… ونجح رهان السينمات العربية في بمرسيليا

أحمد بوغابة / فرنسا

“اللقاءات الدولية للسينمات العربية” التي احتضنتها مدينة مرسيليا (جنوب فرنسا) من 28 مايو إلى 2 يونيو الجاري لا تشبه التظاهرات الأخرى باعتبارها جاءت بكثير من الجديد في رؤيتها واستراتيجيتها. وبالتالي لا يمكن اعتبار حفل يوم الثاني يونيو كاختتام للتظاهرة في انتظار الدورة المقبلة وإنما بداية للعمل طيلة السنة. لهذا حمل إسم “اللقاءات” صيغة الجمع وليس فقط ملتقى محدد في المكان والزمن. الهدف هو أن تمتد تلك اللقاءات نحو أقطار عربية أخرى بها مؤسسات سينمائية مدنية تجمعها بها علاقة ثقافية وفنية، وتتقاسم معها نفس الهموم في الترويج للفيلم العربي وتطويره فنيا، لخلق شبكة تعاونية في الأهداف المذكورة مثل الخزانة السينمائية بطنجة ومهرجان بجاية بالجزائر والخزانة السينمائية بالقاهرة – التي ستفتح أبوابها قريبا – وكذا قاعة ميتروبوليس ببيروت – وهي قاعة الفن والتجربة – في انتظار إلتحاق أخرى بهذه الحركة السينمائية الوليدة التي مازالت في طور التأسيس كشركاء فِعْلِيين في اللقاءات وفي اختيار الأفلام التي سيعرضونها في فضاءاتهم حسب متطلباتهم ورغبات جمهورهم. وعليه فهذا لا يعني إطلاقا أن اللقاءات ستترحل بكل مضمونها وبرامجها بين الفضاءات المذكورة إذ لكل منها حرية اختيار ما يناسبها لكن يبقى الهدف هو تمديد حياة الأفلام بعرضها على الجمهور. ويمكن أن تقترح بدورها أفلاما للقاءات بمرسيليا. 
كما شملت صيغة الجمع أيضا السينما نفسها باعتبار أن السينما العربية متعددة في كل أبعادها وليست متجانسة في دائرة واحدة كما يعتقد الكثيرون ويفرضون عليها تعسفا لونا واحدا وهي الغنية باختلافاتها: تاريخها، لهجاتها، مؤسساتها، مواضيعها… إلى آخره. وتبقى الخريطة الجغرافية هي القاسم المشترك الوحيد بينها. حين تشاهد كثير من الأفلام المُنتجة في هذه الخريطة تظهر بشكل جلي تلك الفواصل ذات أهمية قصوى في التحليل السينمائي وما جاوره. وتظهر أكثر حين نتوقف عند سينمات جديدة ظهرت في السنين الأخيرة كالأمازيغية والكردية… احتوى البرنامج على أفلام تمثل تقريبا جميع الجنسيات العربية، من المغرب والجزائر وتونس إلى الإمارات العربية واليمن والسعودية مرورا بمصر وسوريا ولبنان ووصولا إلى العراق.

حملت اللقاءات الأولى للسينمات العربية بمرسيليا الأسئلة المذكورة أعلاه وطرحتها في ندوات وأيضا عند مناقشة الأفلام المُبرمجة، وفي كل لحظة من لحظات التظاهرة، خاصة وأن النقاشات لم تتم بين العرب فقط وإنما بمشاركة مكثفة وعلمية من لدن الأوروبيين: سينمائيين ونقاد وصحفيين ومثقفين وجمهور متتبع ومهتم وفاعل في جو حر وهو ما ميزها عن غيرها التي عادة ما يكون النقاش يدور بين العرب أنفسهم. فقد صرح لنا المدير الفني للقاءات، الناقد التونسي الطاهر الشيخاوي، بأن النتائج الإيجابية فاقت إنتظاراته وتخوفاته التي كانت لديه عند الإعداد خوفا من أن تسقط التجربة في التكرار والملل أو ينبذها الجمهور. إلا أن هذا الجمهور كان في الموعد وهو عمل طويل النفس أسسته “جمعية أفلام” طيلة عقد من وجودها يؤكد الطاهر الشيخاوي.
إذا كانت بلدية مرسيليا لا ترى بعين الرضى لهذه التظاهرة لكونها عربية بينما تساند تظاهرات أخرى ذات جنسيات مختلفة فإن العكس بالنسبة للجهة التي دعمت اللقاءات جيدا. كما وجدت في المناسبة الأوروبية المتمثلة في كون مدينة مرسيليا هي عاصمة الثقافة الأوروبية لسنة 2013 دعما حقيقيا. لقد استغرق التفكير في هذا المشروع الثقافي الفني المتمثل في تنظيم تظاهرة سينمائية عربية كبيرة يرجع إلى أزيد من أربع سنوات. وكان التفكير ينكب حينها على أن يكون مهرجانا تنافسيا يتضمن  مسابقة على شاكلة باقي المهرجانات إلا أن الإمكانيات الكبيرة التي يتطلبها حسب ما أكده ايضا لنا المدير الفني حالت دون ذلك من قبل بينما فضل هو – الطاهر الشيخاوي – الاشتغال على الجوانب الثقافية حين إلتحق بفريق العمل في بداية السنة الجارية بالتخلي عن فكرة المسابقة.

“اللقاءات الدولية”: تتويج لنجاح “جمعية أفلام”

تقف “جمعية أفلام” وراء هذا المشروع. وهي جمعية فرنسية تأسست سنة 2000 وتهتم بالسينما العربية بالعرض والدعم والترويج وخلق مناسبات كثيرة يلتقي فيها السينمائيون العرب مع زملائهم الفرنسيين. وقد أصبحت “جمعية أفلام” مرجعا في المنطقة (سبق أن عَرَّفْتُ بها في نصوص سابقة بموقع الجزيرة الوثائقية) ليس بنظرة خارجية أو فوقية بل بوجود صُنَّاعِها الفنيين والمفكرين فيها.
حضر افتتاح الدورة الأولى من هذه اللقاءات وزير الثقافة السابق في عهد الرئيس فرانسوا ميتيران والرئيس الحالي للمعهد العربي بباريس السيد جاك لانغ لدعم التظاهرة واعتبارها خطوة أساسية ومهمة في المرحة الراهنة مؤكدا في كلمة له أنه سيبقى وفيا لها مستقبلا وأن حضوره في انطلاق الدورة الأولى هو لاصطحاب هذا المولود الجميل. وهو نفس الكلام الذي ذكره أيضا في جلسة خاصة مسائية مع السينمائيين والنقاد ضيوف اللقاءات قبل انطلاقها والتي كان هدفها هو الحديث عن موقع هذه التظاهرة والسينمات العربية من خلال تبادله النقاش حولها ورغبته في إعادة إحياء مهرجان السينما العربية الذي كان المعهد العالم العربي ينظمه في التسعينات من القرن الماضي (توقفت سنة 2002). ويريد السيد جاك لانغ أن يتعاون في هذا الإطار مع “جمعية أفلام” و”اللقاءات الدولية للسينمات العربية” بالبحث عن السبل الممكنة للتنسيق فيها. تركز النقاش طبعا على السينمات العربية وإنتاجاتها وروادها الذين تربطه ببعضهم علاقة صداقة كيوسف شاهين ويسري نصر الله. إن حضور السيد جاك لانغ في افتتاح التظاهرة رسميا والنقاش السابق له هو بمثابة دعم مفتوح لإنجاح هذه المبادرة القيمة.
كان فيلم الافتتاح من المغرب بعنوان “بيع الموت” لفوزي بن السعيدي وبحضوره لكونه يمثل سينما جديدة وجيل جديد من المخرجين العرب والذي حصل به على مجموعة من الجوائز من مهرجانات كبيرة ولها مصداقيتها. وهذا العرض هو أيضا إلتفاتة تكريمية للسينما المغربية التي احتلت مكانة متقدمة في السينمات العربية في العقد الأخير بتنوعها وتطورها إنتاجا وإبداعا وتسويقا.
لقد تم التفكير في البرمجة بعناية فائقة امتدت على طول الخريطة العربية كما أسلفنا القول أعلاه حتى تتكون عند الجمهور الفرنسي بمدينة مرسيليا ونواحيها نظرة شبه متكاملة حول الإنتاج السينمائي في هذه الخريطة. كما تم التفكير أيضا في المبدعين المقيمين خارجها. ليس في أوروبا وحدها بل أيضا في كندا وآسيا.

ولابد من التأكيد بأن هذه التظاهرة لا تشمل على المسابقة إذ يقول لنا الناقد الطاهر الشيخاوي، مديرها الفني، بأنهم – في “جمعية أفلام” – فكروا كثيرا في الأمر فلا يريدون أن تكون لقاءاتهم منافسة بين المبدعين بقدر ما يريدونها فضاء للتفكير في السينما على نفس قدر المستوى في ما بين المشاركين وهو ما أعطى لها تلك الحميمية والحرية في التداول والنقاش والحوار. ويضيف الطاهر الشيخاوي، في نقاشنا معه، بأن هناك ما يكفي من المهرجانات في أوروبا والأقطار العربية التي تتضمن المسابقات وبالتالي فلا يرى أن لقاءات مرسيليا ستضيف شيئا جديدا على هذا المستوى لذلك لا يريد أن يتشتت الجهد في قضايا يعتبرها هامشية وليست من أولويات اللقاءات بل يريد التركيز على السينما والإبداع والفكر وثقافة الحوار أساسا بغرض الوصول إلى أجوبة تساعد الفيلم العربي على وجود سوق له عادية في أوروبا.
توزعت العروض على أربع فضاءات: قاعة فارييتي ومقر الجهة والمركز البيداغوجي وفيلا المتوسط كفضاء جديد بالمدينة تم تدشينه بمناسبة احتفالات مرسيليا عاصمة الثقافة الأوروبية. كان عليها كلها الإقبال في مختلف العروض والساعات التي تبدأ مع الثانية بعد الزوال (بعضها في الساعة 11 صباحا) وتنتهي في ساعة متأخرة من الليل خاصة وأن وسائل النقل العمومية تبقى بدورها ساهرة بالحدث الذي تعيشه المدينة. كما لاحظت الرغبة القوية للحضور لمناقشة الأفلام مع مخرجيها ومنتجيها وهم من أعمار مختلفة. نقاش يمس السينما كما يمس في ذات الوقت الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية للأقطار العربية. جمهور يريد أن يعرف أكثر جيرانه في الضفة الجنوبية من حوض المتوسط ويقترب إليهم ليفهمهم، وكثيرون من تلك الأصول يعيشون بينهم. وهذه النقطة برزت جليا في المسابقة التي جرت حول قراءة النصوص العربية من لدن تلاميذ، وهذه القراءات العربية قد دشنتها “جمعية أفلام” منذ شهر شتمبر الماضي الموازية لعروضها السينمائية الخاصة بالتلاميذ في المدارس والثانويات.

البحث عن الجمهور… عوض انتظاره

نجح المنظمون في الدورة الأولى من استقطاب جمهور كبير وواسع ومتنوع، من أعمار ومستويات علمية مختلفة، إلى مختلف القاعات لأنهم لم يقتصروا على الإعلان والإشهار بمحتويات التظاهرة فقط وتنظيم ندوات صحفية للإخبار بها بل ذهبوا للبحث عن جمهورهم في كل الأمكنة الممكنة والمفترضة أن يوجدوهم بها. وهي ممارسة حضارية في التواصل حيث انتقلوا إلى الأحياء الشعبية المحيطة بالمدينة، وإلى المؤسسات التعليمية والخيرية والمراكز الاجتماعية وكل مكان تجمع بشري للتعريف بالتظاهرة وبرامجها من جهة ومن جهة أخرى تشجيع الناس على المشاركة إذ وضعت إدارة اللقاءات تحت تصرفهم وحسب إمكانيات كل فئة تذاكر وجوازات بتعريفات تناسبهم طيلة التظاهرة. وهكذا لاحظنا حضور أفواج من الجمهور يتابع عن كثب عروض الأفلام. وشارك الشباب والمراهقين في المناقشات التي تلي العروض إلى حد أنه أحيانا يستمر خارج القاعات بينهم نظرا لتجاذبهم واختلافهم.
وعلى ذكر الشباب والمراهقين فقد أُسندت لهم مهمة إعداد النشرات اليومية للقاءات التي كانت تحضر في موعدها كل صباح، فيها قراءات في الأفلام المعروضة وحوارات مع المخرجين وأخبار البرنامج اليومي والتعاليق حيث وجدوا فيها مساحة من النشاط الفكري ومتعة جميلة من لحظات المهرجان.
ومن الإبداعات الجديدة لهذه اللقاءات التي لم يسبق لي أن صادفتها في تظاهرة أخرى حيث لأول مرة أكتشفها وهو خوض مجموعة من المصورين تجربة فريدة من نوعها المتجسدة في أخذ الصور للجمهور مباشرة بعد خروجهم من عروض الأفلام كشكل من أشكال التعبير. فعوض أن يعبروا بالكلام كما جرت العادة أمام الكاميرات التلفزيونية والميكرفونات الإذاعية فقد تم اختيار عدسات المصورين لتلقط تعابير الوجوه كانعكاس للمشاهدة عند خروجهم مباشرة من القاعة (أنظر نموذج من الصور).

صورة مركبة لجزء من الحضور

تعمد المهرجان في تركيزه على المخرجين الشباب دون أن يغفل الكبار سواء في أفلامهم القصيرة أو الطويلة أو الوثائقية. كما نجح أيضا في الجمع بين الأجيال دون أن يخلق صراعات هامشية بل نقاشا مثمرا ومتكاملا حضرت فيه السينما أكثر من أي شيء آخر وذلك خلال النقاشات الصباحية اليومية التي كانت موعدا جميلا حقا ومتعة ثقافية تفتح شهية فكرية تمتد طيلة اليوم مع عروض الأفلام ومناقشتها وتستمر على هامشها في مختلف أمكنة المهرجان فكانت فعلا لقاءات بصيغة الجمع في مضمونها وسمحت بربط علاقات مباشرة بعد ذلك بتعميق النقاش في مجموعات تتشكل حسب المواضيع. وبتلك اللقاءات الصباحية تم نسج علاقات مهنية ومشاريع مستقبلية لتكون التظاهرة قد خلقت أجواء مناسبة وسهلتها لتعيش للمستقبل ولا تنتهي بانتهاء التظاهرة.
شملت النقاشات الصباحية مواضيع مختلفة تهم السينمات العربية في علاقتها ببعضها وبالأقطار الأوروبية، خاصة فرنسا، منها التوزيع والاستغلال والقاعات السينمائية والإنتاج المشترك. كما تم التطرق أيضا إلى النقد السينمائي ووظيفته في ظل تطور الوسائل الإعلامية الجديدة وانتشارها وسهولتها وعن نكوص هذا النقد وتراجعه. وتم أيضا تخصيص جلسة عن السينما التي نريدها اليوم مع تطور الوسائل التقنية التي فجرت سوق الإنتاج وتوفير الصور وعن معنى الفيلم السينمائي الآن. وأيضا مكانة الفيلم الوثائقي ومختلف الأجناس السينمائية. وأسئلة أخرى كثيرة تداولها الحضور بجدية في أمل صياغة معرفة جديدة للسينما المستقبل التي ستكون بالتأكيد مغايرة شكلا ومضمونا.
كنت أتأمل كثيرا تلك النقاشات وأقارنها بالتي نعقدها في أقطارنا العربية التي لا نخرج منها بنتائج إيجابية إذ في الغالب تكون روتينية ومكررة ولا تحمل أراء واضحة وفي كثير من الأحيان تنتهي بدون هدف. بينما وجدت نفسي هنا في اللقاءات السينمائية بمرسيليا أمام متدخلين في مستوى عال جدا من المسؤولية. لا نفاق فيها إطلاقا. فلا شك أن ذلك يرجع إلى أجواء الحرية المحاطة بمجتمع يناقش بدون تردد أو حرج. كما أن المؤطرين للنقاش بالكلمات التي قدموها حول كل موضوع دفعت إلى التفكير العميق في الأسئلة المطروحة. إن المتعة الثقافية في السينما التي خلقتها اللقاءات خلال هذه الأيام تدفع بتشطيب المسلمات من الماضي وأن السينما فن حيوي يتطور باستمرار فينبغي مواكبته وإلا تجاوزنا الركب فنبقى في مؤخرة التاريخ.
تضمن البرنامج اللقاءات الدولية للسينمات العربية 51 فيلما روائيا ووثائقيا طويلا وقصيرا تم عرضها 64 عرضا فضلا عن 6 عروض للائحة الأفلام القصيرة ضمن ثلاث مجموعات. كل الأفلام كانت ناطقة بالعربية مصحوبة بسطرجة بالفرنسية إلا إثنين أو ثلاثة أفلام ناطقة بالفرنسية وذلك في 5 فضاءات إلى جانب 5 لقاءات حوارية خلال 6 أيام. ونشير إلى أن كل عرض كان يليه النقاش مباشرة أينما عُرض وكلما تم إعادة عرضه أيضا إذ كل مرة يكون الجمهور مختلف باختلاف فضاء العرض زيادة على العروض الخاصة بالتلاميذ في إطار ورشات التحليل. وكان يشرف على تأطير النقاش مع الجمهور وإدارته مجموعة من النقاد العرب والفرنسيين صحبة المخرجين أو المنتجين فكان ثريا بحكم الثقافة السينمائية المنتشرة في المجتمع الفرنسي فيحصل التفاعل للاستفادة المتبادلة. إن الأفلام المختارة في هذه اللقاءات تمثل تنوع الإنتاجات العربية في مضامينها وأشكالها الإبداعية.
يمكننا القول بأن عناصر تاريخية وجغرافية كثيرة تؤهل مدينة مرسيليا لتكون المكان الذي يستقبل هذه التظاهرة غير التنافسية كمجال للقاء والحوار وهو ما أكده الجمهور عمليا بالرد على بعض الساسة الفرنسيين المسؤولين على المدينة لمعارضتهم مثل هذه الأحداث التي تجمع أطياف الناس حول قضايا إيجابية ودحض التخوفات المُفبركة بدون أساس.           


إعلان