حساسية الثيمة في الفلم الوثائقي

عدنان حسين أحمد
اشتملت مسابقة الأفلام الوثائقية للدورة الثالثة لمهرجان مالمو للسينما العربية على ستة عشر فلماً وثائقياً طويلاً وقصيراً. وقد تميزت غالبية هذه الأفلام بحسّاسيتها المرهفة، ودقة موضوعاتها، وإشكالياتها الفكرية التي تبتعد عن القشور لتلامس لُباب الأمور، وتحاول قدر المستطاع أن تفكّك بنيتها العميقة بطريقة موضوعية محايدة بعيداً عن الإثارة والانفعالات السحطية العابرة. وأول هذه الأفلام الناجحة هو فلم “الهجّان الآلي” للمخرج جيمس روسون الذي يكشف من عنوانه أن صانعه قد انتبه إلى ثيمة مهمة جداً يتسيّد فيها الجانب الإنساني قبل كل شيئ. فمسابقات الإبل معروفة وشائعة في دول الخليج العربي ولها جمهورها الواسع مثل بقية المسابقات الأخر، غير أن اللمسة الإنسانية للمخرج تتجسّد في التقاطه لعملية المُتاجرة غير القانونية بالأطفال الصغار الذين يستعملونهم كفرسان هجن يقودون الجِمال المتسابقة. ومن اللافت للنظر أن بعض أصحاب الإبل المتنافسة أو بعض منظمي السباقات يجوِّعون هؤلاء الأطفال كي تكون أوزانهم خفيفة جداً بحيث لا تؤثر سلباً على الجمل المتنافس. ولابد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن الإمارات العربية المتحدة هي الدولة الخليجية الأولى التي أصدرت عام 2002 قانوناً يحرِّم استعمال الأطفال تحت سن الخامسة عشرة كهجّانة، ثم تبعتها قطر وأصدرت تحريماً مماثلاً في عام 2005، ثم أردفتهُ بقرار آخر عام 2007 ينص على أن يحلّ الروبوت محل الصبيان الذين يتعرضون إلى تجويع قاس يجرح الكرامة البشرية ويشوّهها.
انتبه المخرج المصري أمير رمسيس إلى قضية “يهود مصر” شبه المنسية وأخرج عنها فلماً حمل عنوان “عن يهود مصر” حيث أعادنا فيه إلى النصف الأول من القرن العشرين حتى الخروج الكبير الثاني بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1950 ليكشف لنا عن وجه مصر الكوزموبوليتاني المتحضر الذي لا يفرّق بين دين وآخر، ولا ينحاز على أساس اللون والقومية والمذهب. ثم ينعطف بنا إلى بداية الألفية الثالثة متساءلاً: كيف تحوّل اليهود المصريون في أعين الشعب المصري من شركاء في الوطن إلى أعداء؟ هذا سؤال جوهري تقوم عليه بنية الفلم الداخلية ويحتاج إلى إجابة موضوعية هادئة تضع الأمور في نصابها الصحيح من دون ضجيج مفتعل ومشاعر مشوّشة. جدير ذكره أن أمير رمسيس هو من مواليد القاهرة عام 1979 وعمل مساعد مخرج مع يوسف شاهين في عدة أفلام. وهو صاحب رواية “نشيد الإنشاد”.

حلم الكرامة الحب والأمومة
أثار فلم “رقص الخارجين على القانون” للمخرج المغربي محمد العبودي الكثير من الجدل فقد رفضت الجهات الفنلندية النرويجية تمويله أول الأمر بحجة أن الفلم لا يعالج ثيمة تهم المجتمع الأسكندنافي المرفّه، ولكن دأب المخرج المتواصل أقنعهم بأن الثيمة إنسانية وأن الأسكندنافيين هم جزء من هذا العالم وأن قيمهم الثقافية والاجتماعية والأخلاقية لا تمنع من رصد مشاكل المجتمعات الأخرى وتحليلها بهدف إيجاد بعض الحلول لمشكلاتها المستعصية. الفلم بنسخته العربية ينضوي تحت عنوان “نساء بدون هُوية” وهذا التوصيف هو الأقرب إلى فكرة الفلم الرئيسة. فـ “هند” هي امرأة لا وجود لها على الأوراق الرسمية المغربية، والسبب في ذلك أنها أُغتُصبت وطُردت من المنزل، وظلت تعيش بلا هُوية رسمية تشير إلى “مواطنتها” لذلك وجدت نفسها تمارس البغاء، وتمتهن الرقص في حفلات الأعراس. وعلى الرغم من كل الصعاب التي تواجهها “هند” أو مثيلاتها إلاّ أنها ترفض التخلي عن حلمها في الكرامة والحب والأمومة. هذه القصة لها جذر واقعي لكن المخرج لم يقدّم لنا المرأة الحقيقية المُنتهَكة خشية أن يجرح مشاعرها الإنسانية لكنه أراد من صميم قلبه أن يُسمع أصوات النساء المُنتهكات والمُهمشات في آنٍ معا.

الجدار العازل
ثمة موضوعات تتكرر كثيراً لكنها لا تفقد رونقها وبريقها ففلم “فوتوغراف” للمخرج بشار حمدان يقوم على فكرة التصوير، هذه الهواية أو المهنة التي توثّق مَشاهد لا تُحصى من الوجوه التي تتحرك في سياق الزمن الفيزيائي الذي نعيشه، لكن “تغريد” الصحفية الغزاوية تعتقد أن وراء كل صورة تلتقطها قصة معينة لها تأثير خاص عليها في الأقل. فهي تمحض التصوير حُباً من نوع خاص، لذلك جمعت أكداساً من الصور الفوتوغرافية التي تنطوي على قصص وحكايات لا حصر لها. يتمحور حلم المصورة “تغريد” في كسر الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني من قِبل قوات الاحتلال الإسرائيلي. لابد من الإشارة إلى أن المخرج بشار حمدان قد أنجز العديد من الأفلام الوثائقية التي تمتلك نفَساً احترافياً واضحاً نذكر منها “عندما يُستهدَف الصحفيون”، “تاكسي باريس”، “الحريق لا يزال مستمراً” و “هموم ساخرة”. يعالج فلم “متسللون” لخالد جرّار موضوع الجدار العازل أيضاً ونقاط التفتيش الإسرائيلية وتحويلات الطرق والكيفية التي يترصد فيها السوّاق الفلسطينيون ثغرة ما للنفاذ من هذه الفخاخ المنصوبة على الدوام. لا يبتعد الفلم الوثائقي الدرامي “طريق بيروت- مولهولاند 150 ألف كم” لفجر يعقوب عن الهمّ الفلسطيني العام، لكن المفارقة هذه المرة أن الفلسطينيين -السوريين يهربون إلى لبنان بسبب الحرب التي اندلعت في معظم المدن السورية وأن ما ينتظره اللاجئون الفلسطينيون- السوريون قد يتعدى مسافة الطريق المفضية إلى لبنان لأن مولهولاند تبدو مكاناً مستحيلاً يتعذّر الوصول إليه. كما أن دورة الشتات الفلسطيني تبدو مستمرة لا نهاية لها هي الأخرى. يميل بعض المخرجين في هذه المسابقة الرسمية إلى توثيق بعض الطقوس والتقاليد الاجتماعية مثل فلم “رمضان في الدنمارك” للمخرج ماهر حشاش الذي يرصد فيه حياة المسلمين في الدنمارك، وكيف يصومون لأكثر من عشرين ساعة ثم يفطرون في نهاية المطاف على ما صنعته أياديهم من طعام لذيذ يعود غالبيته إلى طقوس البلدان الإسلامية التي غادروها بسبب الفقر، والقمع، وغياب الحريات. وفي السياق ذاته يشترك المخرج السعودي فيصل العتيبي بفلم “الزواج الكبير” الذي تدور وقائعه بجزر القمر الذي كتبنا عنه مقالاً مطولاً وهو يدور، باختصار شديد، على الزواج الثاني الذي لابد منه من المرأة نفسها لكي يتمكن العريس من تحمّل الواجبات الدينية والاجتماعية بين شرائح المجتمع القمري. لقد حضر العراق في هذه المسابقة من خلال فلم وثائقي قصير جداً يحمل عنوان “أطفالنا” للمخرج “يد الدين” ومدته ثلاث دقائق فقط يناقش فكرة محددة حيث تعود الناشطة رويدا مصطفى إلى كوردستان بهدف رعاية الأطفال الأيتام وضمان معونة مادية لهم أسوة بالمعونات المادية والاجتماعية الموجودة في البلدان الأوروبية والعالم الغربي المتحضر.


إعلان