“اصطفاف وثائقي” لإستعادة عدالة مفقودة

“نساء وجنرالات”.. السجل الأسود لتاريخ القمع الاندونيسي


قيس قاسم
“اصطفاف وثائقي”.. هكذا يمكن توصيف موجة الأفلام الجديدة، التي حاولت مراجعة تاريخ القمع السياسي في جنوب شرق آسيا، وقراءته وفق منهج سينمائي استقصائي حاول أصحابها استعادة بعض العدالة المفقودة لضحايا العسف، وفضحهم ديكتاتوريات عسكرية موغلة في همجيتها، سُكت عنها طويلاً وحانت لحظة فضحها، بوثائقيات بدت وكأنها اتفقت على تحديد زمن انجازها أو تقاربت مواعيدها الى حد بعيد، فلاحظنا ظهور عدد مهم منها، وقفت كلها تقريباً صف واحد وامتازت بجودة مستوياتها، بل قد يُصنف بعضها؛ من بين، أفضل الأفلام الوثائقية المنتجة خلال الربع القرن الآخير من بينها: “فعل القتل” لجوشوا اوبنهايمر، الحاصل على جائزة الجمهور في دورة مهرجان برلين الأخيرة وفيلم “الصورة المفقودة” لريتي بان الفائز بجائزة “نظرة ما” في دورة مهرجان كانّ الآخير (راجع ما كتبناه على نفس الويب) ووثائقي مارك وايس “المعسكر 14 ـ منطقة كاملة السيطرة” وفيلم المخرجة السويدية ماي فيكسلمان “نساء وجنرالات”، الذي راجعت فيه مثل “فعل القتل” السنوات السوّد من تاريخ اندونيسيا المعاصر والمجازر التي أرتكبت خلال الأعوام (1965 ـ 1968)، مركزة من ناحيتها على المذابح التي ارتكبها الديكتاتور سوهارتو ضد النساء المنضويات الى منظمة “غيرواني” عبر مقابلتها مع بعض الناجيات منهن من تلك المجازر واستماعها لحقيقة ما جرى لهن وللملايين من أبناء وطنهن، من بشاعات مروعة، في حقبة تاريخية صمت العالم “المتمدن” فيها على كل جرائم الابادة البشرية، من أجل عيون ديكتاتور واحد أرادوا من خلاله المجيء بسلطة موالية لهم في منطقة جد حيوية لمصالحهم، وبأي ثمن!

بيت المُسنيّن
في بيت المُسنيّن الواقع في شارع خلفي من مركز العاصمة جاكارتا كتبت المخرج ماي فيكسلمان قصة لم تحكى من قبل عن دماء نساء أسالها الانقلابيون العسكريون بغزارة وعن أفعال قتل جماعي لم يرد لها أن تُعرف طيلة خمسين عاماً. في ذلك البيت المتواضع سكنت نساء مسنات، حكم عليهن من قبل بأحكام ثقيلة وبعضهن تخلص من الموت بإعجوبة. جلسن قبالة الكاميرا غير مُصدقات إن أحداً من العالم الخارجي يأتي اليهن ويسمع تفاصيل الرعب الذي تعرضن له على أيدي شرطة وعسكر سوهارتو في عام 1965. قصة كل واحدة منهن تُشيب الشعر وتبعث في النفس الألم لا لغرابتها وقسوتها، فحسب، بل لطريقة سردها، العفوية الصادقة المُخبئة تحت سطحها قهر فضيع وإذلال شنيع، لملمتها فيكسلمان واختصرتها في شريط حمل عنوان مؤثر مستوحى من القصة الرئيسية التي نسجتها المخيلة التآمرية للعسكر ليبرروا حملتهم الانقلابية بكذبة عناصرها المفبركة كانت: نساء مجرمات من منظمة “غيرواني” وضحاياهن جنرالات من المؤسسة العسكرية!. كذبة روجتها أجهزة دعاية سوهارتو ادعت فيها إن ستة نساء  قمن بإغواء جنرالات من الجيش، وجروهم بعيداً ليذبحوهم غدراً بأمواس حادة. ليصدق الناس كذبتهم ويبرروا حملتهم ضد أكبر منظمة نسوية في اندونيسيا انتجوا فيلماً وثائقياً ملفقاً في إحدى شركات الانتاج السينمائي في هوليوود طوله ثلاث ساعات قاموا بعرضه على طلاب المدارس ليكسبوا عطف الناس على ما كانوا يُبيتونه من خطة لإبادة أكثر من مليون شخص اتهموهم بالانتماء الى الحزب الشيوعي الاندونيسي لكي يتخلصوا بهذا الادعاء على كل ما يعيق سيطرتهم الكاملة على السلطة المنتزعة من الرئيس الأسبق سوكارنو.

غيرواني
حديث المُسنات/ الضحايا عن منظمة “غيرواني” جر الوثائقي للعودة الى تاريخ البلاد السياسي لمعرفة أسباب الكراهية التي يكنها الجنرالات لهذة المنظمة وللمنتميات اليها. ولإعطاء صورة كاملة عن المتغيرات الاجتماعية التي جعلت منها واحدة من أكثر منظمات المجتمع المدني تأثيراً وشعبية التقت مجموعة من الباحثين الاجتماعيين المختصين في الشأن الاندونيسي من بينهم البروفسور في علم الانثروبولوجي في جامعة أمستردام ساسيكا فيرينغا الذي شرح الآثار المدمرة لتحطيم المنظمة النسوية بوصفها رابطة لعبت دوراً تربوياً وتثقيفياً ما كانت الدولة قادرة على لعبه ولهذا فالخسارة حسب رأيه ليست محصورة بعدد الضحايا والتأثيرات النفسية المدمرة للمجتمع ككل بل في تعطل الحياة المدنية نفسها فبعد مجازر سوهارتو اختفى جيل كامل من المعلمين فأغلقت المدارس بعد ان تعذر تقديم المحاضرات فيها، كما تُرك جيل كامل بدون معيل، عاش طفولة يتيمة محروماً من حنان الأمومة بسبب اعتقال الكثير من الأمهات الأعضاء في المنظمة الى جانب الدمار النفسي الذي ترك أثره على نفوس الناس وهم يشاهدون الجثث تعوم في الأنهر وفي الأحراش مرمية  والسجون ممتلئة بالرجال والنساء. لقد غَيَّر مقتل أكثر من مليون انسان التركيبة النفسية والاجتماعية لأندونيسيا بالكامل.

المخرجة ماي فيكسلمان

الإرث الاستعماري
على المستوى التاريخي الاجتماعي يعود  الوثائقي الى الإرث الاستعماري الهولندي الممتد لقرون ودوره في رسم ملامح البلاد وصولاً الى قوته السياسية في ثلاثينات القرن الماضي حين أحكمت شركة “الهند الشرقية” سيطرتها على كافة مجالات وفروع الاقتصاد في البلاد وتحكمت بالنشاط السياسي بعد أن منعت حق التنظيم الحزبي وراقبت الصحف، إلا ان حراكاً شعبياً ظهر خلال الأربعينات وبالتحديد بعد سيطرة اليابانيين على أقسام من البلاد التي دمروها، واستمر حتى بعد خروجهم ومجيء الهولنديين ثانية اليها، لعبت فيه النساء دوراً كبيراً بعد مقتل الكثير من الرجال. في عام 1949 عُين سوكارنو رئيساً للبلاد وفي عهده اشتد عود منظمة “غيرواني”  حتى وصل عدد النساء المنتيات اليها في الستينيات حوالي مليون امرأة، لعبن دوراً طليعياً في تَقَدم المجتمع الاندونيسي على المستوى الثقافي والاجتماعي والتعليمي. لقد اقترنت نجاحاتها بالحركة اليسارية وبالحزب الشيوعي تحديداً لهذا لم يرض سوكارنو على توسعها فوقف مع منظمة “نهضة العلماء” التي تهتدي بأفكار هتلر كما أعلن قائدها في أحد الوثائق النادرة اعتراضه على هدف الشيوعيين في توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين وأخذها من الأغنياء وهذا ما اعترض عليه أيضاً الغرب وبشكل خاص الولايات المتحدة الأمريكية التي اتهمت الرئيس سوكارنو بتقربه من اليساريين، لهذا تحالفوا مع المعارضين له ودعموهم بالسلاح بل شاركوا في هجمات بالطيران على قصره كُشفت تفاصيلها بعد أن أسقط الجيش احدى الطائرات وظهر أن طيارها أمريكي يدعى ألن بوب. لخوفه وبدلاً من الرهان على الحركات الجماهيرية قام سوكارنو بإلغاء البرلمان وكرس سياسية دكتاتورية جلبت له أعداءاً كثر ُمن بينهم جنرالات في الجيش أبرزهم كان سوهارتو، الداهية الطموح الذي سيطر على مقاليد السلطة في انقلاب عسكري تدريجي، بدأ بتلفيقه قصة مقتل الجنرالات وقيامه بعدها بحملة ابادة جماعية لم تشهد البلاد مثلها من قبل. فبحجة القضاء على “الروح الشريرة” ويقصد به اليساريين ارتكب مجازر مخيفة، الغريب فيها ان العالم لم يقف ضدها ولم يدنها، بل قُدَم سوهارتو عكس حقيقته كرجل ليبرالي منفتح زاره منذ توليه الحكم عام 1967، رؤساء دول من بينهم أمريكان مثل: ريتشارد نيكسون، فورد، كلينتون ورئيسة وزراء بريطانيا ثاتشر والأمير تشارلز، مع العلم ان أسوء وضع اقتصادي عاشته البلاد كان في فترة حكمه فمعدل الراتب  اليومي لقطاع كبير من  العمال لم يتجاوز دولاراً واحداً في حين كانت زوجته  تحصل على نسبة 10 % من كل المشاريع الرأسمالية المقامة في البلاد، الى جانب انعدام الحريات والممارسات اللاانسانية ضد معارضيه، وبشكل خاص ضد النساء المنتسبات الى منظمة “غيرواني” فحتى بعد اطلاق سراح بعضهن اجبرن على العيش في أكواخ بائسة وتحت رقابة مستمرة، وهذا سيدفع الوثائقي للذهاب الى حرم الجامعات الاندونيسية لمعرفة الكيفية التي كتب فيها تاريخ هذا الرجل وكيف ينظر اليه اليوم.

تاريخ جديد
 يعترف أحد اساتذة الجامعة الشباب ان طلاب الجامعات الاندونيسية لم يعرفوا جيداً التاريخ الشخصي لرئيسهم سوهارتو لأنهم لم يدرسوه في مدارسهم، فما يتعلمونه له علاقة مباشرة بتاريخ شعبهم لا بالمجازر والقتل الجماعي، لكن ثمة أكاديميون قرروا كسر الصمت وبدأوا بفضح ما وراء الواجهة الرسمية للتاريخ منهم جيرواني سيجينا الذي كتب “الخطر الشيوعي في اندونيسيا” الصادر عام 1992 وفيه اشارات الى الاعمال القمعية لسلطة سوهارتو. بعد الجامعة يعود الوثائقي الى السنوات الأخيرة من حكمه وكيف دفعت الأزمة الاقتصادية الناس الى المطالبة بإسقاطه عام 1998 وظهور “صوت الأمهات” مجدداً كإمتداد لصوت المنظمات النسوية القديمة التي دفعت المنتميات اليها ثمناً باهضاً عرضه الوثائقي السويدي بعد مرور نصف قرن، ليساهم ولو بشكل بسيط في اعادة بعض الاعتبار الى الضحايا الأبرياء.


إعلان