء النظري إلى جدوى الفكرة وأهميتها انطلق الإيقاع خلال الجزء الثاني رشيقا ومتلاحقا وانفعاليا في نفس الوقت وتدريجيا لم نعد نشعر بالمخرجين كصانعي الفيلم بل كجزء من كيان الشخوص العام وهو ما أعطى الفيلم جانبا حميميا وربما روائيا ايضا خاصة مع ذروة الفيلم التي انتهت بانطلاق الصاروخ وانطلاق مشروع فني حقيقي داخل المصنع القديم الذي كان المساحة الجغرافية التي ضمت تصوير الفيلم وصناعة الصاروخ على حد سواء.
وفي فيلمها “ليال بلا نوم” والحائز على جائزة جميعة نقاد السينما المصريين نلمح حضور ذات المخرجة “اليان الراهب” ضمن عملية المواجهة التي صنعتها ما بين مريم سعيدي والدة أحد مفقودي الحرب الأهلية وبين مسئول المخابرات السابق في حزب الكتائب اسعد شفتري, حضور إليان المادي داخل فيلمها يعتمد على تقنية كسر الأيهام التي تشتبك مع السينما الروائية في بعض العناصر فرغم أنها تلغي تماما فكرة التعليق الصوتي إلا انها تصر على ان نراها ونسمع صوتها وهي تسأل الشخصيات وتحاورهم وتجادلهم طوال الوقت, بل تتجاوز ذلك إلى ظهور الكاميرا ومعدات الصوت وبعض فريق التصوير وكأننا نشاهد فيلما داخل فيلم, هذه الرؤية وذلك الحضور المادي الكامل يعطي واقع الفيلم عمقا اشد قوة وتأثيرا فالواقع داخل الفيلم لا يتوقف عن حدود لقاءات الشخصيات او عملية البحث عن الشاب المفقود او محاولة فك عقدة لسان شفتري ولكننا نرى واقع الفيلم ذاته أثناء تصويره وتراكم تفاصيله سواء المرتب منها مسبقا مثل اللقاءات وجلسات الفضفضة امام الكاميرا أو العفوي والمفاجئ مثل مشهد طرد مريم ومجموعة الفيلم من ارشيف الحزب الشيوعي أو مشهد رفض مريم الجلوس مع احد السيدات التي تدعو لمبادرة سلام بين ضحايا الحرب وجلاديها.
وتدريجيا ومع تبلور رحلة البحث عن السر يتخذ الفيلم شكل السياق التحقيقي”investigation movie” لتكتمل العناصر الروائية من ناحية البحث عن ذروة لرحلة البحث عن مصير ابن مريم من ناحية وتورط المخرجة نفسها في ان تصبح احد شخصيات الفيلم الباحثين عن سر اختفاء الشاب من ناحية أخرى من أجل أن يكتمل فيلمها وتتحقق ذروته, بالطبع يبتعد سياق الفيلم/التحقيق عن سياق الفيلم/التأريخ ولكن تظل الجدلية واحدة وهي تأثير الماضي على الحاضر وربما المستقبل ايضا.
تجد اليان نفسها وقد تورطت كلية في واقع فيلمها واسراره حتى انها تبدا رحلة بحث ذاتية عن مصر الشاب المفقود بعد ان كانت مجرد عين على الاحداث وحلقة وصل ما بين شخصيات الفيلم وجزء من سياق التعليق على الأحداث وتراكمها, ولنتصور نهاية الفيلم بدون ان تصبح إليان جزء من سياق الكشف عن السر ومصارحة الام بمكان وملابسات وفاة ابنها, وقد انقذ وجود إليان داخل التجربة ذروة الفيلم الشعرية والسياسية إلى جانب ذروته الدرامية لأن التجربة استردت عموميتها وموضوعيتها رغم انكشاف السر او تصورنا أن رحلة البحث قد انتهت وذلك من خلال شعورنا بأن الازمة ليست ازمة مريم الضحية ولا اسعد الجلاد حافظ السر ولكنها ازمة وطن كامل وأزمة انسانية عامة يمكن أن تتماهى معها مريم كواحدة من آلاف الامهات الائي فقدن ابنائهن في الحروب ويتماهى اسعد مع كل الجلادين اصحاب الضمائر المعذبة والاسرار الدفينة فكلاهما يقضي لياليه بلا نوم الاولى نتيجة عذاب الفقد والثاني بسبب وجع السر.

وفي فيلم إليان ايضا يتمثل لنا العنصر الثاني في سياق تحليلنا للتجارب المشاركة في المهرجان وهوحضور”ذات التاريخ”, فالفيلم تقريبا مبني بالأساس على كم كبير من الشهادات والذكريات واستعادة الأحداث سواء عبر الحكي او الصور او اللقطات الأرشيفية القليلة.
ويمكن القول أن قدرة إليان على تحريك الماضي داخل الحاضر جاء عبر تصور ناضج عن فكرة التاريخ الحي وعلاقته بالذاكرة, بمعنى انها استخدمت ارشيف قليل جدا من اللقطات المصورة عن الحرب الاهلية رغم توافر ارشيف سينمائي وفوتوغرافي ضخم ويمكن الحصول عليه بسهولة وبدون تكلفه كبيرة, فما الذي جعلها تقتصد لهذه الدرجة في التعاطي معه وتعتمد بشكل كبير على الحكي الكلامي واستحضار مواقف من الذاكرة والاكتفاء بالصور الفوتغرافية؟ نستطيع أن نقول انها ارادت ان تشعرنا ان هذا التاريخ لا يزال حي في الذاكرة اي في الحاضر والواقع وأن تأثيره مستمر وساري ربما في المستقبل ايضا, وإن الحرب حتى ولو كانت قد انتهت على مستوى المعارك فأن تأثيرها لا يزال موشوما على النفوس وفي دماء الضحايا والجلادين على حد سواء.
وبنفس منطق التاريخ الحي يمكن ان نطبق هذه الفرضية على الفيلم الدنمركي”فعل القتل”للمخرج جوشوا اوبنهايمر والذي يتحدث عن الثورة التي اطاحت بالحكومة العسكرية في اندونسيا عام 65 والتي قتل فيها ما يقرب من مليوم شخص في اقل من سنة والان بعد كل هذه السنوات الطويلة يعود أنور احد رجال العصابات التي اشتركت في القتل لكي يعيدوا تمثيل ما كانوا يفعلونه قبل اربعين عاما ويتوازي السرد في الفيلم ما بين استمرارية العقيدة القتالية الخاصة بالقضاء على الشيوعيون كما حد في الستينيات وبين اعادة تمثيل ما كان يحدث وقتها بشكل هزلي او كاريكاتوري مما يولد رؤية عبثية عن الأنسانية وسهولة فعل القتل لديها فانور واصدقائه الذين صدر عنهم عفو عام-تماما مثل اسعد شفتري بطل فيلم ليالي بلا نوم- يقضون وقتهم في ممارسة العاب سينمائية بصناعة افلام مستقلة وقصيرة عن انفسهم وضحاياهم في تلك الفترة وكأن ضمائرهم ماتت ولم يعد يؤثر فيهم تذكر عدد القتلى او كم الدماء التي اريقت وقتها, وكأن كل ما حدث يمكن ان يحدث مرة أخرى طالما ان الضمير الانساني لم يعد يكترث لأفعال القتلة ولا سلوكهم ولا تعني له الذاكرة أكثر من مجرد صندوق لاسترجاع تفاصيل الماضي دون ندم أو تأنيب.

الذي بالداخل
اما في مسابقة الأفلام القصيرة فنستطيع أن نرصد عنصر حضور الذات والتاريخ في اكثر من تجربة منها الفيلم الفرنسي”الرجل بالداخل”للمخرج اللبناني كريم جوري  ولاذي يدور عن محاولة المخرج العثور على الطريق إلى ذكرى ابيه عبر تتبع جانبا من حياته التي قضاها في الكويت.
يتعامل كريم مع الفيلم وكأنه سرد حر طويل يحكي فيه عن علاقته بأبيه من خلال ما تبقى من ذكريات الأب سواء المسجلة على شرائط كاسيت او بعض الخطابات مستخداما كل اساليب الحضور بدءا من التعليق الصوتي الداخلي مرورا بتصوير نفسه وحركته امام الكاميرا, يذكرنا فيلم كريم بتيمة رواية الطريق الشهيرة لنجيب محفوظ, بحث الأبن عن ابيه اذي يمثل له قيما تتجاوز المعنى الأسري الضيق إلى المعنى الأنساني الواسع والذي يتماس بشدة مع فكرة الهوية فكريم يبدو خليطا كوزموبوليتانيا فالأب مصري والأم غير مصرية والنشأة فرنسية, في مشهد يمثل ذروة التيمة الخاصة بالفيلم يضع كريم خطابات ابيه على الأرض في شكل مستقيم ثم يسير عليها وكأنه يحاول من خلال تقصيه لذكريات ابيه وتفاصيله أن يعثر على الطريق إليه.
ولا شك أن فيلم كريم يحتوي بالطبع على الحضور الواضح ل”ذات التاريخ” فالأب رغم رحيله قبل سنوات يبدو اكثر حياة من كريم نفسه وذلك عبر حشد كريم للعديد من التسجيلات والخطابات والصور التي تعيد بعث الأب مرة اخرى بتفاصيله الحياتية ومواقفه الشخصية وذلك معنويا عبر ما يسرده من احداث وماديا عبر صوته في شرائط الكاسيت وصوره العديدة.

الرجل بالداخل لكريم جوري

التاريخ هنا هو تاريخ الأب الشخصي ولكن قوة الفيلم في أن هذا التاريخ الشخصي جدا تحيل المتلقي عبر ذات المخرج إلى فكرة العلاقة مع الأصول التي تعيش في داخلنا, يجبر الفيلم متلقيه على حالة من التداعي الحر مع ذكريات كل منا عن ابيه وتدريجيا عن اصوله وهويته وكيف بدأ وإلى ما انتهى وكيف كانت حياته يمكن ان تستمر لو تتحول بناء على قرارات هذا الأب في فترة زمنية ما.
ونفس اسئلة الهوية التي يفرضها حضور الذات وقوة التاريخ نجدها في الفيلم المصري بورتريه شخصي للمخرجة علياء أيمن والحائز على جائزة لجنة التحكيم الخاصة, ومن اسم الفيلم يبدو الحضور الذاتي جدا والتأثر بالتاريخ الخاص جدا لأسرة المخرجة التي تصنع فيلمها في شكل صورة شخصية لها من الداخل أي كأنها تفصح لنا عن”انا الذي بالداخل” وليس عن صورتها الخارجية التي يريد البعض أن يراها على مزاجه سواء كان هذا البعض هم اسرتها أو المجتمع.
في سرد اقرب للتجريب تتحرك علياء داخل وخارج ذاتها في نفس الوقت ما بين مصر حيث تعيش وامريكا حيث نشأت وتربت نتيجة قرار من اهلها, لا تحكي علياء عن تاريخها مع اسرتها ولكنها ترسم لنا صورة عن هذا التاريخ عبر تأثيره الأني والحاضر عليها, تشطح في التصورات البصرية عما تمثله رؤية الأخرين الأخرين وعن رؤيتها هي لذاتها واحساسها بنفسها.
تنقض علياء عبر ذاتها الحرة داخل الفضاء الفيلمي على كل التابوهات التي تؤرقها وتؤرق من يعانون مثلها من أزمة الهوية والبحث عن الذات, تحاول من خلال مونتاج حاد ولقطات فوق واقعية تشتبك مع اللقطات الواقعية أن تسقط مخاوفها من كل الممنوعات وتصارح نفسها قبل أن تصارح اسرتها وتاريخها الشخصي بحقيقة ما تريد وما تحبه وما ترغب به وما تأمله لنفسها, ترتدي الحجاب في بعض اللقطات لترى ذاتها وهي محتجبة عن نفسها رغم رضا اهلها عن هذا الشكل  وتخلع الحجاب لترى ذاتها على حقيقتها رغم كره المجتمع لذلك.
ولا نجد ما يمكن أن نختم به حديثنا عن تلك التجارب إلا ان نسترجع قول الاديب الكبير نجيب محفوظ الذي تحدث عن علاقة ذات المبدع بذات التاريخ عندما قال : أن المعاصر هو اسوأ مؤرخ فلندع التاريخ للتاريخ, هنا تبدو علاقة الذوات المبدعة للمخرجين اقرب لعلاقة التاريخ بالتاريخ لأنهم يأتون بتجاربهم وافلامهم كي يعيدوا قراءة ازمنة فائتة سواء شخصية او عامة لم يعاصروها ولكنهم كانوا ولا يزالون يتأثرون بها ويعيشون في تفاصيلها التي تركت بصماتها على ارواحهم ومستقبلهم.


إعلان