رموز الوثائقي.. تراث قرن من الفن الجميل

بدأت السينما وثائقية أو شيء يشبه الوثائقي.. بدأت بتصوير الواقع كما هو. لقد كان فتحا عظيما في تاريخ البشرية، عندما استطاع البشر لأول مرة مع الأخوين لوميير أن يسيطروا على الواقع الذي تراه العين ويذهب نحو أثير الذاكرة، ليصبح واقعا قابلا للاستعادة على اسطوانة داخل صندوق أسود.
كان هذا الاختراع حاسما في التاريخ المعاصر ولأنه كان حاسما كان سريع التطور وشديد الخطورة أيضا. فلم تمض سنوات قليلة بعد اختراع الكاميرا في نهاية القرن التاسع عشر حتى أصبحت السينما مولودا جديدا ينمو في رحم الثقافة البشرية. لنصل إلى العشرينات من القرن الماضي ونجد أنفسنا أمام إبداع جديد اسمه الفيلم. ولحسن الحظ، أو لسوئه، كان هذا الفيلم تسجيليا أو وثائقيا، بحسب توجهات الترجمة العربية واختيار المطلوب منها عند المنظرين والنقاد.
وبما أن لكل فن ميراث ورموز، فإن الفيلم الوثائقي له رموزه المؤسسون وكذلك المجددون. فيعتبر الأمريكي فلاهيرتي أب الوثائقي الذي أنجز فيلم نانوك عندما رصد الحياة اليومية في إحدى قبائل الإسكيمو. كان هذا الفيلم ولا يزال أول مرجع للسينما الوثائقية. يحسب لفلاهيرتي أن كوّن تلاميذ واصلوا دربه في الولايات المتحدة وخارجها. وإذا كان فلاهيرتي متوجا كأب روحي للوثائقي فإن السكوتلاندي جان غريرسون هو المربي الفعلي لهذا الجنس السينمائي.
ثم في الضفة الشرقية من الأرض كان اسم دزيغا فيرتوف يعلن عن ميلاد مدرسة روسية سيكون لها شأن في السينما عموما وفي السينما الوثائقية خصوصا، طيلة القرن العشرين. وكان فيلمه “الرجل مع الكاميرا” تجربة فريدة في تاريخ السينما. ثم اقتفى أثر هذا التأسيس، مجموعة من المخرجين الذين كان لهم شرف الخط في طريق جديد لينيروا الدرب لمن سيخلفهم في هذا السبيل. فأبدع سيرغي أيزينشتاين -مواطن فيرتوف- رائعته “المدرعة بوتمكين” سنة 1925 .
منذ الثلاثينات والعقود التي تليها، بدأت السينما تفرض نفسها في العالم كمنتوج ثقافي جديد بل وكصناعة لها مستقبل. وفي كل هذا التطور كان الوثائقي في صميم الحركة السينمائية في التاريخ المعاصر. فكان الوثائقي وسيلة للدعاية الاقتصادية وأيضا للدعاية السياسية. كما كان سلاحا عند الحروب فاستعمل الوثائقي كوسيلة بروباغاندا للدولة وللزعيم سواء في الاتحاد السوفياتي الشيوعي أو في ألمانيا النازية. وبقطع النظر عن المضمون الإيديولوجي كانت أحداث العالم الرهيبة تلك، مساحة لتطور الوثائقي وإبداع الكثير من المخرجين.
هذه الوظائف التي حققها الوثائقي سواء كانت فنية جمالية أو سياسية أو ظرفية أو اقتصادية أفرزت رؤية جمالية وأشكالا تجريبية. وبالتالي اكتسب الوثائقي صبغته الفنية وأصبح فنا يقوم على مفهوم الشكل والمضمون والوظيفة مثله مثل الشعر والمسرح وغيرها من الفنون. ولأنه احتل موطئ قادم في عالم الفنون فإنه سيكون محل تنظير وتجريب ونقد وتجاوز. فطُرحت كثير من المفاهيم ولا زال الكثير يُطرح منها إلى اليوم. مثل مفهوم الواقع والحقيقة في الفيلم الوثائقي أو مفهوم الجمال هل هو في الواقع أم في من يصنع الواقع صورةً..
إن كلاًّ من الحيوية الإنتاجية للفيلم الوثائقي والتطور السريع للسينما -تقنية وتنظيرا- وتنوع المدارس الجمالية المرتكزة على الفلسفات الحديثة والتي اخترقت الفنون، هي عوامل حاسمة في تطور الوثائقي وانتشاره عالميا. وزجت به للانخراط في شتى الهموم الفكرية والاجتماعية في أصقاع الأرض. فمن وثائقيات جان روش الفرنسي مثلا وصولا إلى وثائقيات مايكل مور حاليا كانت تصب ضمن وثائقيات الانتصار إلى الشعوب والإنسان المعاصر الذي يذهب ضحية تلاعب القوى الكبرى المحلية والعالمية في مصيره. ومنذ أن تسمى الوثائقي في بدايته بالفيلم الثقافي أو التعليمي إلى اليوم مرورا بأفلام جان كوستو كان الوثائقي رأس الحربة ف�� استكشاف العالم من كل جوانبه الطبيعية والعلمية والثقافية والعرقية.
هذا العدد من المجلة يحاول أن يسلط الضوء على أهم الأسماء اللامعة في تاريخ الفيلم الوثائقي ماضيا وحاضرا. كما تتعرض بعض مقالاته إلى تاريخ الإشكالات الفنية والجمالية وحتى الفلسفية لمخاضات التجارب الوثائقية الكبرى. وسيجد القارئ الكثير من المعلومات المرتبطة بأسماء مهمة وأصبحت عبر الزمن مرجعيات في هذا الفن. يحاول هذا العدد أن يقدم بانوراما شاملة لحوالي قرن من الميراث الوثائقي العالمي بالتوقف عند أهم المحطات والشخصيات والإبداعات.