بوصلة الهداية وتحسين النظرة النمطية عن المسلمين
قراءة نقدية في فلم “رمضان في الأطراف” لفتحي الجوادي
عدنان حسين أحمد
يلعب المكان دوراً مهماً في فلم “رمضان في الأطراف” حيث وقع اختيار المخرج وكاتب السيناريو فتحي الجوداي على دولتين متباعدتين جغرافيا وهما آيسلندا ونيوزيلندا حيث تقع الأولى في شمال الكرة الأرضية فيما تقع الثانية في جنوبيّها. ولعل السبب الأساسي الكامن وراء هذا الاختيار هو طول ساعات النهار في آيسلندا بحيث يصل إلى ثلاث وعشرين ساعة، وقصرها في نيوزيلندا بحيث لا يزيد على تسع ساعات في أبعد الأحوال. وبما أنّ ثيمة الفلم تتركّز على صيام شهر رمضان في طرفي الكرة الأرضية وما يتخلله من فارق زمني كبير فعلينا أن نمعن النظر في كيفية تحمّل المسلمين لهذا الساعات الطوال خصوصاً في آيسلندا آخذين بنظر الاعتبار أن هؤلاء المسلمين هم أوروبيون أو أجانب من جنسيات مختلفة قد اعتنقوا الإسلام أو تحوّلوا إليه من ديانات أخر بعضها بدائي ولا يمتّ بصلة إلى الديانيتين السماويتين المعروفتين كاليهودية والمسيحية مثل الماوريين الذين لهم آلهتهم الخاصة مثل “بابا” إله الأرض، و “رانغي” إله السماء إضافة إلى آلهة أخرى للريح والحرب والبحر والغابة وما إلى ذلك. وربما تكون هذه اللمسة ناجحة جداً من قِبل المخرج حينما اختار عائلة ماورية اعتنقت الإسلام فأضفت على الفلم بُعداً أسطورياً هو أقرب إلى الفنتازيا منه إلى واقع الحال.

البنية التتابعية
حاول المخرج فتحي الجوادي أن يقسّم أحداث فلمه الوثائقي إلى قسمين متساويين على صعيد الأحداث والشخصيات، ولكنه لم يفلح كلياً في ذلك حيث نرى في مدينة هيستنغز النيوزيلندية ثلاث عشرة شخصية، فيما بلغ عدد الشخصيات الآيسلندي خمس شخصيات فقط. وبغية تحقيق نوع من الموازنة المقبولة كان يُفضّل لو أنه اختار عائلة ثانية إلى جانب عائلة أوليفر هالدرسون “محمد علي” وزوجته لبنى هالدرسون، إذ أنّ وجود سفار رلزون “إبراهيم”، كبير الباحثين في شركة “365” العملاقة، ورجل الدين سلمان التميمي لم ينقذ الموقف حيث ترجحّت الكفة لمصلحة الجانب النيوزيلندي الذي حظي بعائلتين إحداهما كبيرة وهي عائلة الماوري كارلوس بروكين وزوجته تريستان تبوك “سهيلة” وأمه ماري أنوكا “مريم” إضافة إلى شقيقتيه كايلين وفانا وأصهاره وأصدقائه. أما العائلة الصغيرة فتتكون من إيغل برونر “نور” وهو مخرج أفلام وأمه روزا بيار، ورجل الدين الشيخ محمد زوّادة الذي يوازي رجل الدين في الجانب الآيسلندي الشيخ سلمان التميمي. اعتمد المخرج فتحي الجوادي على البنية التتابعية في صياغة الأحداث المقترحة وتطويرها وصولاً إلى الذروة وكأنه يشتغل على فلم روائي، فالأحداث كانت تُترى وتتصاعد بشكل درامي مؤثر جداً.
انطلقت بداية الفلم في مدينة هيستنغز النيوزيلندية التي تقع شمال العاصمة والنغتون. وبواسطة تقنية “الفويس أوفر” عرفنا أن “هيستنغز هي مدينة العنب وسلة غِلال نيوزيلندا التي تقع على الساحل الشرقي من الجزيرة الشمالية للبلاد حيث استوطنها سكّان نيوزيلندا الأصليون من قبائل الماوري منذ القرن الرابع عشر” علماً بأنهم وصلوا إلى نيوزيلندا منذ القرن التاسع الميلادي. ما إن يسمع المتلقي بكلمة ماوري حتى تقفز إلى ذهنه مَشاهد الغابات النيوزيلندية والأسترالية النائية المكتظة بالأشجار، وتطرق سمعه رقصات “الهاكا” التقليدية التي يقوم بها الماوريون لاستفزاز أفراد العدو وزرع الخوف في نفوسهم. يا تُرى، كيف تسنّى لكارلوس بروكين أن يقلع ورقة التوت، لباس الماوريين المتواضع ويرتدي ثياباً إسلامية محتشمة، وأن يبدّل اسمه إلى “عبد العزيز” ثم يغيّر قناعاته الدينية جملة وتفصيلا؟

هنا تكمن التقاطة المخرج الذكية الذي وقع اختياره على شخصية ماورية ولم يختر شخصية نيوزيلندية ذات أصول أوروبية معروفة لكي يضمن إدهاش المتلقي ونقله إلى أجواء غريبة وغير مألوفة كالرقصة الحربية التي شاهدناها في الـ “بروموشن” والتماثيل الخشبية لأسلافهم وآلهتهم التي نحتوها بعناية فائقة تدلل على حرفيتهم من جهة، وذائقتهم الفنية العالية من جهة أخرى. لابد لنا من رصد البناء التتابعي لشخصيات الأساسية في الفلم وأولها شخصية الماوري كارلوس بروكين الذي أطلق على نفسه اسم “عبد العزيز”؟ ففي عام 2006 كان عبد العزيز ينتمي إلى عصابة معروفة جداً في مدينة هيستنغز وكان منشغلاً في الوقت ذاته بإنتاج الموسيقى وأغاني الراب. وقد وقعت له مشكلة دفعت بأحدهم أن يطعنه ويضعه على حافة الموت. فكانت هذه الحادثة نقطة التحول الجذرية في حياته. فبعد عام من التواري عن الأنظار، كما يذكر الشيخ محمد زوّادة، عاد عبد العزيز بقوة غير مسبوقة، وبرغبة غير متوقعة لفهم تعاليم الإسلام الحنيف. وذات مرة ذهب إلى صلاة الجمعة بهدف الاستماع إلى الإمام فانجذب إلى كلامه وحدث التمّاس الروحي الذي كان ينتظره حين سمع الآية الكريمة التي تقول: ” من يُهده الله فلا مضلَّ له ومن يُضلل فلا هادي له”. ثم بدأ العزيز يواظب على تأدية الفروض الدينية من صوم وصلاة وزكاة ويفعل الخير ويحصل على المزيد من الحسنات. لم يعرف المحيطون به أنه ماوري لأنه لباسه إسلامي بالكامل، كما أنه لم يكن يعرف الكثير عن أصوله الماورية باستثناء ما تعلمه على مقاعد الدرس. لقد حرّضه الإسلام على القراءة، بل الإدمان عليها فعرف بواسطتها الكثير عن أصوله الماورية التي كان يجهلها من قبل. ثم دخل في حوار عميق مع زوج أخته الذي كان يحدِّثه عن الإسلام ويدعوه لاعتناقه. فسأله إن كان يؤمن بالله فقال: نعم. ثم توسع في حديثه عن الله والإسلام والرسول محمد “ص” فشعر عبد العزيز أن ما قاله زوج أخته هو ما يفكِّر فيه بالضبط، فصرّح على الفور: هل أستطيع أن أكون مسلماً؟ فقال له: نعم، فنطق بالشهادة. يختتم عبد العزيز حديثه “إن الإسلام بالنسبة إليه هو أسمى شيئ في الحياة، وأنني ملزم بتبليغه لكل الناس لأن البعض يحمل تصورات خاطئة عن الإسلام”. لم تذكر زوجته تريستيان تبوك “سهيلة” شيئاً مهماً لبناء الفلم فقد اكتفت بالقول بأنها أم وهذا يجعل الصوم شاقاً بالنسبة لها، فهي تعِّد السحور لابنها علي ولزوجها عبد العزيز الذي يستحم ويذهب للصلاة في المسجد ثم تقرأ هي ما تيسّر من القرآن الكريم حتى يحين موعد الصلاة. ربما أضافت شقيقتاه شيئاً إلى مضمون الفلم، فأخته كايلين بروكين “ياسمين” منقبّة ويستغرب البعض كيف وصل التشدّد إلى نيوزيلندا. تمحض ياسمين الصيام حُباً من نوع خاص لأنه يذكِّرها بالمحرومين من الناس الذين لا يملكون خياراً غير الجوع. كما تشعر بأنها أقرب إلى الله حين تكون صائمة، فالصيام من وجهة نظرها مدعاة للتواضع. أما شقيقته الثانية فانا بروكين “خديجة” فهي محجبة فقط، ولم تضع النقاب وقد دُهشت حين شعرت بالتبدّل الذي طرأ على أخيها عبد العزيز بعد أن كان مدمناً على الكحول والمخدرات. أما أُم عبد العزيز ماري أنوكا “مريم” فهي سعيدة جداً بالتغيرات التي طرأت على ابنها وهي تعتقد بأن مكانه سيكون في الجنة إن شاء الله. لا يخرج حديث أصدقائه وأصهاره الثلاثة عن حالة الإحساس بالأمان والمصالحة مع الذات بعد إسلامهم فقد كانوا يشعرون بالتوتر والانفعال قبل ذلك، لكنهم ما إن أسلموا حتى هدأت نفوسهم وأصبحوا عائلة منسجمة متحابّة. لم تأخذ العائلة النيوزيلندية الثانية حقها في التعبير عن مشاعرها فقد اكتفى إيغل برونر “نور”، مخرج الأفلام، بأنه أراد أن يمارس ديانته بجدية وشعر أن يريد أن يكون مثل المسلمين المخلصين لديانتهم، وهو يعتقد أن هذا هو ما دفعه لاعتناق الإسلام. أما أمه روزا بيار فقد شعرت بالسعادة لأنه تخلى عن شرب الخمر، فالعائلة برمتها لا تحبّذ الكحول كثيراً ولا تشربه.

المعادل الموضوعي
إن ما يوازي شخصية عبد العزيز في آيسلندا أو في الطرف الآخر من الكرة الأرضية هو أوليفر هالدرسون “محمد علي” التاجر الآيسلندي الذي هداه الله للإسلام قبل عشرين سنة حينما كان خارج آيسلندا. ثمة جُمل لافتة للانتباه تفوّه بها محمد علي أهمها: “كنت أبحر بحياتي نحو الجحيم. لم أفهم معنى الحياة إلاّ بعد أن اعتنقت الإسلام. كانت حياتي تعيسة ولم أكن أعي مطلقاً ماذا أفعل. وكبحّار آيسلندي فقد كانت لغتي مترديّة جداً، ولم أكن أحترم النساء”. كما أنه كان يتناول كل ما يُقدم له من طعام وشراب من دون أن يسأل عن الحلال والحرام. باختصار كان يعيش حياته من دون تفكير. أما رأيه بالمسلم فقد كان غريباً وجارحاً جداً، وسأقتبس قوله على مضض: “المسلم بالنسبة لي هو ذلك الشخص القذر ذو اللحية واللباس الفضاض والخنجر، شخص غليظ وغير نزيه” ثم يصل إلى خلاصة مفادها “أنه ليس إنساناً تقريباً”! لكنه يعود ليصصح هذه الصورة النمطية الظالمة ويقول بأن “صورة المسلم الآن هي أفضل مما كانت عليه قبل أربعين عاماً على الرغم من أحداث 11 سبتمبر. يُورد محمد علي مفارقة دخوله إلى محل لشراء أشرطة القرآن الكريم فسأله البائع إن كان مسلماً أم لا؟ فردّ عليه: كلا، ولكن أمي مسلمة. ثم سأله إن كان يؤمن بالملائكة والكتب المقدسة؟ فقال له: نعم. فردّ عليه البائع: إنك مسلم من دون أن تدري! ثم طلب منه أن ينطق بالشهادة. لقد شعر محمد بأن الله سبحانه وتعالى قد فتح قلبه! فداعبه شقيقه قائلاً: إنك شخص غريب الأطوار، لقد ذهبت لشراء قلم فعدت مسلماً! يعتقد محمد علي أن حياته كمسلم تعمّها البرَكة وأن في الإسلام مجال واسع للأبعاد الروحية والجمالية والإنسانية أكبر مما يتصوره كثير من المسلمين. أما زوجته لبنى هالدرسون، باكستانية الأصل فهي لم تقل شيئاً ربما لضعف لغتها الإنكليزية لكنها قدّمت خلاصة رأيها بأنها استطاعت أن تتأقلم في آيسلندا لأن زوجها مسلم وتعيش وسط أسرة إسلامية لذلك فهي لا تشعر باختلاف كبير عن الباكستان. تمحورت مشاركة رجلا الدين سلمان التميمي ومحمد زوّادة والآيسلندي سفار رلزون “إبراهيم”، كبير الباحثين في شركة “365” العملاقة على الفتاوى التي صدرت من الأزهر ومكة المكرمة وبقية الفتاوى الأخر. وجواباً على استفسار إبراهيم فقد جاء الرد الآتي من لجنة الفتوى بالأزهر في 24 أبريل 1983 مفاده: “منْ يعيش في مثل هذه البلاد التي يطول فيها النها طولاً بعيداً لا يُستطاع معه الصيام طوال النهار عليه أن يبدأ الصيام من أول طلوع الفجر في البلد الذي يعيش فيه ويستمر صيامه ساعات تساوي الساعات التي يصومها من يعيش في مكة المكرمة” لتضع حداً للجدل الذي كان قائماً بشأن طول ساعات النهار التي قد تبلغ “23” في شهري يونيو ويوليو في آيسلندا.
لا شك في أن الأفكار التي وردت على لسان الشخصيات الرئيسة كانت مهمة بمكان في رسم صورة المسلم الجديدة في طرفي الكرة الأرضية، غير أن لمسات المخرج فتحي الجوادي وبقية المشتغلين على هذه الفكرة قد أضفت سماتٍ جماليةً رفعت الفلم إلى مستوى الوثيقة التي لا تبحث في الشأن الديني حسب، وإنما في الشأن التراثي والثقافي والديني للشخصية الماورية التي تعيش في نيوزيلندا على وجه التحديد. كما يتتبع الفلم التواجد الإسلامي في آيسلندا منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر.