موسى حداد يعود بـ”حراقة بلوز”

الحديث عن الضفة الأخرى والهجرة بحثا عن حياة أفضل ومستقبل أحسن بدأ من كنيسة السيدة الإفريقية ( كاتدرائية كاثوليكية تأسست سنة 1872) الواقعة بأعالي العاصمة الجزائر والمطلة على الواجهة البحرية لها كلقطة أولى استفتح بها “موسى حداد” آخر أفلامه والذي اختار له اسم “حرا?ة بلوز”، العمل السينمائي المطول الذي قدم عرضه الوطني الأول بالعاصمة الجزائر بعد أن أخذ من الجهد أربع سنوات ومن الميزانية 70 مليون دينار جزائري، وهو ما اعتبرته كاتبة السيناريو “أمينة بجاوي حداد” ميزانية متواضعة… -كتواضع العمل- الذي عرض على الجمهور الجزائري بعد طول انتظار لكنه في حقيقة الأمر لم يكن متواضعا بقدر ما كان ضعيفا على أكثر من مستوى ولا يعكس مكانة واسم المخرج “موسى حداد” الذي اشتغل مساعدا للإيطالي “جيلو بونتيكورفو” في الفيلم الشهير “معركة الجزائر” سنة 1966، وفي رصيده العديد من الأعمال الناجحة.
حب، هجرة و قيم إنسانية
موسى حداد عقب العرض المخصص للصحافة والذي لم يحض بتغطية إعلامية كبيرة مثل العروض السينمائية السابقة ربما لتزامنه واللقاءات السينمائية لبجاية والعديد من التظاهرات الثقافية الأخرى، قال إنه لم يكن يريد التركيز على الهجرة غير الشرعية بقدر ما كان يرغب في ترجمة بعض الأحاسيس، والقيم الإنسانية والأحلام الشبابية وتقديم متعة سينمائية للمشاهد بعد أن غاب عنه لعشرية كاملة تقريبا، فقد كان الحب والهجرة الحلقة التي تشكل وتكون منها الفيلم (110 دقيقة) غير أنه هذه المرة اختار أن يكون بطل فيلمه (الحرا? أو المهاجر الغير شرعي) من عائلة ميسورة الحال لديه أساسيات الحياة لكنه يبحث عن كمالياتها، وهو ما ميز الشخصية الرئيسة مقارنة بأفلام أخرى تناولت نفس الموضوع كفيلم “حرا?ة” ل”مرزاق علواش” وأظهرت أن من يلقي بنفسه في عرض البحر ويسبق أحلامه التي تتحول إلى كوابيس يكون دائما من عائلة فقيرة عكس “الزين” (كريم حمزاوي) الوجه الجديد الذي اقترحه حداد على الجمهور والذي بدا مقنعا في أدائه، فقد كان يملك هذا الأخير سيارة وعملا مما يوحي بأن حالته المادية لا بأس بها ولكنه رغم ذلك يريد الذهاب إلى اسبانيا (وهنا لم يظهر المخرج الأسباب التي تجعل بطله يقدم على هذه الخطوة) ليعود إلى بلده والزواج من حبيبته زولا (موني بوعلام) خريجة مسرح قسنطينة الجهوي والتي غلب على أدائها التمثيل المسرحي، لكن رياح البحر وأمواجه تعيد الناقم على وضعه إلى دياره بعد توقف القارب المستأجر من إحدى العصابات قبالة السواحل الاسبانية، فيعيده ورفاقه حراس السواحل إلى السلطات الجزائرية أحياء بعد نجاتهم من الموت الأكيد، لكن المخرج كاتب السيناريو في نفس الوقت لم يقنع المشاهد بمدى خطورة الوضع والمحاولة معا، وهو ما استدركته فعلا ملامح الممثل وأصدقاؤه الذين يمثلون نماذج مختلفة لشباب الجزائر بين متدين وفنان وبطال وما إلى ذلك، وهنا تجدر الإشارة إلى أن بعض المشاهد حملت رسائل حول الوضعية التي يعيشها الفنان بالجزائر، وبعد فشل محاولة الهروب بحرا إلى الضفة الأخرى يقرر “الزين” عدم التفكير في تكرار المحاولة ثانية.
وكان للزين صديق مقرب يدعى ريان (زكريا رمضان) قاسمه دور البطولة عكس من خلالهما شخصيته بعض القيم الإنسانية والصداقة القوية التي لا تتأثر بأي رياح إلا لما يتعلق الأمر بالهجرة، الحلم المشترك لكلاهما لكنها تمر كسحابة صيف عابرة، فقد جاءت شخصية ريان لتمثل الشباب الجزائري الطموح، المتخلف والهادئ الذي لا يزال متمسكا بالكثير من المبادئ الإنسانية وتبين ذلك من خلال العلاقة الجيدة التي تربطه بزوجة أبيه التي تضطر لإجراء عملية جراحية ولا تجد المال الكافي لإجرائها، ليبادر ريان -الذي كان يتحضر ليلتها للهجرة سرا إلى اسبانيا بعدما فشل صديقه في إقناعه بعدم القيام بذلك- على دفع مستحقات العملية من ميراث والدته وفي ذلك تأكيد على تفوق الإنسانية على المصلحة الشخصية للشباب، غير أن “زكريا رمضان” كان أقل تفوقا في أدائه التمثيلي مقارنة بـ”كريم حمزاوي” الذي كشف عن طاقات جيدة إن وجدت من يؤطرها.

موسى حداد وقصة الوفاء
غاب عنصر المفاجأة والتشويق، وحضرت المشاهد الطويلة التي لم تخدم العمل ولم تضف له أشياء كثيرة، أما بالنسبة لأداء بعض الممثلين الجدد الذين منحهم موسى حداد فرصة الظهور لأول مرة فلم يكن موفقا مما أثر على مصداقية المشاهد المطروحة أمام الجمهور خاصة وأن الفيلم يطرح قيم إنسانية وتجارب تستوجب التمعن وأخذ العبر ودروس مهمة، خاصة للشباب الذي يعتقد أن القارب الذي لا يصلح حتى لصيد الأسماك بإمكانه إيصالهم إلى بر الأمان، بينما كان أداء الممثلين المحترفين كالفنانين القديرين “أحمد بن عيسى” و”حسن بن زراري” وبشكل أخص “رانية سيروتي” أكثر صدقا وملامسة لمشاعر الجمهور، ويحسب للمخرج أيضا سعيه التسويق لصورة جميلة عن الجزائر بمناطقها السياحية من خلال بعض القطات الذكية التي أبرزت فعلا جمال الطبيعة الجزائرية، كما بدا مخرج “أبناء نوفمبر” وفيا لبعض المشاهد التي كانت تتشابه إلى حد كبير بين آخر أفلامه “ماد إين” و”حرا?ة بلوز”، إلا أن هذا لم يكن الشيء الوحيد الذي كان وفيا له حداد فلو عدنا إلى الوراء 40 سنة تقريبا وبالضبط إلى شخصية المفتش الطاهر ومساعده لابرانتي” وبين شخصية “ريان والزين” نجد أنه متمسك ووفي كل الوفاء للصداقة التي تجمع صديقين اثنين بعيدا عن كل المصالح، ويواصل مخرج أول فيديو كليب للفرقة الجزائرية الشهيرة “راينا راي” وفاءه حيث عاد مجددا للتعاون مع عازف الفرقة الفنان “لطفي عطار” ما أثمر تعاون مهندس الصوت والصورة توليفة موسيقية رائعة أضفت على العمل جمالية تتناسب والطرح الشبابي المقدم، وسيتأكد الجمهور من ذلك وهو يتابع الفيلم خلال الجولة التي سيقوم بها في حوالي 16 ولاية، وفي سياق ذي صلة قالت السيناريست وزوجة المخرج “أمينة بجاوي حداد” أنها كانت تتمنى توسيع العروض لتصل إلى كل الجماهير بالوطن لكن مشكل قاعات السينما حال دون ذلك.
بين المفتش الطاهر، أبناء نوفمبر و حرا?ة بلوز
العديد من المشاريع السينمائية اليوم سواء لمخرجين شباب أو مخضرمين باتت تصاحبها ضجة واسعة النطاق توحي بأننا سنشاهد أفلام سينمائية كبيرة كبر صنّاعها ومخرجيها، أحاديث تجعل معنوياتنا ترتفع على أمل أنها ستعيد للسينما الجزائرية بريقها وتعيدها لمكانتها التي كانت عليها أيام موسى حداد، محمد لخضر حمينة، أحمد راشدي وآخرون، لكننا سرعان ما نواجه الواقع ونصطدم بنتائج مخيبة للآمال تجهض كل ما قيل عنها قبلا. كلام ينطبق على آخر أفلام المخرج المخضرم موسى حداد الذي يعتبر من القامات السينمائية البارزة والتي لها رصيد مشرّف جدا لا يزال محط اهتمام ومتابعة الجمهور الجزائري إلى غاية يومنا هذا ولا أحد يعترض عن الكلام إن استشهدنا بـ”عطلة المفتش الطاهر” المنتج سنة 1972 والذي لا يزال يحقق أكبر نسبة مشاهدة ونفس الصدى وكأنه يشاهد لأول مرة، فمثل هذه القفزة في الإنتاج والنوعية الغير متوقعة من موسى حداد الذي عمل مع كبار الممثلين، التقنيين والمصورين، لا ترقى أبدا إلى اسم الرجل، وفي هذا المقام لا نتجرأ على القول بأنه أساء لاسمه ولتاريخه الفني لأنه يبقى من أيقونات السينما الجزائرية التي لها بصمتها لكنه بفيلمه هذا “حرا?ة بلوز” لم يكن عند تطلعات الكثيرين ولم يبل بلاء حسنا، وهذه النقطة تجلب معها مجموعة من التساؤلات، فبعيدا عن كل المشاكل والعراقيل الحقيقية كانت أم، مفتعلة يجب أن نواجه الواقع بمجموعة من الأسئلة وبكثير من الشفافية والنقد البناء بغرض الوصول إلى الجواب الكافي انطلاقا من مبدأ “لدينا كل شيء ولا نملك شيء” فالإرادة موجودة لدى الكثيرين، هناك طاقات هائلة في التمثيل، الكتابة والإخراج، فلماذا أنجزنا روائع سينمائية بمقاييس عالمية وبقليل من الإمكانيات ونجحنا فيها ؟ لماذا نسيء اليوم لتاريخنا ولسينمانا بأعمال أنجزت بميزانيات ضخمة مقابل أخرى انطلقت من العدم وصنعت أمجاد السينما الجزائرية بإرادة وعزيمة كبيرتين لكنها دخلت التاريخ ورفضت الخروج منه إلا بالتتويج و التشريف والذكر في كل لحظة وحين ؟ لماذا منحنا “كان” السعفة الذهبية واكتفينا بها ؟ وأسئلة أخرى تبحث عن جواب، أما نحن بقي لنا احتمال واحد نعلق عليه كل الآمال هل فعلا ستأتي الكمية بالنوعية …
نبدة عن موسى حداد وأبرز أعماله
ولد موسى حداد في 21 ديمسبر 1937، وعمل في بداية مشواره كمساعد مخرج بالتلفزيون الفرنسي وبالعديد من مؤسسات الإنتاج الخاصة، كما اشتغل أيضا كمساعد مخرج في فيلم “معركة الجزائر” للمخرج الايطالي “جيلو بونتيكورفو” سنة 1966، ومن أشهر أفلامه “عطلة المفتش الطاهر” (1973)، “قرب الصفصاف” (1972) شريط روائي يعد من الأفلام المرجعية لناشطي الموجة السينماتوغرافية فترة السبعينات، ومن روائعه أيضا “المفتش يقود التحقيق” (1967)، “سيجارة علي” (1970)، “الفدائيون” (1971)، “أطفال نوفمبر” (1975)، “حسان طيرو في الأدغال” (1978)، “ماد اين” (1998)، وأخرها حرا?ة بلوز (2012) سيناريو وحوار موسى حداد وأمينة بجاوي حداد.