“الولادة من الخاصرة” : ولادة متعسرة لدراما جديدة

درويش درويش
لم تكن الدراما التلفزيونية السورية “على مساوئ الإطلاق” إلا جزءاً من الحالة السورية العامة قبل الثورة، وخير معبِّر عن “الوضع السوري” وحالة المجتمع، وطبعاً؛ ليس المقصود بـ “خير معبر” أنها نجحت في ذلك على المستوى الفني.
بل لربما نستطيع الذهاب، في الاتجاه المضاد، إلى أبعد مما توحي به الجملة الأخيرة، مستعينين بأول ما دل على ذلك بعد 15/03/2011، أي حالة الارتباك الشديد وقد طالت هذا القطاع الذي كان يبدو قبل الثورة في “نهوض” مستمر أو لنقل على الأقل، إن الكثيرين، منهم من يعارض النظام ومنهم من يواليه، اعتبروه “مستقلاً” إلى حد بعيد عن مسار التردي المطاول القطاعات الأخرى، كونه قطاع “ناجح” و”رابح” وحقق “الانتشار” الملحوظ على مدى ما يزيد عن عقد من الزمن.

على نقيض ما كان يوحي به “ازدهار” الدراما السورية ورغم نجاحاتها، حتى الفنية منها، إلا أنها لم تتجاوز في المجمل الترسيمة التي وضعها لها النظام وسعى إلى ثباتها، بأن تكون شكل “التعبير” الرئيسي والحصري للمجتمع عبر أداة/آلة “عامة” اسمها “التلفزيون”، “القناة” النظامية و”المقنوَنة” والمراقَبة من قبل جهاز الحكم بحيث يسير عبرها تيار واحد من المرسل إلى المتلقي، ينوب عن عدة تيارات كان من المفترض أن تتوزع على بقية الفنون، بين مرسل ومتلقي في الاتجاهين، فيما لو كنا نعيش في نظام بعيد في طبيعته عن “الشمولية”.
رغم حالات الاختراق الفردية التي طمح إليها “ونفذها” سابقاً بعض الشباب، ممن عملوا في المسلسلات السورية إلا أنها في المجمل لم تكن تصب “أخيراً” إلا في خانة “التنفيس” كما يريدها النظام، على عكس نية أصحابها. لا ينفي ذلك أنه حصل وخرجت بعض المحاولات عن نطاق سيطرة الرقيب وكان لها أثرها، ولا ينفي المحاولات المستمرة لتوسيع الهامش ولحلحة القيود، وما كان لذلك من أثر تراكمي، بغض النظر عن حجمه، على “مر التجارب” حتى في نفوس الثائرين.
مع بدء الثورة في سورية ومع الانفجار الهائل في أشكال التعبير الاجتماعية بدءاً بوقوف المتظاهر/المواطن في الشارع وصراخه بما يعتلج في نفسه، تكشّف من ضمن ما تكشّف، الحجم الحقيقي لما كان يدعى الدراما التلفزيونية، صورتها وطبيعة دورها، حتى بالنسبة إلى الكثيرين من العاملين فيها من “المتوهمين” بخلاف العارفين. بل ونستطيع القول إن الثورة ومن منظور معين قامت ضدها تحديداً كشكلٍ “أوحد” للتعبير، وبكل ما يعنيه أيضاً شكل التلقي التلفزيوني السلبي. ظهرت روح خصومة شديدة بشكل لم يدرك كنهه كثيرون في طرفي الخصومة تلك، في الزمن الثوري الجديد. ليس بسبب التصريحات والمواقف المناهضة للحراك الشعبي من قبل العديد من الفنانين والعاملين في هذا القطاع فقط، الأزمة -في الحقيقة- كانت أعمق من ذلك بكثير، وما التصريحات والمواقف تلك إلا المعبر “الخارجي” عنها وشكل من أشكال تمظهرها، تصل في جذورها إلى موقف ضمني مضاد للتلفزيون بعينه، بوصفه الأداة المرسِلة والموجِهة والمتحكِّمة، والمعبر الأول عن السلطة ولسان حالها المخترِق لكل بيت سوري، وهو أيضاً السلاح الجهنمي القادر على “حبس” المواطنين في بيوتهم طواعية بوصفه؛ أداة فرجة لا تتطلب شرط التجمع لتقوم بعملها، بل هي “تمنع التجمع” من هذا المنظور.
يبدو أننا لن نستطيع الخوض في الجدل القائم حول الموسم الأخير وأبرز أعماله مقاربةً للواقع “الولادة من الخاصرة” دون المرور على ما ذكرناه آنفاً. في النتيجة دلل المسلسل المذكور على مقدار واضح من الانزياح في اتجاه بدا حتمياً منذ انطلاقة الثورة، نحو خلق “قنوات” اتصال بين العمل/المسلسل من جهة، ومتلقيه من جهة أخرى، دون المرور عبر “بوابات” السلطة أو الركون إلى مرجعياتها، تجسد ذلك بدايةً “بحرية” المحاولة في تناول الشأن العام، وهو ما يمكن اعتباره مكسباً من منجزات الثورة، واستحقاقاً. وما الجدل الدائر الآن حول المسلسل، من كل التوجهات وفي كافة الاتجاهات إلا دليل على ذلك، بغض النظر عن أي تصنيف سياسي له وللقائمين على صناعته و”نياتهم”. هذا الانزياح “النسبي” هو ما يمكن أن يحسب “للولادة من الخاصرة” في جزئه الثالث، دون الخوض في المستوى الفني لعناصره المكوِّنة الأساسية، النص، الإخراج، التمثيل، ودون الخوض أيضاً في المغزى السياسي العام له ومع أي من “الطرفين” يقف. وهوَ ما يبدو أن الثورة وواقعها دفعت إليه دفعاً. وإذا لم يكن هذا الانزياح تاماً فهذا لأنه من العسير جداً على الدراما التلفزيونية بتكوينها، كصناعة متكاملة، الخروج عن القوالب آنفة الذكر التي نشأت ضمنها، حتى بالنسبة إلى الأبعاد السياسية في مستوى آخر.

في الولادة من الخاصرة شاهدنا أخيراً، السلوك الأمني العاري صراحةً، وتفصيلاً، شاهدنا التعذيب، وقتل المتظاهرين في الشوارع، وتذكيراً بأصل الصراع وجوهر المشكلة، المهانة التي تعرض لها الناس، شاهدنا خروجاً يبدو كاملاً في بعض المفاصل عن رواية السلطة حول ما جرى، ومن جهته استعان الإخراج مباشرةً  قدر استطاعة وموهبة “سيف سبيعي” بمخزون “الصورة” عن آلاف مقاطع الفيديو التي رآها كل “الجمهور” والمتعسر الخروج عنها في أي مقاربة إخراجية لنص “سامر رضوان” وشاهدنا أيضاً “ممثل موال للنظام” يقوم بدور بطل من أبطال الثورة “المسلحة”. أما وقد حصل ذلك، فمن العجيب أن يستغرب أحدنا وجود النقيض لهذا الطرح في المسلسل، أي القول في الاتجاه الآخر، بقايا وتأثيرات ما كانت عليه الدراما قبل ذلك وما هي عليه حتى “الآن” بشكل عام. نعم لم يذكر المسلسل رأس السلطة صراحة، وفي كثير من الأحيان بدا وكأنه يتحدث عن طرفي صراع متساويين في القدرة، واتسمت الحوارات والنقاشات بين شخصياته حول الأحداث بالخفة، وأكثر من ذلك؛ انتهج التشويق “الضحل” سبيلاً وأسلوباً فنياً لا يليق في الواقع بثورة شعب؛ وإن كان هذا الخيار ربما محاولة من قبل الكاتب، لمماشاة ديناميكية الأحداث الواقعية والتقرب من نبض أناسها.
حسبنا اليوم أن نرى من منظور التغيير التاريخي ما حققه “الولادة من الخاصرة” في ولادة متعسرّة لدراما جديدة.


إعلان