أفلام عن معارك التعليم الأمريكي !
محمد موسى
تكاد السينما التسجيلية الأمريكية تتميز عن سينمات دول عديدة اخرى، بوفرة الأفلام التي تتعرض لموضوعة التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية، فلا يكاد يمر عام تقريباً، دون أن نشاهد أفلام تسجيلية بتوقيع مخرجين ومخرجات أمريكيين، تتناول التحديات التي يواجهها طلاب أمريكيين من فئات عمرية مختلفة، من الذين يدرسون في مدارس وجامعات حكومية. تتنوع إتجاهات الأفلام المقدمة تلك، فبعضها يوجه الإنتباه الى الفرص القليلة، التي يحصل عليها طلاب آتين من خلفيات إجتماعية فقيرة لمتابعة تعليمهم، وما يمكن أن يُعينه ذلك في مساعدتهم للإنتقال، من طبقة إجتماعية الى إخرى أقل إضطراباً، في حين تحتفل أفلام اخرى، بنجاحات فردية وجماعيّة، لطلاب ومدراس، نجحوا، رغم مَشاق الحياة القاسيّة، في تحقيق إنجازات لافتة، يكون الإشادة بها في تلك الأفلام، جزءاً من تمجيد نموذج “الحلم الأمريكي” بالنجاح والتفوق، وهو الحلم الذي تقترب مكانته من القدسيّة عند كثير من الأمريكيين.

رغم إنهما يُقدما العالم نفسه، الا إنه لا توجد مُشتركات عديده بين الفيلمين التسجيلين الجديدين : ” ذي ريفونشريس ” و “قَصر بروكلين”، فالفيلم الأول، يُسجل لأول مرة، النقاشات الحاميّة التي ترافق وضع المواد النظريّة للكتب المدرسية في المدارس الحكومية في الولايات المتحدة الأمريكية، وما يعكسه هذا النقاش من إختلافات عميقة ومتجذره، بين التيارين المحافظ والليبرالي، وهما الإتجاهين الفكريين الذين يحركان الولايات المتحدة منذ قرن من الزمان. فيما يحتفي الفيلم الآخر، بنجاح مدرسة أمريكية، يُشكل الأطفال الفقراء جُلّ طلابها، بالفوز بجوائز عديدة لمسابقات رياضة الشطرنج، والتي تملك سمعة عند كُثر، كرياضة لأبناء الطبقة المتوسطة او الميسورة. كما يمر الفيلم، على آثار الأزمة الإقتصادية، التي تضرب الإقتصاد الأمريكي منذ سنوات، على وضع المدارس الحكومية، إذ إن الاخيرة فقدت معظم الأموال، المخصصة لنشاطات مصاحبة لعملية التعليم، والتي، وكما يخبرنا الفيلم، أساسية لتحقيق نجاح أكاديمي.
ينتهج كلا الفيلمين، الإسلوب ذاته تقريباً، والذي أصبح متأصل في السينما التسجيلية الأمريكية، ووصل تأثيره الى العديد من دول العالم، بمزج مشاهد توثيقية، ليوميات شخصيات محددة، مع تقديم المعلومات المباشر، عبر نصوص، تَقطع أجزاء الفيلم، لتعرض معلومات مستقاة من إحصائيات او بحوث لفريق الفيلم، عن الموضوعة المقدمة. هذا الإسلوب، والذي برز بشكل واضح في أفلام المخرج الأمريكي المعروف مايكل مور، أصبح نموذج خاص لحاله، لا يخضع للمناقشة الإسلوبية، بل يبدو للكثيرين وكأنه من صُلب العمل التحقيقي وجزء من هويته، والذي يسعى بجوهره لإيصال المعلومة بالكامل للمتفرج، دون الإكتراث كثيراً بالشروط الجماليّة، فطبيب الاسنان المحافظ في فيلم “ذي ريفونشريس” للمخرج سكوت ثورمان، والذي سجل الفيلم يوميات لافتة بصدقها من حياته، وتُظهر حماسه وعناده، كرئيس اللجنة المختصة بمحتوى الكتب المدرسية، كان يمكن أن ينقل هو نفسه، كثير من آراء وإحصائيات التيار المحافظ، دون أن يحتاج الفيلم أن يقطع السرد، بمعلومات عن تاريخ وأثر اللجنة في الحياة المدرسية الأمريكية، والأمر ذاته ينطبق على سيدة من الفريق الآخر ( الليبرالي)، والتي تبعها الفيلم، لتقدم وجهة نظر مخالفة لطبيب الاسنان، والتي قطعت شهادتها مراراً هي الأخرى، من أجل “حَشر” معلومات جديدة، رغم إن الفيلم كان يمكن أن يكتفي بشهادات شخصياته وحماسهم، لما يعتبروه قضية أساسية في المجتمع الأمريكي، لكي تثير بدورها شهية المتفرج، وتشجعه على البحث عن معلومات موسعة عن الموضوعة، والتي أصبح العثور عليها اليوم هيناً كثيراً.
تُوصل بعض النصوص، التي تقطع أجزاء فيلم ” قصر بروكلين ” للمخرجة كاتي موجوري، بين الفترات الزمنية التي لم تحضر فيها كاميرا الفيلم، منذ بدء تسجيل تجربة المدرسة الأمريكية للتعليم المتوسط، في حي بروكلين في مدينة نيويورك، ففريق الفيلم، والذي رافق طلاب من هذه المدرسة لسنوات، لم يكن قادراً، بسبب الإمكانيات أن يرافق الطلاب طوال تلك الفترة. المعايشة التسجيلية للشخصيات في هذا الفيلم ستاخذ مساحة أوسع من الفيلم السابق، بسبب طول هذا الفيلم ، والذي سمح بزمن أطول مع الطلاب وعوائلهم وأساتذتهم. تُوفر المشاهد الطويلة في كلا الفيلمين، والتي بقيت بمعزل عن التوليف السريع الذي ساد العملين، على الدقائق الأكثر تأثيراً، من جهة إقترابها من الشأن الإنساني الخاص، كما إنها تُعرف بتلقائية وبدون تحضيرات طويلة مُسبقة، بالحياة الواقعية لتلك الشخصيات، والتي تُمثل أحد أطياف المجتمع الأمريكي.

تصطدم أغلب شخصيات الفيلمين بقوى المجتمع الأمريكي التقليدية، لكن من دون أن يحرك هذا الإصطدام مياه ساكنه واسعة، فنهاية فيلم ” ذي ريفونشريس ” لم تحمل أي مفاجآت، كل شيء بقى على حاله، فقوى اليمين التي جادلت في كل جزئية تخص كتب المدارس (التاريخ الأمريكي، نظرية داروين التي تفسر خلق العالم كأمثلة) خاضت صراعاً حامياً، كما إعتادت أن تفعل منذ عقود في هذا المحفل، وبدا إن القوى اليمينية في الولايات المتحدة الأمريكية لازالت هي التي تقود الحياة هناك. في حين لم يشفع نجاح طلاب مدرسة فيلم ” قصر بروكلين “، بتحقيقهم إنجازاً مذهلاً، بالفوز بأكثر عدد من جوائز الشطرنج في البلد، في زيادة حظوظهم في الإبقاء على المبالغ التي تتلقاها مدرستهم من الحكومة، للإستمرار بنشاطتهم خارج المدرسة. يصور الفيلم بيوت أبطال الشطرنج الفقراء من الطلاب، والتي تلمع بها الكؤوس التي حصلوا عليها من البطولات التي إشتركوا بها. ستساعد مؤسسات حكومية وأهلية بعض هؤلاء الطلاب في مواصلة تعليمهم في مدارس متميزة، فيما يبقى مصير البعض الآخر مجهولاً، رغم ذلك، لا يخلو الفيلمين من إشارات متفائلة عن المجتمع الأمريكي، والذي رغم كل مشاكله، مازال قادراً على تقديم أمثله ناصعة، عن دفاعه عن حقوق أفراد، ومنحهم فرص كبيرة، وتمجيده لرغبات النجاح والبحث عن السعادة التي يحملها أفراده.