“يامو” رامي نيحاوي وسر البيض والسمسم

درويش درويش
“يامو”. عنوان سلس. يرشقه “رامي نيحاوي” على مسامِنا فننساب معه على مدى ساعة وعشر دقائق.
هو يعلن بذلك ومن قبل البداية، انحيازه “إليه”. البدء من ذاته وملازمتها و”الالتزام” بها في رحلة تركيب الذاكرة. استعادتها. أو “محوها”. رحلة قد يضيع صاحبها في متاهات الماضي وأحداثٍ لا تخص رامي وحده، بل ربما تتعلق بما هوَ أكبر من وطن. هنا تغدو الذاتية والتشبث بها، بالنسبة إلى رامي الذي بلا ذاكرة، ملاذاً أخيراً وبوصلة في بحر من لا يقين.
 يعود رامي إلى الأصل، الجذر، حيث عقدة الخيوط، الأم. من هنا يفكفك ويجمّع، يبني ويهدم، ويستعيد. قد تسرد أمه أمراً يخصه لا يذكره. يجادلها، واضعاً إياها تحت رصد “العدسة” فينقسم المشهد إلى جزئين، أحدهما أمام الكاميرا والآخر “خلفها”.
ما ورد ذكره أعلاه ليس استنتاجاً تشي به –خفيةً- لغةُ الفيلمِ وأسلوبُه، إنما هوَ أيضاً التوجه المباشر والمعلن والمدرك، من قبل مخرجه دون مواربة. يقول رامي من البداية إنه بلا ذاكرة، معلقاً بلغة عربية فصيحة لا تهادن فيما تقصد رغم “شعريتها”. وفي لحظات محددة و”مناسبة” يفاجئنا بلقطة “عكسية” تنقل الكادر إليه وهو يصور ضالته، “نوال”، فيصبح هوَ الموضوع، وتصبح الأم هي المترصدةَ والمتصيدةَ في لعبة تبادل للمواقع، لا نكون “نحن” بريئين منها.

أي ذاكرة هي ذاكرة نوال؟! اللبنانية المسيحية التي تزوجت في الماضي سورياً مسلماً، مسكوناً بفلسطين و”بعثيّته”، كما علق رامي. ستنبش نوال من ماضيها، وسينبش رامي مما يظن أنها ذاكرته، سنتابع سردين يتشابكان، يكمل أحدَهما الآخرُ، ليركّبا معاً صورةً عامة، لبلد قيض له أن يكون مركزاً ترجمَ تقلبات منطقة بأسرها في تلك الفترة.
فراغ الذاكرة عند الابن، تقابله ذاكرة مكتظة لدى أمٍّ لم يكن لطفولتها وشبابها من أفق وطموح كاللذين أتيحا لابنها فيما بعد كما تظن، في ظروفها تلك، و تخبط عائلي تؤججه سطوة ذكورية للأب/الجد.
الأب/الزوج. سيكون جزءاً من الذاكرة الضائعة لرامي نيحاوي. بذلك يكون الأب الغائب، الحلقةَ المفقودة وربما المحور، الذي تحضر بغيابه وتتكشف جملةٌ من الدلالات لا تقتصر على انسحاب اليسار اللبناني من “المشهد” ليحل محله اليوم في زمن الابن، حسب تعليقه أيضاً، ما يمثله “الحريري” ورأسماليته بوصفه “أباً للفقراء” وحزب الله “المقاوم”، من وقفت نوال إلى صفه رغم اختلافها أيديولوجياً معه أثناء حرب تموز، فالمفاضلة كانت بالنسبة إليها بينه (حزب الله) وبين إسرائيل. هي التي تعمل بالإضافة إلى مهنة التدريس في متجرٍ لبيع الكحول.
الأب الغائب الذي كان يوماً ما يسارياً، أو يُحسب على اليسار، لم يختلف كثيراً في الجوهر عن الجد، لا يقتصر تناقضه في العودة والارتداد إلى الدين بعد الحرب، بحسب وصف التعليق الفصيح: “العلماني الذي وبخني يوماً ليثنيني عن تعلم طقوس الصلاة فر إلى الدين”، بل سيذكر رامي أيضاً “منفعلاً” في جداله مع نوال، قصة البيض والسمسم وتلك العلقة الساخنة، عندما عنف الأبُ الابنَ لوضعه السمسم على البيض، ليكتشف “الصغيرُ” فيما بعد أن الأب من كان يقوم بهذا الفعل خلسةً. وترد الأم: كما قصة التلفزيون، عندما قال “اسألي أولادك عنه” ليكتشفوا أنه هوَ من باعه. المسلم الذي تزوج نوال في الكنيسة تبعاً لمعتقداته ما لبث بعد الحرب اللبنانية أن استنكر هذا الزواج “الحرام” واختفى من كل المشهد. كيف لا تنسحب إذاً قصة البيض والسمسم، على تجربة جيل بأكملها، وتيارات وأيديولوجيات آلت إلى ما آلت إليه؟!.

يعيدنا رامي هنا ومن خلال التصاقه بذاته ووفائه للحقيقة، إلى تبسيط المعقد وتفسيره في آن، إلى البون الشاسع بين ما قال به جيل قصد الحداثة وادعى السعي إليها، وبين درجة تطوره “الإنساني” وواقع تكوينه المناقض لأبسط متطلباتها ومغازيها، يحاول هذا الشاب المخرج سبك الحكاية/الذاكرة، ليكشف عن مكمن الخلل وإزاحة أصوات “مدافع الحرب” التي طمست واحتلت وغطت كل ما عداها من ذكرى وماضٍ مراوغٍ مراوغةَ “أبطاله”. رغبة رامي في فهم الماضي والانعتاق عنه كانت ستفشل ربما، لو أنه تناول القضية بمصطلحات ولغة الماضي، بأسلوب أبناء ذاك الجيل، ما يبدو أن رامي في مبارزة مرة معه، لكنه وبالعودة إلى الإنساني، العائلي والحميمي، كما تجلى أيضاً “بتصويره” لتفاصيل حياة أسرته اليومية في الماضي والحاضر وتناولها باسترخاء المنتمي إليها دون إهمال علاقة تلك التفاصيل بموضوعه، ناقض انسلاخاً عن الواقع وفصاماً، كان السمة المميزة لجيلٍ مضى، ليقترن التحقق السينمائي بإنجازه للفيلم، بتحقق آخر على المستوى الشخصي وارتباطاته بالكشف العام، ما حقق لنا أيضاً نحن المتفرجين، غنيمة مقارنة الماضي بالحاضر، بجيليهما، ومواجهة لغز أوديبي، يخصنا كلنا، موشكٌ على الحل.


إعلان