إنتصار العزيمة :فيلم دعائيّ نازيّ
صلاح سرميني ـ باريس
(عندما كان حزبنا يضمّ سبعة أعضاء فقط، تمّسك بمبدأين : الإرادة، في المقام الأول، أن يكون بتوجهاتٍ عالمية، والحصول على السلطة المُطلقة في ألمانيا بدون تسوية….
في أجسادنا تتدفق أنقى الدماء، ونحن نُدرك ذلك، لقد قررنا الإستمرار في قيادة الأمة، ولن نتخلى عن السلطة أبداً،….سوف يكون الحزب دائماً القائد السياسيّ للشعب الألماني، لن يتغير في عقائده، إنه تنظيمٌ قويّ مثل الفولاذ، ولكنه مرنٌ، وقابلٌ للتكيّف في تكتيكه، ومع ذلك، كيانه مشابهٌ لنظام دينيّ، نطمح بأن ينضمّ كلّ الألمان إلى الحزب..).
من خطاب هتلر في “المُؤتمر السادس للحزب الوطني ـ الإشتراكي للعمال الألمان”.
***
يُعتبر “إنتصار العزيمة” فيلماً دعائياً نازياً بإمتياز، لم يكن الوحيد، الأول، أو الأخير في تاريخ السينما، أنجزته المخرجة الألمانية المُدللة “ليني ريفنستال” خلال أيام “المؤتمر السادس للحزب الوطني ـ الإشتراكي للعمال الألمان” الذي إنعقد في “نورمبرغ” عام 1934، وعُرض عام 1935 في يوم عيد ميلاد “أدولف هتلر”.
تمّ تصويره بالأبيض، والأسود، ويبدأ بشاشةٍ سوداء، وظهور تدريجيّ يكشف عن لقطةٍ كبيرة جداً تُظهر النسر الألمانيّ فارداً جناحيّه الكبيرين، واحدةٌ من الصور الأيقونيةٌ النازية، سوف تظهر في لقطاتٍ عديدة طوال مدة الفيلم (114 دقيقة)، أقلّ بكثيرٍ من الصليب المعكوف، اللازمة البصرية الأقوى في معظم اللقطات.
لا يمكن تحليل الصورة منفردةً عن الصوت الذي تمّ صياغته بإنتقائيةٍ قصوى، حيث يتضافر الجانبان، البصريّ، والصوتيّ، من أجل تحقيق الهدف الدعائيّ الذي من أجله تمّ تصوير الفيلم .
وهكذا، سوف تبدأ الموسيقى من اللقطة الأولى (قاسمٌ مشتركٌ في معظم أفلام “ريفنستال”)، نصبٌ تذكاريّ مكتوبٌ على أحد جوانب قاعدته، وبالخط القوطيّ الحديث العنوان الألماني للفيلم (Triumph des Willens) :
فيلمٌ تسجيليّ عن مؤتمر حزب الرايخ 1934
تمّ إنتاجه بأمرٍ من “أدولف هتلر” نفسه.
بعد هذه المعلومات، والفيلم نفسه، وعلى عكس الخلاف العلنيّ، أو المُضمر حول موضوعية/ذاتية “آلهة الملعب” لنفس المخرجة، لن نُجادل في إثبات دعائية “إنتصار العزيمة”، ولكن، كيف تجسّدت، وماهي المفرادات السينمائية التي أستخدمت لهذا الغرض ؟
يستخدم الفيلم في البداية لوحاتٍ تفسيرية مكتوبة، وسيلة تعفي المخرجة من الإعتماد على تعليق خارجي، وتبعده عن الأخبار الأسبوعية المُصوّرة التي كانت رائجة في تلك الفترة، وتُعرض قبل الأفلام الطويلة :
(في 5 سبتمبر عام 1934، عشرون عاماً بعد بداية الحرب العالمية الأولى، 16 سنة على بداية الألم الألماني، 19 شهراً على بداية النهضة الألمانية، ذهب “أدولف هتلر” مرةً أخرى إلى “نورنبرغ” من أجل إستعراض عسكريّ).
يبدأ الفيلم بلقطاتٍ تمّ تصويرها من داخل طائرةٍ حربية تنقل “هتلر” إلى “نورمبرغ”، تُرافقها، أو تحميها طائرات أخرى، تتأخر الكاميرا عند الغيوم، ومن ثمّ تحلق في سماء المدينة، وتظهر معالمها، وبداية وصول الفرق العسكرية إليها.
تهبط الطائرة في المطار العسكري حيث ينتظرها آلاف المُحتشدين، يرفعون أياديهم اليمنى، ويهتفون بحياة القائد.
ما هي الأسباب التي جعلت المخرجة تبدأ فيلمها من السماء ؟
هل هي حصيلة سيناريو متخيل، أو مكتوب بدقة، ويحافظ على منطقٌ سرديّ تقليديّ لإظهار تتابع زمنيّ/مكانيّ لرحلة “هتلر” من “برلين” إلى “نورنبرغ” ؟ (وكان بالإمكان البداية من لحظة وصوله إلى مطار المدينة).
هل هي الصدفة المونتاجية، رغبة في الإبهار، والعظمة، أم الإيمان (ورُبما الخبث) في منح المشهد بعداً دينياً/روحانياً يُوحي بهبوط الزعيم من السماء إلى الأرض الألمانية مع ملائكته ؟
في الدقائق الأولى من الفيلم، اللقطات عامة، تصوّر الحشود في المطار، وعلى جانبيّ الطريق، وهو ينتقل في موكب، اللقطات المتوسطة، والكبيرة تبدأ معه، ومن كلّ الزوايا، يملأ معظم مساحة الصورة، والحشود في خلفيتها، أجسادٌ متراصّة، بالأحرى ظلال.
وفي مشهدٍ يدعو إلى التساؤل :

ـ كيف تمكنت إمرأة مع طفلتها من العبور، وإختراق حواجز الأمن بسهولةٍ حتى وصلت إلى سيارة “هتلر” المكشوفة، قدمت له باقة من الورد، ولمست يده المُباركة، ومن ثم ينقلنا المونتاج فوراً إلى صورةٍ كبيرة لأطفال، قطعٌ مفاجئ، وغريب، إلاّ إذا كان المشهد قد تمّ تجيهزه مسبقاً، ماعدا ذلك، يمكن أن نتوقع آلاف النساء يتقدمن نحو سيارة الزعيم للحصول على بركاته، لم نشاهد المرأة تركض، ويبدو بأنّ السيارة تمهلت كثيراً كي تتمكن من تنفيذ ما طُلب منها، وبعد ثلاث لقطاتٍ، أطفال يبتسمون، مبتهجون بهذا الحدث الجانبيّ، يعود المونتاج مرة أخرى إلى المرأة، وقد نفذت مهمتها، تلاعب مونتاجيّ بإمتياز(مشهد تمثيليّ رُبما) .
ومن أجل الإنصاف قليلاً، والتأكيد بأنّ اللقطات الكبيرة لم تكن من نصيب “هتلر” وحده، فإنه حالما يصل إلى مكان إقامته، يحظى بعض الجنود الواقفين بجانب المبنى على تلك الميزة السينمائية .
عندما يطلّ “هتلر” من نافذة مكان إقامته/أو مكتبه ينقلنا إختفاء، وظهور تدريجيّ للصورة إلى لقطاتٍ ليلية في نفس اليوم، أو في اليوم التالي.
حتى تلك اللحظة، كانت الموسيقى المُصاحبة مضافة مونتاجياً من خارج الحدث نفسه، ولكن، مع هذا الإنتقال الزمني/المكاني، تنطلق الموسيقى من داخل الحدث نفسه، فرقة موسيقية عسكرية تعزفها.
وعلى الأرجح، يستخدم البناء الصوتيّ تناوباً بين موسيقى مُضافة، وأخرى موجودة في داخل المشهد نفسه.
من المفيد الإشارة، بأنها هي العنصر الصوتي المُسيطر، يأتي بعدها، في الدرجة الثانية، هتافات الحشود، كانت المؤثرات الصوتية منتقاة بعناية، إحتفظت المخرجة بقدرٍ منها، وحذفت أخرى (على سبيل المثال، لم تحتفظ بأصوات محركات الطائرات، أو سيارات الموكب…)، بإنتظار العنصر الصوتي الأهمّ : خطابات “هتلر” المُدوّية.
يجمع البناء المونتاجيّ تنوّعاً مذهلاً في أحجام اللقطات، والزوايا، تخلق إيقاعاً بصرياً يتضافر مع الموسيقى الحماسية المُتواصلة، مع هذا التكرار البصريّ/الصوتيّ، يبدأ المتفرج بالدخول في خدر ذهنيّ حتى يصل إلى حالةٍ من الإستلاب، لقد أصبح مسكوناً، ولم يعدّ قادراً على التفكير، يقوده الفيلم بسهولةٍ نحو أهدافه الدعائية.
تتغير التيمة الموسيقية، تصبح اقلّ إثارةً للحماس، وتتجول الكاميرات في أرجاء المدينة التي تسبقبل يوماً جديداً.
سوف تظهر إنتقائية المخرجة لمُؤثرات الجو العام عندما تصوّر كنائس تنطلق أجراسها مختلطة مع الموسيقى، يحتفظ شريط الصوت بصداها على الرغم من الإنتقال إلى لقطاتٍ لاحقة، تُساهم هذه المفردة الصوتية في توجيه المتفرج نحو أجواء روحانية تغلف ذلك الحدث .
تظهر خيام الكشافة، وإستعداداتهم ليومٍ جديد، بينما تعود الموسيقى إلى طابعها الحماسي، وتصبح في أوجها عندما تُقرع الطبول، هناك عمل جماعيّ كحال كلّ المُعسكرات الضخمة، وتردد الجموع غناءً جماعياً .
بعد ربع ساعة، يمنح الفيلم هؤلاء الشباب بعض إنسانيتهم، يصحون من النوم، يغسلون وجوههم، يحلقون ذقونهم، هناك من يجمع الحطب، آخرون يجهزون الطعام، يأكلون، يلعبون، يضحكون، وهنا، يؤكد البناء الصوتي إختياراته المُتعمّدة في إظهار ضحكاتهم، وملامح صوتية خفيفة من الجوّ العام، بينما تبقى الموسيقى في مقدمة ما عداها من الأصوات.
مع بداية الإستعراضات الفولكلورية، وتحية “هتلر” لبعض نساء المواكب، إنه ليس حامياً للتقاليد الألمانية فحسب، لقد أصبح رمزاً شهوانياً عندما يقدم الفيلم لقطاتٍ منتقاة بعناية تظهر وجوه النساء تطفح شبقاً جنسياً مختفياً خلف إبتساماتهم، وكي ننصف المخرجة، نجدها تحتفظ أيضاً بلقطاتٍ، وفيها يتبادل “هتلر” التحيات، وكلماتٍ (لا نسمعها) مع بعض الشباب.

فيلمٌ يهدف إلى التوثيق المُحايد، يمكن أن يبدأ هنا، مع إفتتاح “المؤتمر السادس للحزب”، أيّ مع خطاب “هتلر” الأهمّ في مناسباتٍ كهذه، ولكن، هناك رغبة متعمدة من المخرجة بتخدير المتفرج عن طريق الصورة، والصوت لمدة أكثر من عشرين دقيقة، وليس من قبيل الصدفة أيضاً، أن يبداً هذا الجزء من الفيلم بلقطةٍ كبيرة للصقر المُجنح تصاحبه موسيقى حماسية تصل إلى ذروتها، ومن ثمّ التذكير برحيل الفيلدمارشال “هايندون بيرغ” رئيس الرايخ.
أمام الحشود، يقول أحد القادة العسكريين عن “هتلر” :
ـ أنتَ ألمانيا، عندما تتحرك، الأمة تتحرك،… عندما تحكم، الشعب يحكم.
هنا أيضاً، وكي لا يتحول الفيلم إلى وثيقةٍ تقريرية، فقد إختارت المخرجة مقتطفاتٍ دالة من خطابات “هتلر”، وبعض القادة، توقفت الموسيقى التي كنا نسمعها دائماً، أو بالأحرى تحولت إلى موسيقى، طريقة الإلقاء، نبرات الصوت، حركات الجسد، تعابير الوجه، المحرك الجوهري في توصيل الأفكار التي تلهب الحشود.
طريقة مونتاج الإستعراضات العسكرية تُحيل المتفرج إلى الأفلام الملحمية الأسطورية في زمن الرومان، والإغريق.
من بداية الفيلم، وحتى ثلثه الأول، عندما يبدأ بعض الجنود المُختارين بإعلان كل واحد منهم عن المنطقة التي جاء منها، يتضح بأن الفيلم لا ينقل مؤتمراً حزبياً فحسب، ولكن، عرضاً مسرحياً ضخماً يُحيلنا إلى المسارح الأغريقية، في تلك اللحظة، يتحول الجنود إلى جوقةٍ منشدين تُعلق على الأحداث، “هتلر” يحيطه مجموعة أساسية من الممثلين، وحشود ضخمة من المجاميع التي تتعامل معه كبطلٍ تراجيديّ، نصف بشر/نصف إله.
آلافٌ ينشدون مثل جوقة في مسرح أغريقي :
ـ نحن هنا، مستعدون أن نقود ألمانيا إلى حقبةٍ جديدة، المانيا…..شعب، فوهرر، رايخ، ألمانيا
ويكمل هتلر تلك التراجيديا النازية :
ـ نحن نريد شعباً مُطيعاً، ويجب أن تكونوا مطيعين..
في الخطاب الختاميّ، وبعد حوالي 20 دقيقة إضافية من لقطات الإستعراضات العسكرية، والموسيقى المُصاحبة، وبعد الكثير من الهتافات، يختتم أحد القادة المؤتمر الإحتفالي :
ـ الحزب هو ّهتلر”، ولكن “هتلر” هو ألمانيا، وألمانيا هي “هتلر”.
اللقطة الأخيرة، كبيرةُ جداً للصليب المعكوف، تتداحل بصرياً مع لقطة يظهر فيها صفوف طويلة جداً من جنود يتقدمون نحو الكاميرا، ويستمر النشيد الحماسيّ الجماعيّ.
وُفق المؤلف الفرنسي “جان بيير دلارج” :
ـ “إنتصار العزيمة “، تحفةٌ من الكراهية، الغرور الإستفزازيّ، الفخر الشيطانيّ، وعلى الرغم من ذلك، هو تحفة”